نبع الحصيب وأقنية بلقيس الرومانية في رأس بعلبك.. تاريخ مغلّف بالإهمال

باتت شواهد غياب الدولة وتحلّلها في لبنان أكثر من أن تُحصى وتُعدّ، في كلّ مناحي الحياة ومعالِم وجود النظام، من الجامعة إلى المستشفى، من الشارع إلى الدائرة الرسميّة إلى الأمن السائب والأمل الغائب.

ينصّ القانون اللبنانيّ على أنّ المديريّة العامّة للآثار تتولّى حماية الآثار، صيانة ورعاية المنشآت التراثيّة والتاريخيّة، هذا في النصّ المكتوب، لكن في الممارسة والواقع، للأسف، الأمر مغاير تمامًا.

نبع الحصيب والأقنية الرومانيّة

تبعد “رأس بعلبك” البقاعية 130 كيلومترًا عن بيروت وترتفع 950 مترًا عن سطح البحر، تشكّل مساحتها العقاريّة ثلاثة بالمئة من مساحة لبنان، ولا تزال الأقنية الرومانيّة شاهدة على عراقة تاريخها، كذلك شاهدة على إهمال وزارة الثقافة والمديريّة العامّة للآثار.

 تشكّل مساحة “رأس بعلبك” العقاريّة ثلاثة بالمئة من مساحة لبنان، ولا تزال الأقنية الرومانيّة شاهدة على عراقة تاريخها، كذلك شاهدة على إهمال وزارة الثقافة والمديريّة العامّة للآثار.

يقول السيّد زوزو الدروبي، نائب رئيس البلدية السابق والناشط الاجتماعي الثقافيّ، في حديث مع “مناطق نت”: “عُرفت رأس بعلبك أيّام الرومان باسم “كونا كورا” وقيل إنّ هذه التسمية أُطلقت عليها بعد انعقاد “مؤتمر نيقيا” سنة 452 ميلاديّة، وتعني هذه التسمية مدينة القنوات أو السراديب المحفورة على عمق يتراوح بين خمسة وعشرة أمتار تحت الأرض حيث تجري المياه”.

يتابع الدروبي: ” تجُرّ الأقنية المياه من نبع الحصيب إلى معظم أراضي وبساتين الضيعة. هي لا تزال قائمة موجودة بحالة جيّدة، لكنّها بحاجة للرعاية والصيانة والحفاظ عليها، وهذه مسؤوليّة الدولة ووزارة الثقافة، فالأقنية بحاجة إلى الإنارة وبناء السلالم في الأماكن الوعرة، والترميم في بعض الأماكن “المشلّقة” كما غيرها من المعالم التاريخيّة الكثيرة في البلدة والمنطقة، وتعاني الإهمال في استثمارها سياحيًّا أو في الحفاظ عليها كإرث تاريخيّ إنسانيّ حضاريّ”.

عن دور البلديّة وما قامت به يؤكّد الدروبي: “تقوم بلديّة رأس بعلبك دائمًا بكلّ واجباتها في هذا المجال واشتغلت شغل الدولة، لكنّ الأثار والأبنية التراثيّة التاريخيّة هي مسؤوليّة الدولة أوّلًا وأخيرًا، خُصّصت لها مديريّة خاصّة مستقلّة ضمن وزارة الثقافة، لكن للأسف شأنها شأن كلّ إدارات الدولة حيث الإهمال واللامبالاة هي السياسة العامّة في الدوائر الرسميّة”.

أقنية بلقيس الواقع والخيال

تسري في الأوساط الشعبيّة رواية تقليديّة تقول: إنّ الملك سليمان الحكيم (سيّدنا سليمان كما تسمّيه العامّة) أراد أن يجرّ مياه نبع اللبوة الصافية إلى تدمر كرمى لعيون “الستّ بلقيس” التي كان على علاقة غراميّة بها. هذا في الرواية الشعبية لكن ماذا في الواقع؟

في كتاب “القاع في الذاكرة” للمؤرّخ والباحث الراحل جورج الياس رزق (ولد في القاع سنة 1942- توفّي في تموز/يوليو 2023) يقول رزق عن قناة بلقيس: “أمّا في الواقع فتنطلق هذه القناة من نبع اللبوة، مخترقة أراضي بلدات اللبوة والنبي عثمان والعين والفاكهة ورأس بعلبك والقاع وسلسلة جبال لبنان الشرقيّة، إلى بادية الشام، حيث تنتهي في موقع “حمّام أبو رباح” المشهور ببخاره الساخن المتصاعد من باطن الأرض” صفحة 43.

يتابع رزق في كتابه: “هذه القناة بادية للعيّان بفوّهاتها على سطح الأرض، إن في لبنان وإن في سوريا. إذ كثير من الرعاة البدو وغير البدو، الذين ينتقلون بقطعانهم شتاءً إلى الحماد، وهو الاسم الذي يطلقونه على بادية الشام، أكّدوا لي أنّهم رأوا بأمّ العين معالم هذه القناة هناك، وهي ما تزال ظاهرة حتّى اليوم. ولقد مشيت شخصيًّا على هذه القناة من النبع في اللبوة حتى نقطة عبورها في السلسة الشرقيّة، على الحدود اللبنانيّة- السوريّة، وهي مسافة أربعين كيلومترًا، 27 منها تقريبًا، من النبع إلى أوّل أراضي القاع، و13 منها ضمن أراضي القاع في منطقة بعيون العقاريّة في لحف السلسلة الشرقيّة. وهذه القناة شبيهة بالأولى ولكنّ نفقها منحوت في الصخر، بحسب طبيعة الأرض، ومفتوح على سطح الأرض بفتحات دائريّة، مثل القناة الأولى، ولكن بعمق أقلّ”، صفحة 43- 44.

أيضًا بحسب الباحث المؤرّخ رزق: “هي مكشوفة حتّى مجرى سيل الفاكهة، وفي أرض رأس بعلبك تصبح مغطّاة تفصلها عن سطح الأرض قشرة صخريّة لها فتحات دائريّة يسمّيها الفلّاحون “كواكب”، كانوا عند “عزيلها” أيّ تنظيفها، يقذفون بالأوحال، من باطنها إلى خارجها، عبر هذه الكواكب”. صفحة 44.

يؤكّد الباحث الراحل جورج الياس رزق في كتابه: “عندما كنت أستاذًا في قسم الآثار في الجامعة اللبنانيّة، قمت بزيارة وزير السياحة السيّد غازي العريضي، وكانت مديريّة الآثار حينها تابعة لوزارة السياحة، ووصفت له هذه القناة- النفق الفريدة وطلبت منه الكشف عليها وترميمها إذا أمكن وإدراجها في الجدول العالميّ للآثار، فتصبح معلمًا من معالم السياحة في لبنان. لقد اهتمّ الوزير عريضي كثيرًا بالموضوع واتّصل فورًا بمدير عام الآثار، فريدريك الحسينيّ، ونسّق معه لزيارة الموقع. إلّا أنّي بعد ذلك لم أرَ ولم أسمع أنّ أحدًا من المسؤولين زار الموقع!”. صفحة 44.

تواريخ مصطنعة

المؤسف والمحزن أن نرى دولًا ناشئة حديثًا أو أنظمة احتلال– كالاحتلال الاسرائيليّ- تسعى لاصطناع تاريخها، تربطه بماورائيّات وغيبيّات غالبيتها خياليّة وهميّة، بينما لبنان بلد الإشعاع والحرف، بلد الأدباء والشعراء والروّاد، مرّت على أرضه حضارات وثقافات، عرف كبارًا في الثقافة والحقوق واللغة، معظم معالمه التاريخيّة ورموزه الأثريّة، تعاني اليوم الإهمال والنسيان، بعضها بات مكبًّا للنفايات، وبعضها الأخر في خطر الزوال، فيما المديريّة العامّة للآثار تغطّ في سبات عميق.