نصري شمس الدين “يعود” إلى استوديو رقم 4 في إذاعة لبنان

بتاريخ 18 آذار/ مارس من العام 1983، هوى عملاق الأغنية اللبنانيّة الشعبيّة، الفنان نصري شمس الدين على خشبة مسرح “نادي الشرق” في دمشق، بعد وصلة غنائية قصيرة، وفي أثناء تأديته أغنية “الطربوش”، إثر نزيف دماغيّ حادّ، ما أدّى إلى وفاته في عزّ عطائه عن 56 عاماً.

بيد أن نصري لم يمت في الذاكرة الشعبيّة اللبنانيّة والعربيّة الحيّة، ولا في قلوب محبّيه والمعجبين بفنّه، ولا في الإرث الكبير الذي تركه لنا من أغنيات خالدات، لا سيّما أنّه بقي إلى اليوم، رائداً للأغنية الفلكلوريّة (والأغنية الشعبيّة)، وفي ما يُعرف بالدبكة اللبنانيّة؛ بعدما ملأ الدنيا بصوته الجبليّ الجهوريّ العذب، المتّزن الشجيّ، منفرداً بأغنيّات خاصّة، أو في تشكيل ثنائيّ نادر في المسرح الرحبانيّ مع فيروز، لم يتكرّر في تاريخ الغناء في لبنان والعالم العربي.

تمرّ أربعون سنة على رحيل صاحب أغنيات العشق والعتب والشوق، والفرح، وتقديراً من إذاعة لبنان الرسميّة لفنّه وإرثه الغنائيّ والمسرحيّ، قرّرت إدارة المحطّة إطلاق اسم الفنان نصري شمس الدين على استديو رقم 4، أحد استديوهاتها السبعة، في مركز الإذاعة في محلّة الصنائع. صدر هذا القرار في ذكرى أربعين سنة على غيابه، بتاريخ 18 آذار/ مارس 2023، في اليوم الذي شهد أجواءً تكريميّة عديدة، شاركت فيها منفردة محطّات تلفزيونيّة وإذاعيّة، وبعض مواقع التواصل الاجتماعيّ، فكان قرار إدارة الإذاعة تتويجاً للوفاء والتكريم الذي أنصف أخيراً “الركن الرحبانيّ الرابع نصري شمس الدين” بعد الأخوين رحباني وفيروز.

استديو رقم 4 في إذاعة لبنان الذي صار يحمل اسم نصري شمس الدين
لوحة تذكاريّة

من الولايات المتّحدة الأميركيّة، حيث تقيم مع عائلتها، حضرت ألماظة نصري شمس الدين لتكون إلى جانب شقيقها التوأم مصطفى (التوأم البكر لنصري) وبعض أفراد العائلة في إزاحة الستارة عن اللوحة التي ستحمل اسمه تحت عنوان: “وزارة الإعلام- إذاعة لبنان، استديو الفنان نصري شمس الدين” مرفقة بصورة له، بالأبيض والأسود، التقطت له في الإذاعة التي انطلق منها في العام 1952، وتعلو اللوحة الأرزة اللبنانيّة. لكنّ حفل إطلاق التسمية سيقتصر حضوره على مدير الإذاعة محمد غريب وبعض الإداريّين وعائلة نصري “بسبب الأوضاع الراهنة، وعدم إمكانيّة إقامة احتفال في داخل الإذاعة” تقول ألماظة.

سبق للإذاعة اللبنانيّة الرسميّة، أن أطلقت في شهر آذار/ مارس سنة 2016 مبادرتها الأولى في تسمية استديو رقم 6 باسم الفنانة الكبيرة فيروز، بقرار من وزير الإعلام في حينه رمزي جريج. ويعدّ هذا الاستديو (الرقم 6) الذي يتضمّن ثلاثة استوديوهات داخليّة رديفة فيه، هو الأضخم في عالم الصوتيّات في لبنان والعالم العربيّ. وقد شهد تسجيلات أغاني عمالقة الفنّ في لبنان أمثال: وديع الصافي وزكي ناصيف ونصري شمس الدين ونجاح سلام وسعاد محمّد وصباح وغيرهم.

من الولايات المتّحدة الأميركيّة، حضرت ألماظة نصري شمس الدين لتكون إلى جانب شقيقها التوأم مصطفى وبعض أفراد العائلة في إزاحة الستارة عن اللوحة التي ستحمل اسمه تحت عنوان: “وزارة الإعلام- إذاعة لبنان، استديو الفنان نصري شمس الدين”.

وفي العام التالي، وبتاريخ 7 أيار/ مايو 2017 احتفت إذاعة لبنان بإطلاق اسم المطرب والملحن، الموسيقار حليم الرومي على استديو رقم 5 برعاية وزير الإعلام، في حينه، ملحم رياشي. لقد واكبت إذاعة لبنان انطلاقة نصري شمس الدين منذ بداياته الأولى، إذ كان يحضر إلى استديوهاتها، لتسجيل “اسكتشات” مع الأخوين رحباني وفريق عملهما، كذلك شهدت الإذاعة على تسجيل أولى أغنيات نصري الخاصّة “بحلّفك يا طير بالفرقة” كلمات أسعد السبعلي وألحان فيلمون وهبي.

نصري شمس الدين أثناء أدائه أحد الأعمال الفنية في إذاعة لبنان زمن الأبيض والأسود
عهد الوفاء بعد طول جفاء

لقد ملأ نصري شمس الدين الساحة الفنّيّة والطربيّة، والعالمين العربيّ والغربيّ، بصوت دافئ عميق، مانحاً الأغنية اللبنانيّة الأصيلة نكهة فريدة، ولوناً قلّ مثيله، فذاع صيتها وانتشرت انتشار النار في الهشيم، لذلك، لم يسقط نصري شمس الدين في ذاك اليوم “المشؤوم” من آذار سنة 1983 على المسرح، بل ارتفع ليحلّق كما كان صاحبه، تاركاً رصيداً فنّيّاً ضخماً ومميّزاً في القلب والبال والذاكرة والوجدان.

لقد أمعنت الجهات الرسميّة والفنّيّة اللبنانيّة، بعد رحيل نصري ولأعوام طوال في تجاهله، وقد أشاحت باهتمامها عن إرثه الغنائيّ والفنّيّ وعن تكريمه، مثلما كرّمت العديد من فنّاني جيله ومبدعي لبنان، ولم تهتمّ بأرشيفه ورصيده الفنّيّ الذي تناتشته الفوضى الإعلاميّة و”الغنائيّة”، وتجاهلت ما بقي من “كنز” غنائيّ، لم ينشر حتّى يومنا هذا، وهو كناية عن عشرات الأغاني المسجّلة بالصوت والموسيقى.

لقد أمعنت الجهات الرسميّة والفنّيّة اللبنانيّة، بعد رحيل نصري ولأعوام طوال في تجاهله، وقد أشاحت باهتمامها عن إرثه الغنائيّ والفنّيّ وعن تكريمه، مثلما كرّمت العديد من فنّاني جيله ومبدعي لبنان، ولم تهتمّ بأرشيفه ورصيده الفنّيّ الذي تناتشته الفوضى الإعلاميّة و”الغنائيّة”،

ربّما جرى ذلك عن قصد أو غير قصد، إلّا أنّ أيقونة الأغنية الشعبيّة والفلكلوريّة والرومانسيّة، لم يغادر ضمير ووجدان وذاكرة كلّ من انتمى إلى هذا التراث الوطنيّ والعربيّ وأحبّه، بل إلى هذه الثروة القوميّة التي شكّل نصري أحد مداميكها الأساسيّين، وقد تحقّقت لهم في السنوات الأخيرة أمنيات تكريمه وإنصافه، وكان التكريم الأخير بإطلاق اسمه على أحد استديوهات إذاعة لبنان.

مكرّمًا في بلدته جون

في العام 2017، أعاد محبّو الفنّ الأصيل والأوفياء لمسيرة هذا المبدع، إلى جانب فاعليّات بلدته جون، بعض الحقّ الضائع لنصري “عند الدولة اللبنانيّة”، إذ وضعت بلديّة جون جهدها الكبير لتكريمه في مناسبة مرور تسعين عاماً على ولادته (1927- 2017)، فأقامت متعاونة مع وزارة الثقافة اللبنانيّة و”لجنة إحياء تراث نصري شمس الدين” و”المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ” و”جمعيّة بيت المصوّر في لبنان” و”منتدى حفَظَة الذاكرة” مهرجاناً جماهيريّاً حاشداً شاركت فيه فرقة الأوركسترا الشرق- عربيّة بقيادة المايسترو اندريه الحاج وغناء الفنان جلبير جلخ. وأصدرت في هذه المناسبة مائة ميداليّة “مذهّبة” تحمل بورتريه رسمه باللّباس التراثيّ، وأزراراً مذهّبة فضلاً عن ثماني بطاقات بريديّة تذكاريّة لصور نادرة لصاحب أغنية “غالي والله يا جنوب”، ضمن علبة خاصّة.

لم يطل الأمر، حتّى أصدرت وزارة الاتصالات وشركة “ليبان بوست” بتاريخ 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 الطابع البريديّ التذكاري الذي يحمل صورة الفنّان نصري شمس الدين باللباس التراثي اللبناني مع مغلّف تذكاريّ يحمل الطابع الرسميّ ولوحة فلكلوريّة (من تصميم الإعلاميّ كامل جابر) بجهد من النائب محمد الحجّار وبلدية جون والجمعيّات المشاركة في التكريم.

وأقيم في مناسبة صدوره مهرجانٌ حاشدٌ في مدينة النبطيّة بتاريخ 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 بالتعاون مع مركز كامل يوسف جابر الثقافي الاجتماعيّ وجرى توزيع مغلّف تذكاريّ (آخر) على الحضور يحمل الطابع البريدي. المغلف من تصميم كامل جابر ورسم الفنّانة التشكيليّة خولة الطفيليّ وخطوط الفنّان علي عاصي، إضافة إلى بطاقة بريديّة من نوع ماكسي كارد.

الطابع البريدي التذكاري الذي أطلقته “ليبان بوست” بمناسبة تسعون عاماً على ولادة نصري شمس الدين عام 2017
نصري شمس الدين ورحلة البدايات

ولد نصر الدين مصطفى شمس الدين في بلدة جُوْن (الشوف) بتاريخ 27 حزيران/ يونيو سنة 1927، من أسرة تُعرف بعائلة “المشايخ”. وكان والداه يتمتّعان بصوتين رائعين، خصوصاً الوالدة، ما أكسب أصغر أشقاء البنات الثلاث والأبناء الصبيان الستّة، نصري، هذا الصوت الفريد، وقد ساعدت الوالدة ابنها في صقل موهبته، إذ كان يطيب لها سماعه وهو يدندن أغاني المطرب المصريّ كارم محمود.

بعد مدرسة جون الابتدائيّة، حيث تابع فيها نصري دراسته الأولى، انتقل إلى مدرسة المقاصد في صيدا. وفي سنّ السابعة عشرة، وقبل إتمام المرحلة الثانويّة، انتقل إلى تدريس مادّة اللغة العربيّة في مدرسة شبعا في قضاء حاصبيا، ثمّ في مدينة صُوْر. وفي أعقاب حفلة غنائيّة أقامها أمام التلامذة (نحو سنة 1948)، عازفاً على العود ومنشداً بصوته الصدّاح العتابا والمواويل؛ في “الثانوية الجعفرية في صور”، تدخّل المدير “بكلّ محبّة” وخيّر نصري بين مهنة التدريس أو الغناء، وكان أن اختار ما يرغب ويعشق، الفنّ والطرب.

ينتقل نصري إلى مصر ليعمل في شركة “نحّاس فيلم”، ثمّ إلى بلجيكا ليدرس الموسيقى ويعود إلى بيروت حاملاً دبلوماً في الموسيقى؛ ولأنّه لم يوفّق في المجال الذي يرغب، راح يعمل موظّفاً في مركز البريد في بيروت (في نطاق الاتّصالات الهاتفيّة). وتتدخّل الصدفة بعد العام 1952، إذ يقرأ نصري إعلاناً في إحدى الصحف اللبنانيّة مفاده أنّ إذاعة “الشرق الأدنى” تبحث عن مواهب فنّيّة شابّة، فسارع إليها، ليقف مُمتحناً أمام لجنة حكّام كانت مؤلّفة من: عاصي ومنصور الرحبانيّ، عبد الغني شعبان، حليم الروميّ وغيرهم، وبعد سماعه، تقرّر ضمّه إلى الفريق الغنائيّ في الإذاعة، التي أصبحت تعرف لاحقاً بـ”إذاعة لبنان الرسميّة”.

في أعقاب حفلة غنائيّة أقامها أمام التلامذة (نحو سنة 1948)، عازفاً على العود ومنشداً بصوته الصدّاح العتابا والمواويل؛ في “الثانوية الجعفرية في صور”، تدخّل المدير “بكلّ محبّة” وخيّر نصري بين مهنة التدريس أو الغناء، وكان أن اختار ما يرغب ويعشق، الفنّ والطرب

من الإذاعة وضع نصري شمس الدين قدميه على سكّة الجدّ، وانطلق في مشواره الفنّيّ عندما أدّى ثلاثة “اسكتشات” غنائيّة هي: “مزراب العين” و”حلوة وأوتوموبيل” و”برّاد الجمعيّة”؛ ثم منها يطلق أغنيته الخاصّة الأولى، “بحلّفك يا طير بالفرقة” من ألحان المبدع الراحل فيلمون وهبي، الذي ارتبط به ارتباطاً وثيقاً في صداقة حميمة ورفقة مشاوير “صيد الطيور” إلى جانب (الراحلين) إيلي شويري ووليم حسواني.

الركن الرابع في المسرح الرحباني

مع فيروز شكّل نصري ركناً رابعاً في المسرح والفنّ الرحبانيّين، بعدما انضمّ إليهما “رسميّاً” في العام 1961 و”انفرد” عنهما في العام 1980، بعد مسرحية “بترا” وافتراق فيروز عن عاصي، وبعدما شاركهما في إعادة مسرحيّة “الشخص” سنة 1979 في الأردن، لينطلق بأغانٍ وألبومات مستقلّة توّجها بألبوم “الطربوش” من تلحين ملحم بركات وكانت آخر أعماله.

شخّص نصري شمس الدين أدوار: الملك والأمير والوزير والمتصرّف ورئيس البلديّة وشيخ المشايخ، الناطور والحارس والبويجي، خال فيروز وجدّها ووالدها، واشترك في الأفلام الثلاثة: بيّاع الخواتم، سفر برلك، وبنت الحارس، وفي جميع مسرحيّات الرحابنة وعروضهم التلفزيونيّة (باستثناء عرض الأسوار التلفزيونيّ). أمّا أوّل عمل جمعه مع السيّدة فيروز فكان بعنوان “كاسر مزراب العين” الذي سُجّل في 30 نيسان/ أبريل العام 1954.

نصري شمس الدين في مسرحية بترا مع فيروز

ظهر نصري شمس الدين في معظم مسرحيّات الأخوين رحباني بأدوار متعدّدة ومتنوّعة، حتّى أنّه أعاد معهما أداء دوره “المتصرّف” في مسرحيّة “الشخص” التي قدمت في لبنان وعمّان من دون فيروز. وكان هذا اللقاء الأخير معهما من دون فيروز. أمّا أشهر أدواره “الرحبانيّة” وأقواها، فكان في تجسيد شخصيّة الأمير فخر الدين في مسرحيّة “أيّام فخر الدين” سنة 1966، التي عرضت بين هياكل بعلبك، حيث تقدّمت بطولته في هذه المسرحيّة إلى المرتبة الأولى، بعدما كانت أدواره مع الرحبانيّين الثانية دائماً بعد فيروز، في معظم المسرحيّات الأخرى، وبقرار منهما.

لقد وجد الرحابنة في نصري البطل الرجل، الذكر، الذي واءم أعمالهما المسرحيّة إلى جانب فيروز، وأدّى بإتقان ألحانهما الغنائيّة وأحلامهما الموسيقيّة (مع ألحان شقيقهما الثالث الياس الرحباني) تماماً مثل فيروز، وبقوّة صوت توازي قوّة صوتها ورخامته. شكّل نصري بصوته المميّز ضالتهما الغنائيّة الذكوريّة إلى سنوات طويلة، ولطالما بحثوا عن بديل مماثل في مسرحّيات أخرى، بعد رحيله، ولم يتحقّق لهما هذا البديل بصوته القويّ وتلقائيّة أدائه التمثيليّ، خصوصاً بعدما كانت فيروز هي الأخرى قد ابتعدت نهائيّاً عن أعمالهما وكذلك عن أعمال منصور الرحباني بعد رحيل عاصي في سنة 1986.

ومن المعروف أنّ الرحبانيَّين أوكلا إليه تأدية أغنية الدبكة “جبليّة” في خلال إعادة عرض مسرحيّة “الشخص” سنة 1979 في لبنان وعمّان، بخروج واضح عن النصّ الأصليّ إذ أدّتها “بيّاعة البندورة” فيروز في المسرحيّة الأولى “الشخص” مطلع سنة 1968 على مسرح قصر “البيكاديللي” بيروت، إذ لم يجدا في الفنانة “رونزا” البديلة عن فيروز قوّة صوت توازي قوّة صوت فيروز في الغناء الفلكلوري، فكان اختيارهما لنصري من خارج النصّ.

“الرحلات الأخيرة”  لمالئ الدنيا بصوته الدافئ

كانت آخر أعمال فيروز مع الرحابنة في مسرحية “بترا” في العام 1978، وقد أدّى نصري فيها دور الوزير “ريبال”. لم يطل الأمر، وبعد مشاركته في إعادة مسرحيّة “الشخص”، انتهى التوافق بينه وبين الأخوين رحباني بنهاية هذه المسرحية، حيث ظهر بعدها نصري شمس الدين كمطرب مستقلّ على أسطوانات وأشرطة كاسيت، بما عُرف بألبوم “الطربوش” ضمن مجموعة من الأغاني التي لحّنها له ملحم بركات. شارك نصري في تأليف وتلحين بعض أغانيه على نحو أغنية “ليلى دخْل عيونها”.

كذلك لحّن قصيدة “بعرسك جيت غنّيلك قصيدة” التي غنّاها في عرس ابنته ألماظة وهي من كلمات مصطفى محمود. أسّس نصري فرقة جون للرقص الشعبيّ، وشارك في مهرجانات جبيل وبعلبك وبيت الدين. بعد اندلاع الحرب على لبنان في العام 1975 انطلق مع فرقته بجولة على مسارح العرب والعالم.

كانت آخر أعمال فيروز مع الرحابنة في مسرحية “بترا” في العام 1978، وقد أدّى نصري فيها دور الوزير “ريبال”

تزوّج نصري شمس الدين في العام 1956 من يسرى الداعوق وأنجب منها: مصطفى وألماظة (توأمان)، ميّ وماهر، ريما ولين (توأمان). في آذار/ مارس سنة 1983، وقبل توجّهه إلى “سوريا حيث كان مقرّراً إحياء حفلته الغنائيّة، “أُصبتُ بوعكة صحّيّة، شعرت بوالدي وكأنّه انهار، يعانقني يروح ويجيء في البيت، وما أن دخل إلى الحمّام حتّى سقط وشجّ رأسه، بعدها عبّر عن رغبته في تأجيل الحفلة ليبقى إلى جانبي، فأخبرته بأنني صرتُ بحال جيّدة وأنّ لديه ارتباطات لا يمكن إلغاؤها.

في هذه الفترة، تحدّث عن الموت، إذ قال: “أشعر أنني سأموت قريباً”، استغربنا، لكن، كان ما توقّع، توفّي كما مات والده نتيجة نزيف دماغيّ حاد”. والكلام لابنته ريما التي تملك صوتاً بروعة صوت والدها وشهادته، بيد أنّها توقّفت عن الغناء بعد وفاته، “لأنّه لم يكن يرغب أن أسلك هذه الدرب المليئة بالأشواك”.

الرّحيل المفاجئ

قبل منتصف ليل الجمعة 18 آذار/ مارس من العام 1983 تسلّم نصري من ابن أخيه عزّت شمس الدين مسرح نادي الشرق في دمشق، وبدأ وصلته بموّال جديد، ثمّ قدّم أربع أغنيات، كانت آخرها “الطربوش” حيث توقّف صوتُ نصري في منتصفها، وباللحظة ذاتها توقّف قلبه، ما شكّل صدمة للجمهور ولعائلته ومحبّيه على طول امتداد العالم العربي.

في لبنان، عُيّن الدّفن بعد ظهر يوم الاثنين (في 21 آذار)، وذلك لانتظار عودة عزّ الدين شقيق نصري من أميركا، وكذلك عودة مصطفى وألماظة من السعوديّة، وبعد أن كان مقرّراً نقل الجثمان بواسطة طائرة تصل صباح الأحد. في سوريا، اقترح عزّت نقل جثمان عمّه بسيّارة تابعة للصليب الأحمر اللبنانيّ ستصل إلى سوريا صباح السبت، وبعد انتظار هذه السيارة لأكثر من أربع ساعات بعد الموعد المحدّد، ما كان من عزّت إلّا أن وضع جثمان عمّه في صندوقة خشبيّة وربطها على ظهر سيارة أجرة، ونقله إلى جون عن طريق حمّانا- ضهور الشوير، وقد رافق النعش وفد من نقابة الفنّانين السوريّين حتّى الحدود اللبنانيّة السوريّة.

على الرغم من الطقس الماطر والبارد، انطلق أهالي جون صباح الأحد في شوارع بلدتهم حاملين صور الراحل، مردّدين الأهازيج الحزينة. وفي اليوم التالي سار أكثر من عشرة آلاف شخص من أهالي وأصدقاء ومحبّي نصري خلف نعشه، وسط نثر العطر والورد والأرز على الموكب من شرفات المنازل، وفي اللّحظة التي كان فيها جثمان نصري يعود إلى تراب بلدته، كان صوت التكبير يمتزج بقرع أجراس كنيستي جون.

في 14 آب/ أغسطس سنة 2005، احتفلت بلديّة جون وأهلها وعائلة الفنّان الراحل نصري شمس الدين بازاحة الستارة عن تمثال نصفيّ له (من أعمال الفنّان خليل ريشا، بينما تكفّلت العائلة ثمن صبّ التمثال بمادة البرونز) في حديقة البلدة التي أطلق عليها اسمه، تخليداً لذكراه ولمناسبة مرور اثنتين وعشرين سنة على رحيله.

متحف نصري شمس الدين؟

ثمّة حلم طويل لمّا يزل يراود عائلة نصري في تحويل “بيت العائلة” في ساحة جون القديمة، إلى متحف يضمّ بعض أغراضه وثيابه وألبوماته وصوره وأعمالاً فنّيّة أعدّت له في أوقات متفاوتة، خصوصاً بعدما قوّضت السنوات المتعاقبة بعد رحيله، أسسَ هذا الحلم، منها بشكل رئيس غياب التمويل، وأيدي الاعلاميّين والباحثين عن مسيرة نصري التي “تناتشت” أرشيفه المصوّر بعد غيابه، وضيّعته، صورة من هنا وأخرى من هناك، حتى لم يتبقَّ إلّا النزر القليل المنسوخ بشكل بدائيّ عن أساس لا تفقه العائلة أين أصبح.

نصري معتمراً الطربوش الذي رافقه في العديد من الأعمال الفنية

استطاعت العائلة أن تحافظ على طربوش نصري وآلتيّ عُوْد من أصل خمسة أعواد تركها، وخزانة زجاجيّة مقفلة في زاوية من زوايا البيت على جفته و”جربنديّته” و”مطرته” و”التقيّة” وميداليات “الدّاما”، ربّما في بقاء هذه الأغراض الشخصيّة التي كان يحبّها نصري ما يبدّد بعض القلق على ضياع حلقات إرثه.

يؤكّد مصطفى نصر الدين شمس الدين “أنّ الكثير من أرشيف نصري المصوّر، والذي كان يدأب على جمعه بنفسه، لم نعد نعرف أين أصبح. أتى كثرٌ بعد وفاته واستعاروا الصور ليكتبوا مقالات عن والدي، لا أتذكّر أنّ أحداً أخذ صورة ثمّ أعادها، حتى بات ألبومه شبه فارغ، ومجمل ما تبقّى، هي صور منقولة”.

إنّ أروع صور نصري التي تحتاج إلى ترميم، “تلك التي التقطت له في رحلات الصيد في حقول جون وضواحيها، قرب “عين حَيرون” حيث كان يطيب له “المرابطة” للصيد أو للإتكاء على زيتونة من كرم يزين “البيدر”؛ لحفظ نصّ أو سيناريو، أو التدرب على لحن رائع من ذلك الرصيد الذي وصل إلى حدود 1075 أغنية، ومشاركته في 19 مسرحية وثلاثة أفلام، كانت كفيلة في أن يترك بصمات صوته الجبليّ الهادر عذباً على الأغنية اللبنانيّة الشعبيّة التراثيّة بشكل عام والفلكلوريّة بشكل خاص” يقول مصطفى في حديث إلى “مناطق نت”.

رصيد تسجيلات غير مذاع

من عجائب الإهمال في لبنان أنّ نصري خلّف رصيداً من تسجيلات غنائيّة لم تُذعْ أبداً، برغم مرور أربعين عاماً على رحيله. يقول مصطفى شمس الدين: “إنّ ما بين 40 و45 تسجيلاً غنائيّاً لوالدي لم يُذع بالمطلق، حتّى الآن، فضلاً عن نحو مئة من أغنيات بُثّت حيّة على المسرح أو في أحد الاستديوهات فقط لمرة واحدة ولم تُذع ثانية”. منها أغنية “تفتا هندي”.

يقول مصطفى شمس الدين: “إنّ ما بين 40 و45 تسجيلاً غنائيّاً لوالدي لم يُذع بالمطلق، حتّى الآن، فضلاً عن نحو مئة من أغنيات بُثّت حيّة على المسرح أو في أحد الاستديوهات فقط لمرة واحدة ولم تُذع ثانية”. منها أغنية “تفتا هندي”.

أمّا لماذا هذا الإجحاف والتكتّم بحقّ صاحب الأغنية الجبليّة الحميمة؟ يردّ مصطفى: “عرضنا هذا الرصيد على بعض الجهات المموِّلة؛ وقد فوجئنا بأنّ هذه الجهات تريد أن تمتلك حقّ التصرّف المطلق بهذه الأغاني، حتّى ربّما في إذاعتها بأصوات غير صوت نصري؛ نعم، هناك من يسعى لمحاربة والدي حتى في قبره! ولم نجد أيّة جهة محلّيّة على نحو الإذاعة اللبنانيّة مثلاً، برغم أوضاعها المادّيّة الصعبة، لتصرّح بأنّها ستتولّى هذا الأمر في مقابل مردود ماليّ محدّد، يعود لريع إنشاء متحفه الذي نحلم به من سنوات طويلة ويقف العائق المادّي عقبة في ذلك”.

يتابع مصطفى:”تمكّنا حتّى الآن من أن نحفظ أرشيفه المسجّل بعيداً عن التلف؛ لكنّنا نعيش في قلق تامّ عليه؛ وجرّبنا مرّة وسجّلنا مع إحدى الشركات ألبوماً على سي دي CD تحت عنوان “تحيّة” قدّمنا فيه أغنية لم تذع قبل رحيل نصري عنوانها “راح الشهر”، وحتّى اليوم لم نتلقَّ من الوعود الماليّة أو الأرباح أيّ مردود؛ نخاف من استباحة هذه الثروة النادرة، تماماً مثلما يجري لأرشيف نصري الإذاعيّ والتلفزيونيّ الموزّع هنا وهناك من دون إلقاء تحية”.

أرشيف نصري

جرّبت عائلة نصري التعاون مع إحدى الجامعات الخاصّة في لبنان، لكي تحتفظ بأرشيفه وتخزّنه ضمن المواصفات التي تحميه من أيّ ضرر، وتقيه من أيّة عوامل خارجيّة أو التلف، لكنّ هذه الجامعة اشترطت الوصاية الكاملة لها على هذا الأرشيف وعدم تمكّن عائلته لاحقاً من إعادة استخدامه إلّا بشروط تفرضها الجامعة وقوانينها.

نصري في إحدى رحلات الصيد يستريح تحت شجرة ويراجع إحدى البروڤات

يقول مصطفى: “هناك أكثر من 100 أغنية هي من إنتاج والدي الخاص، أجريت بعض الاتصالات مع شركات وإذاعات لبثّها، لكنّ معظمهم يريد أن يدفع لاحقاً، ثم تبدأ المساومة وكأنّنا على بسطة خضار؛ هذا حقّ نحاول أن نحميه، وإرث يحقّ للعائلة بالقوانين المرعيّة الإجراء أن تستفيد منه، ولذلك نعيش الانتظار على أمل أن تأتي شركة محترمة تقدّر الفنّ وهذه الثروة المتروكة، وتقول نحن نأخذ هذا الأرشيف، ولنا كذا ولكم كذا؛ ليس الأمر ماديّاً فحسب، بل نريد من يحمي حقّ والدنا الذي هو حقّنا؛ هناك الكثير من أعمال والدي والعديد من الفنانين اللبنانيّين، مصانة في الخارج أكثر منها هنا، لماذا؟ لأن أعماله كانت محميّة هناك أكثر من هنا”.

ترك نصري بعد رحيله ثروة فنّيّة لا تقدّر، لكنّه لم يترك رصيداً مادّيّاً كافياً للعائلة يعيلها بعد غياب معيلها؛ ولأنّ الفنّان غير محميّ أو “مضمون”، فهكذا عائلته، التي كان عليها أن تناضل من أجل الإستمرار.

بعد وفاته حاول ابن عمّ نصري، عادل شمس الدين تأدية أغاني نصري في المناسبات من أجل ديمومتها، وكان صوته جميلاً، إلّا أنّه هو الآخر عاجله الموت المفاجئ في العام 2006 قبل أن يبلغ الخمسين.

تميّز نصري شمس الدين بصوت رائع لا مثيل له، فضلاً عن خفّة دمه وروحه المرحة. وهو يُعتبر بحقّ عملاقاً من عمالقة الفن في لبنان والعالم العربي. ويعدّ نصري شمس الدين إضافة إلى وديع الصافي أنّهما كرّسا من دون منافسة ما يُطلق عليه “الأغنية الجبليّة اللبنانيّة”. ولمّا تزل الأجيال بعدهما تتأثّر بإرثهما، ويشكّل نجاح تقليدهما باب عبور إلى النجاح في مباريات الموسيقى والصوت التي تجري بين حين وآخر.

مع وليم حسواني وجوزيف ناصيف
نصري في إحدى رحلات الصيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى