نساء غزّة.. الفُوَط الصحّيّة ليسَت ترفًا
تنتقي من واجهة الأرفف علبة، تقدّمها للبائع في خجل، يبصق البائع سعرها في وجهها، يغلّفها في كيس أسود، وكيس آخر حتّى لا تبان، تدفع ثمنها، وتدير ظهرها كمن أدّت مهمّة سريّة، تحضنها كمن تحضن عيبها، وتهرع بها إلى المنزل. تعدّ مشروبًا ساخنًا قد يكون مردقوشًا أو نعناعًا، ترتدي ما وسعَ من أغطية وجوارب، يدخل مزاجها في التأفّف والبكاء من غير سبب، من يعرفها في الدار سيسألها: “شو جاييتك؟”.
حبّة مسكّن، وربّما تصل إلى تعليق “مصل” عندما يشتدّ الوجع فيه مسكّن ألم. أيّام تمتدّ إلى خمسة أو سبعة؛ لا تلمسي لا تحملي، انتبهي، لا تقصّي شعرك، لا تطيلي وقت الاستحمام، لا ثمّ لا ثمّ لا.
هو يوم عاديّ للتعامل مع الزائرة الشهريّة، وهو يبدو ترفًا في عالم آخر. عالم لا تجد فيه النساء فوطًا صحيّة ولا مياهًا للإغتسال!
نساء غزّة وفقر الدورة الشهريّة
“الفوط الصحّيّة مقطوعة من كلّ الأسواق بشكل كلّيّ، مش متوافرة ولا في صيدليّة ولا في سوبّرماركت”؛ هذا ما نشرته نور (فتاة غزّاويّة) على صفحتها في منصّة إكس (تويتر سابقًا)، لتضيف سارة: “بعض النساء في غزّة يتناولن حبوب منع الحمل لمنع الدورة الشهريّة، لانعدام الفوط الصحّيّة وقلّة مياه الاغتسال والتعقيم…” إضافة إلى مناشدات كثيرة صوّرت حجم المعاناة، “حدا يوصّل صوتنا..” تعلّق أمل.
هذه المعاناة كانت موضع سخرية وتندُّر لدى كثيرين ممّن يعيشون في عالم موازٍ تبدو فيه الفوطة الصحّيّة رفاهية كـ (البَودر والروج والفاونديشن) كما جاء على لسان إعلاميّة مصريّة وصفت المرأة الغزّاويّة المطالبة بهذا الحقّ بـ”المنيّلة”!
يقودنا هذا للحديث عن “فقر الدورة الشهريّة” هو مصطلح يُقصد به: “عدم القدرة على الوصول إلى المنتجات الصحّيّة الخاصّة بفترة الدورة الشهريّة المناسبة لها، وخدمات النظافة الصحّيّة المرتبطة بها من دورات ومرافق المياه والتعقيم وأدوات النظافة الشخصيّة والتثقيف الصحّيّ وطرق إدارة النفايات الخاصّة بها”.
في غزّة، تُشكّل النساء نصف عدد السكّان البالغ عددهم نحو مليونيّ نسمة بحسب إحصائيّات قبل أحداث السابع من تشرين الثاني، وفي ظلّ الحصار الإسرائيليّ الذي يمنع وصول الماء والكهرباء والوقود، والإبادة اليوميّة المتواصلة بلا رحمة، واستفحال معاناة التهجير والنزوح القسريّ من شمال القطاع ووسطه إلى الجنوب، حيث تحولّت المدارس والمرافق التابعة للأونروا إلى مراكز إيواء في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، تواجه النساء في غزّة أزمة الوصول إلى مستلزمات الرعاية النسائيّة إذ يعشن ظروفًا صحّيّة ونفسيّة غير آمنة.
وذكرت تقارير صادرة عن صندوق الأمم المتّحدة للسكّان في فلسطين وجود خمسين ألف امرأة حامل في القطاع، وعدم توافر ظروف آمنة لولادتهن، ما أدّى إلى زيادة نسب الإجهاض وخوض عمليّات قيصريّة من دون تخدير.
ذكرت تقارير صادرة عن صندوق الأمم المتّحدة للسكّان في فلسطين وجود خمسين ألف امرأة حامل في القطاع، وعدم توافر ظروف آمنة لولادتهن، ما أدّى إلى زيادة نسب الإجهاض وخوض عمليّات قيصريّة من دون تخدير.
وأشارت تقارير إلى عدم توافر الرعاية الطبّيّة للنساء الحوامل واللواتي يخضعن لعمليّات قيصريّة، “النساء يلدن من دون مخدّر وتُشقّ بطونهنّ إلى سبع طبقات” مع ما تحتاجه النساء من مستلزمات الرعاية الصحّيّة في أثناء فترة “النفاس” التي تمتدّ إلى أربعين يومًا، وقد تزيد، من فوط صحّيّة وأدوات التعقيم والنظافة ومسكّنات وغيرها، مع نفاذ كمّيّاتها من الصيدليّات والمحلّات.
تتحدّث النساء عن: “عدم توافر الفوط، شحّ المياه، وعدم توافر مراحيض ملائمة للظروف لعدّة فتيات نزحن من بيوتهن”. هل تتخيل نفسك تقف في طابور للوصول إلى دورة المياه؟ وأكثر من ذلك، ألّا تجد ماءً للاغتسال؟! إضافة إلى كونك تتردّد في الوصول إلى دورك حتّى لا تباغتك غارة مع تزايد القصف في محيطك؟
ذكر موقع “تقاطعات” النسائي الأردنيّ ما يأتي: “تحرم النساء منذ ما يزيد على ستّين يومًا من مستلزمات الدورة الشهريّة، وعلى الرّغم من جمع تبرّعات عينيّة بالفوط الصحّيّة ودخول الهدنة حيّز التنفيذ وانقضائها، فإنّ المساعدات لم تصل بالشكل المطلوب، إضافة إلى معاناة انقطاع المياه والحرمان من الوصول إلى دورات المياه في ظلّ نهج الاحتلال الممعن في تهديم البيوت وسبل الحياة في غزّة وبسبب نفاذ الوقود وانعكاسه على خدمة تشغيل محطّات الصرف الصحّيّ”.
“حدا يوصّل صوتنا”.. الأمم المتّحدة و”النوع الاجتماعيّ”
يتجاهل المجتمع الدوليّ بهيئاته المدافعة عن حقوق الإنسان معاناة النساء الغزّاويات، فقد أصدرت هيئة الأمم المتّحدة للنساء بيانًا تعلن فيه انضمامها لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتّحدة، وتحت مفهوم “النوع الاجتماعي” يجري البحث في دعاوى ادّعاءات الاعتداء الجنسيّ على المختطفات الإسرائيليّات يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وهو خطاب استعماريّ عنصريّ كما وصفته المنظّمات النسويّة في البلدان الناطقة بالعربيّة، منها منظّمة “فيميل” اللبنانية و”تقاطعات” الأردنيّة التي وصفت البيان بالمخزي لمساواته بين الفلسطينيّات والإسرائيليّات من دون اعتبار لعلاقات القوّة الاستعماريّة. ومشاركة في تشويه صورة الفلسطينيّ والمقاومة.
إنّه منطق “القوي يأكل الضعيف”، حيث تنظر الأنظمة المتسلّطة، والتي تُبرّر الاستيطان والاحتلال وقد اعتمدته في عقود سالفة تحت حجّة تحضير الشعوب، للشعوب المُستَعمَرة نظرة دونيّة دون الأخذ بأيّ اعتبارات إنسانيّة، فالآخر غير مرئيّ ومعاناته تهويل لا تستحقّ التفهُّم، ومقاومته إرهاب ووقاحة. وهنا تصير أجساد النساء ساحة تُخاض عليها وضدّها المعارك، وتُمارَس عليها أشكال الحرمان من الحقوق وتُنتهك خصوصيّتها.
تكتب غادة الشيخ: “كنت قد كتبت منذ بداية الحرب عن خطورة انقطاع الفوط الصحّيّة في غزّة، ليس لأنّني أعلم بالغيب بل لأنّني أعلم أن الأقنعة.. سقطت في الخطاب الحقوقيّ العالميّ منذ بداية الإبادة، وأنّ التمييز في الدفاع بشراسة عن حقوق النساء يشمل أيضًا الفوط الصحّيّة”.
المساعدات لا تغطّي الاحتياجات.. نوعيّات رديئة
على الرّغم من وصول المساعدات من مصر، عبر معبر رفح واحتوائها على فوط صحّيّة وفوط ما بعد الولادة، إلّا أنّ الكمّيّات لا تغطّي العدد الموجود، بحسب حديث هبة راشد، إحدى موظّفات مؤسّسة مرسال الخيرية، في منشور كتبته على منصّة إكس. وتشير إحدى المعلّقات إلى أنّ النظام المصريّ يقنّن المساعدات، بمعنى أنّ المساعدات لم تصل كلّها للنساء وأشارت عاملات في منظّمات صحّيّة إلى أنّ الشحنات المرسلة من الفوط الصحّيّة لا تغطّي الاحتياجات.
على الرّغم من وصول المساعدات من مصر، عبر معبر رفح واحتوائها على فوط صحّيّة وفوط ما بعد الولادة، إلّا أنّ الكمّيّات لا تغطّي العدد الموجود، بحسب حديث هبة راشد، إحدى موظّفات مؤسّسة مرسال الخيرية، في منشور كتبته على منصّة إكس.
تنشر فتاة من غزّة: “الوضع سيّء جدًا، في الوضع الطبيعيّ يجب تغيير الـ pads (الفوطة) مرّة كلّ 3 أو 4 ساعات كحدّ أقصى”.
وتشير أخرى إلى نوعيّات رديئة في بعض الفوط الرخيصة ومضارها التي تؤدّي إلى حدوث الالتهابات، وتصل إلى تلف الجهاز المناعيّ والحساسيّة وغيرها من الأمراض المتعلّقة ببطانة الرحم. وتطلب أن يتمّ إرسال فوط ذات نوعيّة جيّدة وكمّيّة كبيرة، لأنّ عدم تغييرها وتعقيم اليدين يسبّب حدوث طفح جلديّ والتهابات داخليّة وخارجيّة.
البدائل .. أقمشة وحبوب منع حمل
الوصول إلى بدائل وخيارات ليس ممكنًا لعدم توافر مياه الاغتسال، ما اضطرّ النساء للجوء إلى بدائل خطرة وغير آمنة: (حفاضات الأطفال، الورق، أقمشة قديمة وغير مغسولة) مع ما يؤدّيه ذلك من مخاطر صحّيّة والتهابات في الجهاز البوليّ والتناسليّ، بما يُسمّى عدوى بكتيريّة. ناهيك عن اللجوء إلى أقراص منع الحمل لتأجيل الدورة الشهريّة، وما يسببه ذلك من آلام كبيرة ومشاكل صحّيّة ذكرتها عدّة مصادر طبيّة، قد تصل إلى سرطان عنق الرحم.
قلّة النظافة، عدم وجود إمكانيات للاعتناء بالذات، النظافة الشخصيّة ليست من الأولويّات، “عيشة الحيوانات أرحم من العيشة اللي نحنا عشناها” تقول سيدة، في إشارة إلى اكتظاظ مراكز الإيواء وقلّة النظافة في دورات المياه.
الوصول إلى بدائل وخيارات ليس ممكنًا لعدم توافر مياه الإغتسال، ما اضطرّ النساء للجوء إلى بدائل خطرة وغير آمنة: (حفاضات الأطفال، الورق، أقمشة قديمة وغير مغسولة) مع ما يؤدّيه ذلك من مخاطر صحّيّة والتهابات.
يزيد الشتاء من المعاناة، مطر وبرد وأرضيّة وأغطية مبلّلة، المشي لمسافات طويلة دون وجهة محدّدة هربًا من التهديدات المتلاحقة بالقصف “النفسيّات الحمدلله صفر”، “فشّ راحة” تتنهّد امرأة في فيديو مصوَّر تتحدّث فيه عن معاناتهنّ. معاناة النساء تعكس الوضع كلّه على مأسويّته، وضع العيش فوق الركام ورغمًا عن أنف الاحتلال، ولكنّه ليس حديثًا عن رومنسيّة الصمود، فالوضع صعب وعصيّ على الاحتمال.
ينهضن من تحت الرُكام
العالم يتفرّج على مأساة أهل غزّة، يفتعل التنديد والبكاء، كساديّ يتلذّذ بمعاناة الضحيّة، يتصفّح الفجائع المصوّرة ويتخطّاها بلمسة إصبع.
“لا تعتَدِ المشهد”، “نحن لسنا أرقامًا” وغيرها الكثير من العناوين التي يريد من خلالها الفلسطينيّ القول إنّ معاناته ليست للفرجة. وتخرج المرأة الغزّاويّة بكلّ صبرها واحتسابها، قويّة صامدة، مقاومة، تعرف حقّها ولا تتهاون في المطالبة به: “الفوط الصحّيّة مش رفاهية، والفوط الصحّيّة مش عيب”.
هذه المرأة التي كنا نظنّها نائمة مستلبة الإرادة والطموح، تنهض من تحت الركام بكامل سترها، تغطّي قلبها النازف وجروح الغدر الكثيرة في أنحاء جسدها، هي تعرف أنّ إسرائيل قويّة والعالم يساند القويّ مهما بلغت درجة ظلمه، لكنّها توقنّ أنّ هناك ربًّا في السماء وأحرارًا في الأرض يوصلون صوتها على الرغم من كلّ البأس وقلّة الحيلة، صوتها الذي يؤذّن بانتصارات قادمة فوق كلّ هذا الدمار.