ميشال شيحا الرؤيويّ أب الفكرة اللبنانيّة

من العسير اختصار أو وصف ميّزات ميشال شيحا (1891- 1954) المولود في بلدة بمكين (قضاء عاليه) بـ: الصحافيّ والسياسيّ والمصرفيّ والمفكّر العقائديّ الليبراليّ، والمتفلسف والشاعر، حامل ألقاب كثيرة: فهو أحد واضعي الدستور اللبنانيّ في العام 1926، الذي نصّ في مادّته الأولى على أنّ “لبنان وطنٌ سيّد حر ٌّمستقلّ، وطن نهائيّ لجميع أبنائه، واحدٌ أرضًا وشعبًا ومؤسّسات، في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دوليًّا”.

ومن ثمّ كان أحد منظّري الكيان والمدافع عن وجوده وأحد بناة الدولة اللبنانيّة، وقيل عنه إنّه أب الفكرة اللبنانيّة (Le libanisme).  وصفه فوّاز طرابلسي بأنّه “ظاهرة في الفكر اللبنانيّ”، وكتب عنه الدكتور نبيل خليفة مثابة “أوّل أنبياء لبنان وآخر أنبياء فلسطين” (2013)، وبأنّه باني لبنان المعاصر.

انشغل هذا الرؤيويّ بالقضايا الكبرى بأبعادها الجيوسياسيّة، ولا سيّما بقضيّتيّ العصر: لبنان وفلسطين، وهو ما يجعله راهنًا. وقد جمع شيحا “العقل والحدس والخيال والمنطق والحسّ السليم، فكان المفكّر الذي يرى صحيحًا ويرى بعيدًا، وهي رؤية تخطّى بها عصره، وعمل لدولة لبنان كي تحيا ولدولة فلسطين كي لا تموت”، في زعم الدكتور خليفة.

ميشال شيحا متحدثًا في إحدى الندوات
حضور لبنان

في محاضرة له في “الندوة اللبنانيّة” تحت عنوان “حضور لبنان” في الـ 29 من تشرين الأوّل (أكتوبر) العام 1953، رسم شيحا ملامح شخصيّة بلاده، فرآها تتجلّى في بحر مترام مفتوح على الآفاق وفي جبل حصين مثابة ملاذ: “أن نظهر البحر والجبل متّحدين كان ذلك من الأنسب. أفلسنا نرى الجبل اللبنانيّ، في مدى مئتي كيلومتر، يهبط البحر بين حين وحين، وفي البحر يغتسل؟”. وقدّر أن حضور لبنان “وقفًا على ما يميّز، وليس على ما يختلط”، وعلى رغم صغر مساحة البلد، إلّا أنّ شيحا رأى له قدرًا كبيرًا في العالم، شرط “أن يدرك قبل كلّ شيء ماهيّة دعوته، أن ينمّي مؤهّلاته، وأن ينهج سبيله”.

وما يتمتّع به اللبنانيّ من مغامرة وحبّ للإغتراب والسفر والتجارة والمبادلات إنّما هو، في عرفه، استجابة عاديّة للطبيعة، فالحياة الخشنة تطبع الشعب بطابع حاسم. ودعا شيحا المشرّع اللبنانيّ إلى أن يضع في حسبانه عاملًا أساسًا ومتأصّلًا هو النشاط اللبنانيّ في الخارج ومع الخارج، ويعتبره سرّ ازدهار لبنان عبر عشرات القرون. ويقتبس قولًا لأحد الشعراء في أقاصي المعمور كانت لصور موارد رزقها”. وفي خضمّ الصراع المادّيّ من أجل لقمة العيش حيثما وجد اللبنانيّ إلى ذلك سبيلًا لم يغب الصراع في سبيل الروح، فكان اختلاط الزمنيّات بالروحانيّات.

دعا شيحا المشرّع اللبنانيّ إلى أن يضع في حسبانه عاملًا أساسًا ومتأصّلًا هو النشاط اللبنانيّ في الخارج ومع الخارج، ويعتبره سرّ ازدهار لبنان عبر عشرات القرون

الفكرة المتوسّطيّة

دافع شيحا عن الفكرة المتوسّطيّة، فاتّبع مذهب الشاعر الفرنسيّ بّول فاليري (1871- 1945) الراغب في وضع كلّ الساحل المتوسّطيّ ضمن أوروبّا، ليعلن الحاجة إلى تجديد الصداقات بين شعوبه، وإعادة بعث الأنسيّة والإنسانيّ فيه. فالمتوسّط شهد، بالنسبة إلى شيحا، أوّل إبحار وأوّل دفع لقارب، وقد جعلت منه عدّة حوادث جيولوجيّة ما هو عليه، أيّ بحرًا داخليًّا، وعلى نحو ما مُغلق.

وهو منسجم مع نفسه، تدور حوله حياة داخليّة، ويبدو في نظر المؤرّخ “البحر المختار”، تحدوه العناية الإلهيّة، ويبدو ضروريًّا في مسيرة الخلق. وخلال عقود كان بحرًا لإمبراطوريّة واحدة، جعلت سكّان ضفافه يشعرون بجوّ من القرابة. وعنده أنّ المتوسّطيّين الحقيقيّين هم من يستحسنون هذا البحر وما يُمثّله: النسمات أو رياح عرض البحر، ألوان الماء والسماء وماضي الجزر، والصيد الصباحيّ أو الليليّ، الطحالب والتوتياء، وغروب الشمس الجميل. والمتوسّطيّ بطبعه باني سفن ورجل الرحلات البحريّة الخطرة.

المتوسّط في رأي شيحا

ويستند إلى ما يُسمّيه “الوضع الطبيعيّ” للبشر، فأمام ما هو مصطنع، توجد شهادة الطبيعة نفسها، فحول المتوسّط نجد أنّ المناخ نفسه والقوى الخفيّة نفسها وثمار الأرض نفسها، تصنع طبيعيًّا الرجال أنفسهم. يعود المتوسّط، في رأي شيحا، إلى كلّ أبنائه، فهو صلة التناغم بين كلّ الأفكار السابحة فيه. إنّه البحر الداخليّ للآداب والفنون، للشعر والموسيقى. وبخلاف أيّ بحر آخر، يتعالى على الأحكام المسبقة والعنف، إنّه علامة توازن وأخوّة. ولتبنّي الفكرة المتوسّطيّة آثار يقرؤها شيحا في الجغرافيا السياسيّة التي تفرض وجهة دون غيرها، إذ إنّ شكل ومحيط القارات والبحر يلزم عنها سياسة بعينها.

عاين شيحا اضطراب العالم في الأربعينيّات والخمسينيّات من القرن العشرين الماضي، المحكوم من قوى تتعارض مصالحها وأهواؤها، ولبنان، البلد الصغير البحريّ والجبليّ، يقع تقريبًا في قلب المنطقة حيث تحدث المعمعة. وهو أكثر من أيّ أمّة مهدّد باضطراب الفكر، ولا يستطيع أن يُحدّد مصيره إلّا بانضباط أخلاقيّ وسياسيّ مُدرك ومقبول من الكلّ.

وإذ يدعو شيحا اللبنانيّين إلى التعقّل والبعد عن المبالغات، يعتبر أنّ التطرّف يولّد التطرّف، كما أنّ الشرّ يصدر عن الشرّ والعنف يصدر عن العنف. فنحن، في عرف شيحا، وجيراننا القريبون وجيران جيراننا، في حاجة إلى علاج آخر. وواجبنا الطبيعيّ أن نقدّر وأن نخفّف من حدّة المصاعب، بدلًا من تغذية ضغائننا وخلافاتنا. ولا يني شيحا عن المطالبة بسياسة على مستوى العالم، ويرى أنّ الحركة التي تقوم بها الحضارات لخلاصها ستجرّ معها المتوسّط والشرق الأوسط (تحوّلات على المتوسّط، 2012).

المسألة الفلسطينيّة

ينبّهنا المفكّر اللبنانيّ فوّاز طرابلسي إلى أنّه يجب التعامل مع كتابات شيحا حول فلسطين بحذر، وهو من خصّه بكتاب “صلات بلا وصل: ميشال شيحا والإيديولوجيا اللبنانيّة (1999)، ويقول إنّ نصوصه خضعت لاجتزاء وحذف “غير بريء”، والقراءة الصحيحة لها تكون بحسب فهمه لعلاقة مثّلثة الأطراف: الدول العربيّة والغرب و”إسرائيل”، ممّا يسمح بموضعة كتاباته، وهي غزيرة، وإدراك تمثيلها لـ”النظرة العربيّة السائدة” إلى المسألة الفلسطينيّة.

وقد تميّز شيحا في مواقفه عن التيّار المسيحيّ اللبنانيّ الذي مثّلته “المجموعة الفينيقيّة”، أيّ أنصار “الوطن القوميّ المسيحيّ”، المشروع المماثل لـ”الوطن القوميّ اليهوديّ”، بفهمه لطبيعة المشروع الصهيونيّ “المنافس”، وخطره على دور لبنان الاقتصاديّ في المنطقة، وتهديده لوجود لبنان ذاته. ويُفسّر طرابلسي موقف شيحا باعتبار المسألة الطبقيّة، فهو يدافع عن مصالح البورجوازيّة التجاريّة – الماليّة اللبنانيّة.

ينبّهنا المفكّر اللبنانيّ فوّاز طرابلسي إلى أنّه يجب التعامل مع كتابات شيحا حول فلسطين بحذر، وهو من خصّه بكتاب “صلات بلا وصل: ميشال شيحا والإيديولوجيا اللبنانيّة (1999)، ويقول إنّ نصوصه خضعت لاجتزاء وحذف “غير بريء”،

لذا بدأ منظّر الكيان اللبنانيّ منذ العام 1945 يبدي خوفه من خطر المشروع الصهيونيّ، وهو في خلطه بين الصهيونيّة واليهود، إذ رأى أنّهم لن يكتفوا بفلسطين وطنًا قوميًّا، “فاليهود لن يرتضوا أقلّ من كوكبنا الأرضيّ وطنًا قوميًّا لهم”. لذا، عارض قرار تقسيم فلسطين: “إنّ قرار تقسيم فلسطين مع إنشاء دولة يهوديّة سيثبت أنّه أسوأ خطأ عالميّ تمّ ارتكابه على الإطلاق.

إنّ ما يبدو كأنّه عمل صغير ستكون له عواقب غير متوقعّة، وليس من المبالغة القول إنّ هذه القضيّة الصغيرة ستهزّ العالم حتّى جوهره…”، ودافع عن المقاومة العربيّة.

وعند إعلان قيام “إسرائيل”، عدّ الولايات المتّحدة الأمّ الفعليّة للمولود الجديد ولكن، وفي ظلّ الاستقطاب الحادّ آنذاك بين المعسكرين الشيوعيّ والرأسماليّ، اعتبر شيحا الخطر الشيوعيّ هو الداهم، فنظّر للمتوسّطيّة و”الدفاع المشترك عن المتوسّط غير القابل للتجزئة” (كتاب فلسطين، 1953، الترجمة العربيّة 2004). لا جدال في أهمّيّة شيحا وريادته، لكنّه يحتاج إلى قراءة هادئة وباردة بعيدًا من الأهواء الفكرويّة والأحكام المسبقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى