“ناحية تبنين” قبل أكثر من 400 عام.. هل سبقت الثورة الصناعيّة الأوروبّيّة؟

إلى جانب زراعة كثيفة ومتطورة، هل عرفت بعض قرى ناحية تبنين بني بشارة نهضة صناعية سبقت بها الثورة الصناعية الأوروبية الأولى بأكثر من 150 سنة؟

تعتبر ناحية تبنين بني بشارة من أكبر نواحي لواء صفد للعام 1596م، وفقًا لدفتر طابو تحريري العثماني رقم (tt686). وذلك لأنّها كانت تضمّ نحو 76 قرية، و314 مزرعة، ما عدا قطع الأرض المستقلة، وبعض الحصص في مزراع وقرى النواحي المجاورة لها، بينما تليها في عدد القرى والمزارع ناحية جيره (54 قرية و60 مزرعة)، ثمّ عكا (23 قرية و73 مزرعة)، وطبريّه (13 قريه و65 مزرعة)، وناحية شقيف (13 قرية و59 مزرعة).

وفي القرن العشرين توزّعت قرى ومزارع تبنين بني بشارة العثمانيّة، على خمسة أقضية هي: صيدا وصور وبنت جبيل ومرجعيون وجزّين، بالإضافة إلى بعض القرى والمزارع التي ألحقت بفلسطين كقدس ومنصورة وغيرهما. في حين بقيت بعض النواحي بعدما تحوّلت إلى أقضية، محتفظة بكياناتها الجغرافيّة مع بعض التعديلات الطفيفة، إذ حصلت لمقتضيات انتخابيّة أو مذهبيّة تخدم ذلك الزعيم أو تلك الطائفة أو العائلة.

ناحية تبنين بني بشارة وعدد سكانها

بلغ مجموع ذكور القرى المحصيّة البالغين في دفتر (tt686)، نحو 3413 ذكراً بالغاً، منهم 2367 متزوّجاً (69.35%)، و1.035 عازباً (30.32%)، و11 رجل دين (0.32%؛ 3 أئمة و5 مؤذّنين في كونين و3 خطباء في كلّ من البازورية وغويّا والخيام)، ومنهم 53 مسيحيّاً في قرية ياروة النصارى (23 متزوجاً، أي خانه، و20 عازباً، أي مجرداً).

الملفت في ناحية تبنين بني بشارة هو شبه غياب لرجال الدين، إلا قلة قليلة، باستثناء بلدة كونين التي سجّلت الدفاتر كثرة أعداد الأئمة والمؤذنين فيها (8). وفي حين لا تفسر تلك الدفاتر أرقام ذلك، فإنه من المحتمل لجوء هذا العدد من أبناء البلدة لاختيار ذلك، هو إعفاء السلطنة العثمانية لرجال الدين من الضرائب، وأيضاً توزّع هذا العدد على قرى عدة وممارسة وظيفتهم الدينية فيها لخلو تلك القرى من الأئمة أو المؤذنين.

أمّا كيف توزّع الذكور على القرى المسجّلة على الدفتر (tt686) العثمانيّ، فكان كالآتي، من الأكبر عدداً إلى الأصغر: بنت جبيل 245 نفراً (153خ+92م)، {الخاء (خ) هي اختصار لكلمة خانه، أي الأسرة أو الذكر المتزوّج ربّ الأسرة. والميم (م) اختصار لمجرد، أيّ الشخص العازب}، وتبنين 225 نفراً (150خ+55م)، ودير بسطة (بطه) 148 نفراً (111خ+ 37م)، وخيام عبس 139 نفراً (139خ+30م+ خطيب واحد)، عين آية 130 نفراً (68خ+62)، عيترون121 نفراً (91خ+30م)، وحاريص 118 نفراً (93خ+25م)، وبص 110 أنفار (86خ+24م) ومعركة 106 أنفار (66خ+40م)، ياروة النصارى 102 نفراً (67خ+35م)، وجوية (جويا) 102 نفراً (74خ +28م)، ومارون الراس 100 نفراً (75خ+25م)، وحداثا 92 نفراً (73خ+19م)، وكونين 77 نفراً (45خ+ 25م+ 2إمام+5 مؤذنين)، ومجادل 77 نفراً (47خ+ 30م)، وصور المعشوقة 75 نفراً (53خ+22م).

شحور 70 نفراً (50خ+20م)، ومزرعة 65 نفراً (24خ+21م)، وقانا 62 نفراً (38خ+24م)، وميس(الجبل) 61 نفراً (46خ+15م)، وشقرا 60 نفراً (42خ+18م)، وصوراته 60 نفراً (42خ+18م)، وبلاط 58 نفراً (41خ+17م)، ومالكية 57 نفراً (39خ+18م)، وبليده 55 نفراً (39خ+16م)، وبرعيت (برعشيت) 55 نفراً (43خ+11م+ إمام واحد)، قدس/فدس 54 نفراً (42خ+12م)، وشعيطية 52 نفراً (32خ+20م)، ومجدل سلم 51 نفراً (31خ+20م)، ودبين 45 نفراً (33خ+12م)، وإفريط 44 نفراً (36خ+8م)، وقصوبا 42 نفراً (27خ+15م)، ومارون الثقايا 42 نفراً (42خ+24م)، وطيرة حداثا 42 نفراً (42خ+22م)، وغويا 40 نفراً (30خ+9م+خطيب)، وصدّيقين 40 نفراً (30خ+10م)، وطيرفلست 34 نفراً (29خ+15م)، وتلفليتا 32 نفراً (24خ+8م)، وعكبره الغربية 32 نفراً (24خ+8م)، وحانين 31 نفراً (25خ+6م)، وشحين 30 نفراً (20خ+10م).

عيتا الغجر 30 نفراً (20خ+10م)، وأطمرا 30 نفراً (23خ+7م)، وصلحا 28 نفراً (21خ+7م)، كفرسيغه 25 نفراً (18خ+7م)، والبازوريه 24 نفراً (18خ+5م+ خطيب)، وشمع 22 نفراً (14خ+8م)، ومجدل ميس 15 نفراً (10خ+5م)، وصفد البطيخ 14 نفراً (9خ+5م)، وكفرتبنيت 10 أنفار (7خ+3م)، وحنين/ جبين 10 أنفار (6خ+4م)، وأرنون/ أرمون 9 أنفار (5خ+4م)، وطنطه آيه 6 أنفار (4خ+2م)، وصواني 5 ذكور متزوجين، وأيضاً برج رشمون 4 خانات فقط. أمّا القرى التي لم تسجّل في الدفتر بالتفصيل، بينما تمّ تسجيل حاصلها في الجردة أو فهرس القرى والمزارع، فهي: إبل القمح وأصرفيه (صريفا) وذبقين وشنّا وصروح التحتا وراميه وطيرزبنا ودبرنيه وكفركولا (كفركلا) وكفرنيت وعمران ومنصورة، ودبل، وطرشيحا وسادني وجديده (جديدة مرجعيون) ويارين السحر ودبنيه (دبليه) ودير سريان وفزاريه.

وهكذا يكون عدد سكّان ناحية تبنين بني بشارة المحصيّين الإجماليّ نحو 17065 نسمة، وذلك بضرب عدد الذكور الإجماليّ بخمسة، لتكون هذه الناحية كثيرة السكّان بالرغم من وجود عدد كبير من المزارع المنتجة ولكنها غير مأهولة.

تعتبر ناحية تبنين بني بشارة من أكبر نواحي لواء صفد للعام 1596م، وفقًا لدفتر طابو تحريري العثماني رقم ( tt686). وذلك لأنّها كانت تضمّ نحو 76 قرية، و314 مزرعة، ما عدا قطع الأرض المستقلة، وبعض الحصص في مزراع وقرى النواحي المجاورة لها

اقتصاديات ناحية تبنين بني بشارة
نموذج عن إنتاج بنت جبيل

إنّ اتّساع هذه الناحية وكثرة المنبسطات الخصبة فيها، جعل أراضيها متنوّعة المزروعات الشجريّة الموسميّة والصيفيّة، وجعل وديانها ومزارعها مراعيَ ملائمة لتربية الماعز والنحل بكثرة. وخير دليل على وفرة إنتاجها، أنّ السلطنة العثمانيّة المركزيّة، المتمثّلة بالولاة، وأمير لواء صفد، وبعض الزعامات، والتيمارجيّة، كانت تجبي عائدات الرسوم والضرائب الزراعيّة والصناعيّة، بمقدار 1149262 أقجة (مليون ومئة وتسعة وأربعون ألفاً ومايتان وإثنان وستون أقجة)، وهذه القيمة كانت بإمكانها أن تشتري آنذاك نحو 7662 غرارة من القمح، أي 551664 مداً (9930 طناً)، باعتبار أنّ ثمن غرارة القمح، كان في هذه الناحية في العام 1596، نحو 150 أقجة، وكلّ غرارة تساوي 72 مدّاً، وكلّ شخص كان يحتاج إلى 10 أمداد كمعدّل وسطيّ، لتأمين مؤونة غذائه السنويّة من القمح.

وهكذا تكون الضرائب المجبيّة من ناحية تبنين بني بشارة لعام 1596م، تكفي لتأمين القمح كمادّة أساسيّة في الغذاء اليوميّ آنذاك لنحو 55166 نسمة أي لنحو 3.23 أضعاف إجمالي سكّان هذه الناحية في السنة. وكان الحاصل الضريبيّ الأكبر أو الأعلى في قرية صور المعشوقة (35000 أقجة)، يليها بنت جبيل (31060 أقجة)، ثم تبنين (21710 أقجة). أمّا الحاصل الأصغر فكان من قرية شنّا 1700 أقجة وإبل القمح (1710 أقجة). وبالنسبة للمزارع فكان حاصل مزرعة شرقا الأعلى (7000 أقجة)، يليها عين عبراد (عيراد) (6500 أقجة). بينما كان حاصل مزرعة طمره هو الأصغر بـ 80 أقجة.

بنت جبيل كما رسمها المستشرق الهولندي فان دي فيلدي (الصورة مأخوذة من مركز الفقيه العاملي)

أمّا كيف توزّعت هذه الحاصلات الضريبيّة على الإنتاج الزراعيّ وبعض السكّان فكانت كالآتي:

1- إنتاج القمح: لقد بلغت حصّة إدارة السلطنة العثمانيّة المركزيّة في اسطنبول والفرعيّة وزعامات صفد وتيمارجيّتها وأوقافها من إنتاج حنطة ناحية تبنين بني بشارة، ما مقداره 1571 غرارة بسعر 150 أقجة لكل غرارة، أيّ ما قيمته النقديّة نحو 235650 أقجة. فيعني ذلك أن ناحية تبنين بني بشارة كانت تنتج سنويّاً من القمح كمّيّات وفيرة تتراوح بين 10474 و15710غرارة، وبمعدّل وسطيّ 13092 غرارة، أيّ نحو 942624 مدًّا وما يوازي نحو 16967232 كلغ، أو 16967.232 طنّاً (المد وحدة حجم سعته في القمح 18 كلغ، وفي الشعير 15 كلغ كمعدّل وسطيّ).

وهذه الكمّيّة يمكنها أن تؤمّن المؤونة السنويّة بمادّة القمح لنحو 94262 شخصاً، أيّ لنحو 5.5 أضعاف عدد سكّان ناحية تبنين بني بشارة لعام 1596م. وكانت قرية سور المعشوقة (صور) الأكثر إنتاجاً للقمح بحوالي 800 غرارة، أي نحو 1000 طنّ، بحيث كانت حصّة الإدارة من انتاج صور حوالي 100 غرارة كضريبة تعادل 12.5% من الإنتاج الفعليّ كمعدّل وسطيّ.

2- إنتاج الشعير والعدس: بلغت حصّة السلطة العثمانيّة المركزيّة، وأمير لواء صفد وزعامات وتمارجيّة اللواء وأرباب أوقافه نحو 1038 غرارة بقيمة 93420 أقجة (كان سعر الغرارة آنذاك 90 أقجة). وكانت القرية الأكثر إنتاجاً للشعير والعدس بحيث كانت قيمته تُقدّر بنحو 1200 غرارة شعير أيّ نحو 1296 طنّاً.

3- خراج الأشجار: كانت الأراضي الزراعيّة والمشجّرة في ناحية تبنين بني بشارة، أراضٍ خراجيّة مملوكة ملكيّة خاصّة من قبل السكّان وأوقافها. ولقد بلغت قيمة عائدات رسوم وخراج أشجار الزيتون والتوت وبساتين كروم العنب والتين والفاكهة المختلفة في تلك الناحية العام 1596، نحو 125.500 أقجة. وكانت هذه العائدات تُجبى مقابل أقجة واحدة عن كلّ شجرة زيتون إسلامي وأقجتين عن كلّ شجرة زيتون رومانيّ (مع العلم أن إدارة السلطنة كانت تأخذ نصف محصول الزيتون الرومانيّ كحصّة ضريبيّة لها)، وأقجة واحدة على كلّ مئة دالية (شجرة عنب)، وأقجة واحدة على كلّ خمس شجرات من أيّ نوع فاكهة أخرى.

كانت ناحية تبنين بني بشارة تنتج سنويّاً من القمح كمّيّات وفيرة تتراوح بين 10474 و15710غرارة، وبمعدّل وسطيّ 13092 غرارة، أيّ نحو 942624 مدًّا وما يوازي نحو 16967232 كلغ، أو 16967.232 طنّاً

ولكن بسبب عدم تفنيد هذه الرسوم وتصنيفها تفصيليّاً بكلّ نوع من الشجر، إلّا في بعض القرى القليلة للزيتون، سنحاول تقديم صورة للقارئ، عن أهمّيّة وحجم تلك المزروعات الشجريّة المثمرة، في ذلك الزمن العثمانيّ البعيد. فلو اعتبرنا أنّ كلّ الأشجار المزروعة كانت من نوع الزيتون الإسلاميّ، فيكون عندنا آنذاك 125.500 شجرة، أمّا إذا كانت من نوع الزيتون الرومانيّ فيكون عندنا 62.750 شجرة، بينما لو كانت الأشجار كلّها من الكرمة والتين فيكون عددها نحو 1.250.000 شجرة (مليون ومائتان وخمسين ألف شجرة)، وفي حال كانت من أشجار الفاكهة المتنوّعة فيكون عدد الأشجار منها نحو 625.500 شجرة.

فتصوّروا معي كيف كانت أراضي ناحية تبنين بني بشارة المشجّرة تنضح بالإنتاج وتُزرَع بشتّى أنواع الأشجار المثمرة وبالمزروعات الصيفيّة، بما يكفي لأكثر من 5 أضعاف سكّانها في السنة مؤونتهم من القمح والخضار والفاكهة والزيت والزيتون والعنب والدبس ومشتقّات الأجبان والألبان.

لقد كانت قرية تبنين الأكثر ملكيّة لأشجار الزيتون والكرمة والفاكهة بحيث بلغت قيمة رسوم أشجارها 10000 أقجة، يليها قرية دير بسطه (بطه) 9500 أقجة.

ملاحظة: كان الزيتون الرومانيّ أكثر إنتاجاً من الزيتون الإسلاميّ، وهو بعكسه ينتج سنويّاً، لذا كانت إدارة الضرائب العثمانيّة تأخذ نصف الإنتاج السنويّ كرسمٍ عليه.

لوحة لصور رسمها الفنان لويس كاساس فيندن عام 1737

4- رسوم الماعز والنحل: لقد بلغت قيمة حاصلاتها الضريبيّة الإجماليّة نحو 39094 أقجة، بمعدّل أقجة واحدة على كلّ رأسين من الماعز أو الغنم، ومثلها على كلّ قفير نحل (خلية). وهكذا فلو كانت تلك الرسوم كلّها على الماعز لكان عندنا آنذاك نحو 78188 رأساً؛ ولو كانت كلّها رسوم على النحل فكان عندنا نحو 39094 خليّة. وكانت قرية صدّيقين الأكثر ملكيّة للماعز والنحل بحيث بلغت ما تدفعه من رسوم عليهما نحو 5500 أقجة.

5- رسوم الجاموس (الأبقار): لم تعرف ناحية تبنين بني بشارة تربية الأبقار بكمّيّات وفيرة تسمح بدفع الضريبة عنها إلاّ في قرية صور المعشوقة، حيث بلغت قيمة رسومها نحو 400 أقجة بمعدّل أقجتان على كلّ رأس، فيكون عددها 200 رأسٍ. مع العلم أنّ السلطنة العثمانيّة لم تفرض رسوماً على أبقار التربية المنزلية العاملة، أو الحلوبة المخصّص إنتاج حليبها ولحمها للاستهلاك المنزليّ، إلّا في حالات بيعها للقصّابين، من أجل ذبحها وبيع لحمها، فيدفع البائع لها عندئذ أقجتين على كلّ رأس بقر.

6- المعاصر: بلغ عدد المعاصر في العام 1596 في ناحية تبنين بني بشارة نحو 158 معصرة لدبس العنب، وكان رسم كلّ معصرة 12 أقجة. وكانت قرية دير بسطه (بطه) الأكثر امتلاكاً للمعاصر، حيث بلغ عددها عشر معاصر.

7- المطاحن: بلغ عدد أحجارها نحو 65 مطحنة بمعدّل 30 أقجة على كلّ حجر (مع العلم أنّه سجّلت في بعض القرى مطاحن بدون تحديد رسومها أو عددها). ولقد توزّعت تلك المطاحن كما يأتي: 12 مطحنة على نهر قرعون، و8 مطاحن في وادي حِمَيْر، بالإضافة إلى 5 مطاحن في قرية غويا و6 مطاحن في وادي كركر ومطحنة في بعض القرى الصغيرة.

8- دواليب الحرير: لم تعرف هذه الناحية إلاّ 3 دواليب لإنتاج خيوط الحرير في كلّ من تبنين (اثنان)، وواحد فقط في دبّين.

9- رسوم صيد السمك: فرضت السلطة المالية العثمانيّة، آنذاك، رسماً سنويّاً على صيد السمك في كل من بحر قرية صور المعشوقة بقيمة 500 أقجة.

لوحة لمنطقة المعشوق في صور عام 1836

10- رسم المرعى ومشتى الماعز: لأوّل مرّة أقرأ بأنّه كان يُخصّص رسمٌ خاص مستقلّ بهذا الموضوع تحت اسم مشلاق أو ملاق، حيث بلغ مقداره 3061 أقجة. مع العلم أنّ هذا الرسم السنويّ تمّت الإشارة إليه في الحاصل الضريبيّ لمعظم القرى والمزارع مع الخراج المقطوع أو ضمن رسم الماعز والنحل. فكانت قرية شعيطيه (شعيتية) الأكثر رسوماً للمراعي بنحو 600 أقجة يليها معركة 570 أقجة. وهذا دليل آخر على أنّ المراعي والأحراج كانت ملكاً عامّاً لأهالي القرية مجتمعين، أو لإدارة بيت المال بالمفهوم العثمانيّ والإسلاميّ العريض.

11- رسم قطع الحطب وبيعه: بما أنّ الأحراج كانت ملكاً عامّاً تتبع لبيت المال، وفقاً للشرع الإسلاميّ، فلذا كان هناك بيعٌ للحطب لصالح الماليّة العثمانيّة بقيمة 230 أقجة لكلّ قنطار حطب، بحيث كان رطل الحطب، أغلى بكثير من رطل القمح بأضعاف. ففي حين بلغ ثمن رطل القمح في العام 1596، 0.29 أقجة، بلغ ثمن رطل الحطب 2.3 أقجة، يعني أنّه كان بثمن كلّ رطل حطب يمكن شراء 8 أرطال من القمح. ولقد فُرِضت رسوم الحطب على 13 قنطاراً من قرية يعتا، و10 قناطير من قدس، و5 قناطير من كلّ من صور ومعركة، و4 قناطير من قرية برج رشمون.

12 – مال صنع: يسجّل كاتب الدفتر طابو تحريريّ للواء صفد، رسوم على الصناعة تحت إسم “مال صنع” بشكل مستقّل، حيث بلغت قيمة تلك الرسوم الصناعيّة في ناحية تبنين بني بشارة، نحو 5390 أقجة، من مجمل حاصلات الناحية الضريبيّة، وتوزّعت على القرى الآتية: بنت جبيل بمقدار 2300 أقجة، أيّ بنسبة 8% من كامل رسوم القرية الزراعيّة والتجاريّة والصناعيّة، والبازوريّة، 600 أقجة 10.8 %، وصوراته 1200 أقجة 30.78 % من أصل مجمل رسوم حاصلات إنتاجها الزراعيّ والصناعيّ البالغ آنذاك 3900 أقجة، وهي نسبة مرتفعة بالنسبة لقرية صغيرة لم يتجاوز عدد الذكور البالغين فيها آنذاك 60 ذكراً)، وطنطه آيه 300 أقجة 13%، وشيحين (300 أقجة 3.5 %)، وكفرسيغه (450 أقجة 7.5%)، وصوّاني ( 240 أقجة 12.36%، مع العلم أنّ عدد الأسر المقيمة في هذه القرية كان 5 خانات فقط، أيّ 5 ذكور متزوّجين).

وهكذا بالرّغم من أنّ الكاتب لم يحدّد نوع الصنع والصناعة، فيمكن اعتبار ناحية تبنين بني بشارة من النواحي الصناعيّة التي سبقت بفتحها الصناعيّ الثورة الصناعيّة الأولى في أوروبّا بأكثر من 150 سنة، أنّها كانت تشهد صناعة حرفيّة متطوّرة ليس لها علاقة بالمغالق، كالمعاصر والمطاحن ودواليب الحرير أو الأدوات الزراعيّة التقليديّة كالمحراث (الصمد) والنير والمسّاس. وذلك بدليل تخصيص رسوم ضريبية مستقلّة لها عن عائدات الخراج ورسوم الماعز والنحل والأشجار والطواحين والمعاصر.

يمكن اعتبار ناحية تبنين بني بشارة من النواحي الصناعيّة التي سبقت بفتحها الصناعيّ الثورة الصناعيّة الأولى في أوروبّا بأكثر من 150 سنة، حيث كانت تشهد صناعة حرفيّة متطوّرة ليس لها علاقة بالمغالق، كالمعاصر والمطاحن ودواليب الحرير أو الأدوات الزراعيّة التقليديّة للمحراث (الصمد) والنير والمسّاس

13 – مال البازار والتجارة: يظهر من خلال تسجيلات دفتر تحريري طابو عثمانيّ رقم 686، أنّه لم يكن هناك سوق تجارية ذات شأن إلاّ في قرية بنت جبيب (جبيل)، وهو البازار الأسبوعيّ الذي ما زال معتمداً حتّى اليوم، حيث بلغ حاصل رسومه السنويّة نحو 5000 أقجة، كبدل رسم البازار والكيالة والقبّان، أيّ 17% من مجمل عائدات انتاج بنت جبيل الزراعيّ والصناعيّ التي بلغت قيمتها 29060 أقجة.

14 – مال الديموس: أيّ الضريبة العامّة على الأراضي الزراعيّة الصيفيّة والأشجار على أنواعها بدون تفصيلها كما جرى في معظم القرى. وكانت قرية مالكيّة الوحيدة التي تدفع الديموس بمقدار 6000 أقجة من مجموع حاصلها الضريبيّ البالغ آنذاك 15680 أقجة، أيّ بنسبة 38.26%.

15- رسوم العروس ومال البادهوا: بلغت قيمتها المجبيّة نحو 48670 أقجة، وكانت قريتا بنت جبيل والبصّ الأكثر رسوماً لهذه الضريبة بحيث بلغت قيمتها في كلّ منهما 2000 أقجة. وهي ضريبة تُدفع كرسم للزواج بقيمة 60 إقجة على البنت البكر، و40 أقجة على البنت الثيب، والرسوم عن الغائبين وعن الجرائم المرتكبة في كلّ قرية، والمال المتبقّي من سنة إلى أخرى.

أمّا كيف توزّعت هذه العائدات بين القرى والمزارع، فكان حاصل الـ76 قرية الضريبيّ نحو 742081 أقجة (65.44%) وحاصل المزارع نحو 391816 أقجة (34.55%). بينما توزّعت هذه العائدات الضريبيّة بين الخاص شاهي، أيّ السلطان العثمانيّ ممثلاً بالولاة وأمراء الألوية، وأمير لواء صفد وزعامات وتيمارجيّة اللواء وأرباب الأوقاف كما يأتي: كانت حصة الخاص شاهي 480437 أقجة، أيّ ما يشتري أنذاك نحو 3203 غرارة قمح، أو 230616 مدّاً، أو 4151088 كلغ أو 4151 طنّاً. وكان يمكن لهذا المبلغ أن يؤمّن التغذية بالقمح سنوياً لنحو 23062 شخصاً.

صور ومرفأها عام 1854

أمّا حصّة أمير لواء صفد والزعامات والتيمارجيّة فكانت نحو 635948 أقجة، أيّ ما يمكنه شراء نحو 4340 غرارة قمح، أو 305280 مدّاً، أو 5495040 كلغ، أو 5495 طنّاً، وما يقدّم الغذاء بالقمح سنويّاً لنحو 30528 شخصاً. بينما كانت حصّة أرباب الأوقاف النقديّة نحو 79200 أقجة وما يشتري نحو 528 غرارة قمح أو 38016 مدّاً بحيث تكفي هذه الكمّيّة لتغذية نحو 3800 شخص بالقمح سنويّاً.

ومن الأوقاف العامّة التي كانت منتشرة في ناحية تبنين بني بشارة، كان وقف فاطمة خاتون بنت محمّد سلطان بك غوري المملوكيّ في مصر، على مكتبة وجامعة جنين بحيث بلغت عائداته نحو 16900 أقجة؛ ووقف سنان باشا أيضاً في مصر 13400 أقجة، ووقف مستشفى الأمراض النفسيّة (بيمارستان المنصوري) في مصر (15050 أقجة)، ووقف مدرسة سوهن (سوهان) عبدين في مصر (3900 أقجة) بالإضافة إلى أوقاف محلّيّة كوقف محمد هوسقدم ووقف أولاد أبو بكر شريف غاوي، وأولاد شمس الدين عدوي، وبرج سبطية (أبناء) بيروت، وزاوية داود علمي، وزاوية صدر الدين موصلّي، وأولاد سرجون، وجامع جوكندر في محلّة أكراد، وأولاد فرهاد، وأولاد محمّد غوري وعلي بن أصفار، وعلي بن طعان، وغيرها من الأوقاف التي لا يتعدّى دخلها السنوي 80 أقجة.

وما يمكن ملاحظته في وجهة الاستفادة من عائدات الأوقاف أنّ تلك الأوقاف كانت عامّة وصحيحة وكانت بمعظمها موقوفة منذ العهد المملوكيّ إلى جوامع ومدارس ومكتبات ومستشفيات في مصر. فالوقف الصحيح هو الموقوف عينه من أرض مملوكة ملكيّة خاصّة وليس أميريّة. فلذا هو كالملكيّة الخاصّة مقدّسة ويجب أن يستمرّ صرف عائداته على الخير العام.

ملاحظة: كان نظام التزام جباية الرسوم والضرائب العثمانيّة يقوم على نظام التيمار وأصحاب الزعامت وذلك بأن تكون حصّة التيمارجيّ منطقة لا تزيد قيمة عائداتها عن عشرين الف أقجة، بينما الزعامت يلتزم جباية الضرائب من منطقة يتراوح دخلها الضريبيّ بين 20 ومئة ألف أقجة، وما يزيد على مئة أقجة يكون من حصّة الباب العالي، أيّ الخاص الشاهيّ. وبما أنّ كلّ اراضي ناحية تبنين بني بشارة كانت أراضٍ خراجيّة مشجّرة، وهي بالتالي مملوكة ملكيّة خاصّة تامّة من قبل سكّان تلك الناحية آنذاك، فلذا لم يكن لأولئك التيمارجيّة وأصحاب الزعامت أيّ ملكيّة اقطاعيّة بدليل عدم ذكر أسماء معظمهم في سجلّات تعداد سكّان قرى الناحية.

وبنظري، لم تظهر الملكيّة الإقطاعيّة المشرقيّة غير الفيوداليّة على النمط الأوروبّيّ، إلّا بعد التراكم الماليّ الذي كدّسه أرباب الزعامت والتيمار، ولا سيّما منذ أواخر القرن الثامن عشر، عندما بدأ الفلّاحون يهجرون أراضيهم بفعل غضب الطبيعة، أو ظلم الجباة العثمانيّين وتناحر أصحاب الزعامت والتيمار على الاستئثار بالريع العقاريّ الزراعيّ، فخربت الزراعة، وبارت الأراضي وأصبحت الأراضي الشجريّة أحراجاً مهملة.

ما يمكن ملاحظته في وجهة الاستفادة من عائدات الأوقاف أنّ تلك الأوقاف كانت عامّة وصحيحة، وكانت بمعظمها موقوفة منذ العهد المملوكيّ، إلى جوامع ومدارس ومكتبات ومستشفيات في مصر

وأخيراً لا بد من طرح التساؤل الآتي: طالما نتحدّث عن الاقتصاد الزراعيّ ضمن التشكيلة العثمانيّة في القرن السادس عشر لما قبل الرأسماليّة، كيف تحوّل هذا الاقتصاد، من اقتصاد ريعيّ منتج في القرن السادس عشر، إلى اقتصاد ريع عقاري ومالي استهلاكي في القرن العشرين، ومفلس مع بداية القرن الواحد والعشرين؟ فأين ذهب إنتاج خيرات أراضينا، ولما هجرها زرّاعها؟ ولماذا تحوّلت تلك الأراضي الزراعيّة الخصبة، إلى مجرّد سلعة عقاريّة في نظام الريع الماليّ الفاسد والمُفسد؟ ولماذا أرباب هذا النظام المالي الريعيّ، أخذوا يستولون على الغابات والمشاعات والأوقاف العموميّة المتروكة للمنفعة العامّة من مئات السنين، لتوظيفها في مضارباتهم العقاريّة، أو بناء القصور الفخمة عليها لهم ولأولادهم.

ففي عزّ سطوة السلطنة العثمانيّة وكبار موظّفيها العسكريّين والمدنيّين، وفي ظلّ نظامها الاقطاعيّ الريعيّ النفعيّ، لم يستطع أيّ شخص مهما علت مرتبته، ومها كانت قوّة سطوته، أن يسجّل أيّ قطعة أرض وقفيّة أو مشاعيّة ويستملكها. فلماذا في وقتنا الحالي ضاعت تلك الأوقاف في بعض المناطق، بينما هناك مؤسّسات وقفيّة نشطة لدى بعض المكوّنات اللبنانيّة والعربيّة ازدادت أملاكها أفقيّاً وعاموديّاً، وأستثمرت بكفاءة عالية حتّى أصبحت مصدراً من مصادر تنمية مجتمعاتها.

كما أنّه من المعلوم أنّ الثورتين الصناعيّتين في أوروبّا، الأولى والثانية، هما اللّتان دفعت بشعوب أوروبّا نحو التقدّم والتطوّر والوثبة الإستعماريّة الكبرى المرتكزة إلى الصناعات التحويليّة والثقيلة والكيماويّة. في المقابل لماذا نهضة صناعة الشرق الجنينيّة المشهود لها في السجلّات العثمانيّة، قُضيَ عليها في المهد ولم تتطوّر، مع أنّ المؤرخ الألمانّي أشتور يصف اقتصاد الشرق الأوسط في القرون الوسطى بأنّه كان اقتصاداً رأسماليّاً.

يتبع:

1- ملحق بأسماء بعض العائلات
2- ملحق بالمزارع

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى