وادي الحجير يقطف خروبه والموسم يضيع في القرى الحدودية
من شجرة برّيّة مُهملة تنتشر في الأودية وعلى الجبال، إلى شجرة مثمرة ومنتجة، لكنّها في كلا الحالتين تبقى خضراء على مدار العام، لا تحتاج إلى أيّ رعاية أو حتّى إلى ريّ بالمياه في فصل الصيف، فتتدبّر شؤونها بنفسها ولا تبخل في نشر ظلالها الوارفة، وإنتاج الأوكسيجين وتنقية الهواء، وأن تكون ملجأً للهاربين من أشعّة الشمس الحارقة، فتتحوّل إلى ملاذ آمن للاحتماء بفيئها من قيظ الصيف.
اجتاحت القرى الجنوبيّة في السنوات الأخيرة زراعة شجر الخرّوب، في حين ذاع صيت الشجرة وإنتاج الدبس من ثمارها في منطقة إقليم الخرّوب (الشوف) القريبة من صيدا وساحل الدامور، فسمّيت باسمها. في التسعينيّات ومطلع القرن الـ21 لم يكن مزارعو الجنوب يهتمّون بزراعة هذا النوع من الشجر، اعتقادًا منهم أنّ إنتاج هذه الشجرة لا يحقّق أرباحًا كما الأشجار المثمرة الأخرى، وحتّى أنّ صناعة الدبس كانت تحتاج إلى جهد وعناء كبيرين، في ظلّ فقدان أسواق تصريفها.
الخرّوب يجتاح القرى
بعد تحرير الجنوب في العام 2000 اختلف المشهد، إذ بدأت أشجار الخرّوب تنتشر على جوانب الطرقات وقرب المنازل وبدأت تؤتي ثمارها. بادرت البلديّات ومعها أصحاب الأراضي المزروعة خرّوبًا إلى استغلال ثماره، وتوزيع دبسه بالمجّان أو بأسعار متهاودة على الأهالي.
وبنتيجة انتشار الخرّوب في معظم القرى والبلدات الجنوبيّة، أنشأ عدد من المستثمرين، لا سّيما في بلدات طيرفلسيه والطيبة وعربصاليم وغيرها، معاصر دبس الخرّوب، وراح أصحاب المعاصر يشترون الكيلوغرام الواحد من الخرّوب بنحو ألفي ليرة لبنانيّة قبيل الأزمة الاقتصاديّة، ليرتفع إلى أسعار قياسيّة منذ حوالي ثلاث سنوات، ومن ثمّ يعود ليهبط منذ سنتين.
الموطن الأصليّ
إنّ الموطن الأصلي لهذه الشجرة هو حوض البحر الأبيض المتوسّط خصوصًا جزيرة قبرص وساحل جنوب آسيا الصغرى، سوريا، ليبيا، أسبانيا، الجزائر، مصر وتونس. يدلّ الإسم الأجنبيّ للخرّوب، بالإنكليزيّة “Carob”، و بالفرنسيّة “Caroubier”، على أنّه مشتقّ من العربيّة، والعرب هم من أدخلوا هذه الزراعة إلى جنوب أوروبّا خلال القرون الوسطى.
شجرة الخرّوب مستديمة الخضرة بطيئة النموّ، ذات فروع غزيرة، كبيرة الحجم يصل ارتفاعها إلى حوالي 30 مترًا، تحمل أوراقًا مركّبة ريشيّة فرديّة لامعة، أمّا الوريقات فهي بيضيّة جلديّة لامعة، متقابلة من ثلاث إلى 13 وريقة، الأزهار ثنائيّة وأحيانًا قليلة أحاديّة صفراء محمرّة في عناقيد تظهر في الخريف. والثمار عبارة عن قرون منضغطة طريّة نوعًا ما بداية فيها حواجز عرضيّة يتراوح طولها بين 10 و20 سنتيمترًا، ثم بنّيّة قاتمة أو مسودّة سميكة جافّة ممتلئة بلبّ حلو المذاق يحوط البذور، وذلك عند النضوج.
يحتوي ثمار الخرّوب على نحو 50 في المئة من وزنه موادّ سكّريّة، وقبل النضج يكون مذاق القرون قابضًا لوجود مادّة التانين، تُثمر الأشجار مبكرًا، أيّ بعد ثلاث سنوات إلى سبع سنوات من زرعها، ولكنّ البذور الجيّدة لا تؤخذ إلاّ من ثمار الأشجار الكبيرة التي يبلغ عمرها عشرين سنة.
انتشار الخرّوب في معظم القرى والبلدات الجنوبيّة، أنشأ عدد من المستثمرين، لا سّيما في بلدات طيرفلسيه والطيبة وعربصاليم وغيرها، معاصر دبس الخرّوب
وادي الحجير يقطف خرّوبه
في توقيت لافت وظروف أمنيّة متوتّرة، وفيما تشهد القرى والبلدات الحدودية الواقعة على خط النار والقصف المستمر، نزوحًا مستمرًا أدّى إلى ضياع المواسم ومنها الخروب، أعلنت “محمّية وادي الحجير” في جنوب لبنان، عن إطلاق مناقصة للمزارعين بغية قطف محصول أشجار الخرّوب في المحميّة. ويلفت مدير المحميّة مرعي عوالة في حديث لـ”مناطق نت”، إلى “أنّها ليست السنة الأولى التي نعلن فيها عن هذه المناقصة، لكن هذا العام أخذت صدًى واسعًا نظرًا إلى الإعتداءات الإسرائيليّة المتواصلة على المناطق الجنوبيّة منذ 11 شهرًا، ومخاطر عمل المزارعين في جنوب لبنان”.
يضيف عوالة: “تلقّت المحميّة أكثر من ثلاثين عرضًا، وهو دليل على ثبات ومواجهة المزارعين الجنوبيّين لقطف محاصيل أراضيهم، على رغم الخطر الأمني والتهديد الإسرائيليّ. فالمحميّة التي تبلغ مساحاتها 26 كيلومترًا مربّعًا، لها رمزيّة مغايرة عن أيّ منطقة في لبنان، نظرًا إلى أنّ محاصيل الخرّوب فيها، تُقطف تحت القصف”.
عن خطورة الوضع الأمنيّ، يشير عوالة، إلى “أنّ الموسم مربح ويستدعي تعاونًا من أجل قطافه”. وهذا ما ستواكبه إدارة المحميّة والبلديّات التي تقع ضمن نطاقها الجغرافيّ، إضافة إلى شرطة المحميّة وعناصر الدفاع المدنيّ والهيئة الصحّيّة الإسلاميّة. وسيكون هناك تقدير للوضع الأمني في التحرّك على الأرض، فبعض الأماكن المزروعة من الممكن قطافها، والبعض الآخر يصعب الوصول إليه”.
تمتدّ المحميّة من مجرى نهر الليطانيّ في منطقة قعقعيّة الجسر، مرورًا بقرى الطيبة، دير سريان، فرون، الغندوريّة، القنطرة، عدشيت القصير، برج قلاويه، قلاويه، خربة سلم، الصوّانة، تولين، قبريخا، بني حيّان، طلّوسة، مجدل سلم، حولا، شقرا، ميس الجبل، محيبيب، وصولًا إلى مثلث بلدة عيترون في قضاء بنت جبيل.
30 طنًّا من الخرّوب
رست مناقصة وادي الحجير لقطف محصول أشجار الخرّوب على ابن بلدة تولين الجنوبيّة حسن عقيل، الذي قال لـ”مناطق نت”، إنّه “اتّخذ قرار الدخول بالمناقصة من أجل المحافظة على الأشجار في المحميّة، كونها مُنتجة وتحتاج إلى عناية تشحيلها (تشذيبها) وتنظيفها تفاديًا لتعرّض المنطقة إلى خطر اندلاع الحرائق”. يتابع عقيل: “هدفنا المحافظة على أرضنا على الرغم من الاستهدافات الإسرائيليّة للمنطقة، والعمل الذي أقوم به ليس تجاريًّا في المرحلة الحاليّة، فربّما سأتكبّد كلفة وخسارة من جيبي، لاضطراري إلى التوقف عن القطاف في مناطق معيّنة، هي القريبة من قبريخا ووادي السلوقي، إذ احتاج في اليوم الواحد إلى 40 دولارًا أميركيًّا أجرة للعامل، عدا عن كلفة الوقود اليوميّة التي أحتاجها للتنقّل في المحميّة”.
يُنتج الموسم نحو 30 طنًّا من الخرّوب وفق عقيل، إذ يبيع الكيلوغرام الواحد منه بـ 18 ألف ليرة إلى أحد معامل الخرّوب المخصّصة لإنتاج الدبس في بلدة طيرفلسية، والبقيّة منه تباع للمهتمّين. ويشير عقيل إلى أنّ “الموسم الحاليّ لم يكن جيّدًا، بسبب عدم القدرة على الاهتمام بالأشجار، والظروف الناتجة عن الحرب المندلعة منذ قرابة عام، ففي السنوات الماضية كان الإنتاج لا يقلّ عن 50 طنًّا في المحميّة”.
يتحدّث عقيل عن أهمّيّة زراعة شجرة الخرّوب “نظرًا إلى مظهرها الجميل على جوانب الطرقات، ومحصولها المنتج الذي يعود على المزارع بالربح، تمامًا كما زرع أشجار الصنوبر التي تعطي جمالًا على جوانب الطرقات ويستفيد السكّان من محصولها وتستثمر في مشاريع زراعيّة”.
حسن عقيل: الموسم الحاليّ لم يكن جيّدًا، بسبب عدم القدرة على الاهتمام بالأشجار، والظروف الناتجة عن الحرب المندلعة منذ قرابة عام، ففي السنوات الماضية كان الإنتاج لا يقلّ عن 50 طنًّا في المحميّة
قرن من زراعة الخرّوب
على عكس الشائع أنّ زراعة الخرّوب زراعة حديثة، يقول رئيس التعاونيّة الزراعيّة في منطقة عربصاليم (إقليم التفّاح- النبطية) قاسم حسن لـ”مناطق نت”، “إنّ زراعة الخرّوب بدأت منذ مئة عام في لبنان، وفي مناطق عديدة من الساحل وصولًا إلى مرتفعات تصل إلى 700 متر، و تتواجد في قضاء البترون والشمال اللبنانيّ والقرى الحدوديّة التي أخذت تنمو فيها الزراعة”.
حسن الذي يملك معصرة دبس خرّوب، يضيف: “إنّ الزراعة توسّعت بعد العام 2000، عبر حملات تشجير قامت بها البلديّات في القرى الجنوبيّة وشهدت تطوّرًا منذ العام 2010. في حين لا توجد أرقام دقيقة حول كمّيّة الإنتاج، إلّا أنّ لبنان يضمّ نحو 230 ألف شجرة خرّوب مزروعة بين الجنوب والشمال، ولا يوجد إحصاء لعدد المزارعين، إذ هناك فرق بين من (يصوّن) أيّ يزرع محيط منزله بشجر الخرّوب، وبين المزارعين ممّن يملكون أراضٍ كبيرة للاستثمار، يقال إنّ عددهم يقارب 150 مزارعًا”.
الخرّوب بين الغذاء والطبّ
“في الوقت الراهن تعتمد زراعة الخرّوب على إنتاج صناعيّ واحد هو منتج دبس الخرّوب، إلّا أنّ هناك عديدًا من المزارعين تنبّهوا إلى فوائد الخرّوب الأخرى، منها ما يُستخدم لصناعة موادّ تجميليّة وبعض الأدوية العلاجيّة الأخرى. وتبيّن أنّ شركات أجنبيّة تشتري الخرّوب بأسعار مرتفعة، لا سيما بذار الخرّوب (قرونها) كي تستخدم في صناعة الأدوية”، وفق عوالة.
على الرغم من أهمّيّة الخرّوب، وحاجاته للاستعمال في منتجات غذائيّة وطبيّة عديدة، لم ينطلق لبنان بأيّ منها، نظرًا إلى غياب الدعم الرسميّ من الدولة ووزارة الزراعة، إذ يباع كيلو الخرّوب بسعر يراوح بين 20 و25 ألف ليرة لبنانيّة، في حين من المُفترض أن يُباع بسعر بين 35 و45 ألف ليرة لبنانيّة. أمّا دبس الخرّوب فيُصرّف محلّيًّا فقط، ولا يُصدّر منه سوى إلى بلدان محدّدة كالأردنّ ومصر فيستخدم كشراب الخرّوب وليس دبسًا.
صلابة شجرة الخرّوب
لا يحتاج الخرّوب إلى أرض قويّة، ولا إلى ريّ بشكل دائم، بل يحتاجه فقط في أوّل ثلاث سنوات من زراعته. تتأقلم الشجرة بشكل سريع وهي مثمرة وخضراء على مدار السنة فلا تتعرّى في فصل الشتاء. وهي من الأشجار التي تتحمّل الحروق، في حال تعرضها للإحتراق فتعود للتفريخ بشكل سريع، وتحافظ على التنوّع البيولوجيّ حولها. والثمرة التي تُنتجها تصلح للطعام وعلفًا للحيوانات.
ومن يرد من المزارعين الاعتماد على زراعة الخرّوب عليه اختيار أنواعًا منه يعطي ثمرًا جيّدًا، لا سيّما الشتول القبرصيّة والإسبانيّة كي تدرّ عليه إنتاجًا جيّدًا بعد البلوغ.
الثمار إلى دبس
يجري قطف ثماره بعد نضوجه وتحوّل لونه إلى الأسود في أواخر شهر آب (أغسطس)، ويتمّ تجفيفه تحت أشعّة الشمس مدّة من الوقت، ثم ينقل إلى المعمل حيث تكون فرّامة الخرّوب بانتظاره، وبعد فرزه وتقطيعه يعمل غربال على تنقية كسر الخرّوب الصغيرة والكبيرة من الشوائب، فيذهب الكسر نقيًّا إلى التخمير، ويحفظ في غرفة معتمة مدّة تراوح بين شهرين إلى ثلاثة أشهر كي يختمر جيّدًا، بعدها ينقع في الماء مدّة ثماني ساعات لاستخراج عصارته التي يمكن تحويلها إلى شراب يفيد في أمراض المعدة، ثم يطبخ على نار البخار الذي يوفّره جهاز “الشاديار” مدة أربع ساعات قبل أن يصبح دبسًا جاهزًا للتناول أو البيع.
حلويّات الخرّوب صحّيّة
على صعيد الصناعات الغذائيّة، يستعمل الخرّوب في صناعة شراب يُستخرج من عصارته، إضافة إلى مسحوق الخرّوب الذي يستخدم بديلًا من “الكاكاو”. وبدأت بعض ربّات المنازل ممّن يعملن في تحضير المؤونة البيتيّة بإدخاله في تصنيع الحلويّات كونه يحتوي على نسب عالية من السكّر الطبيعيّ.
بدأت السيدة أحلام حنجول (53 عامًا) من بلدة عربصاليم، تصنع منتجات وحلويات من دبس الخرّوب منذ العام 2017، بعد دورة تعليميّة خضعت لها مع ثلاث سيّدات. استغرقت تجارب حنجول سبعة أشهر من الوقت قبل أن تتمكّن من صناعة خلطة مُعتدلة من دبس الخرّوب تلائم الحلويّات، إذ إنّ دبس الخرّوب لا يتلائم مع عديد من المُطيّبات، وبعد محاولات عدّة، استطاعت حنجول مع نساء من بلدتها تصنيع حلويّات تتكوّن من التمر والشوفان والصعتر (الزعتر) والكرواسّون، لبيعها في البلدة. ومن ثمّ شاركن في عديد من معارض المؤونة.
تقول أحلام لـ “مناطق نت”: “تراجعت مشاركتي بشكل كبير في المعارض هذا العام بسبب الحرب، وحين شاركت في أحد المعارض في بيروت، تبيّن لي أنّ اهتمام المواطنين اقتصر على شراء المؤونة الأساسيّة، إذ اعتبروا أنّ هذا النوع من الحلويّات الصحّيّة من الكماليات الغالية الثمن”.
وتشير حنجول إلى أنّها لا يمكنها تخفيض أسعار منتجاتها، نظرًا إلى الكلفة العالية التي تتكبّدها في صنع الحلويات وتغليفها، والتسويق وأجرة العاملات معها. وتعطي مثلًا: “إنّ كيلوغرام الخرّوب الذي يُشترى من المعمل يبلغ سعره بين 20 و25 ألف ليرة، بينما يبلغ سعر الكيلوغرام الواحد من بودرة الخرّوب (أي السكّر) ثمانية دولارات أميركيّة، ولا يمكن مقارنته مع كيلوغرام السكّر العاديّ الذي يبلغ سعره نحو 70 ألف ليرة لبنانيّة. ويحتاج الخرّوب إلى اهتمام عال، وتتطلّب الحلويّات كمّيّات كبيرة من الخرّوب حتّى تصل إلى حلاوة معيّنة”، فأسعار المنتجات التي تصنعها حنجول تتراوح أسعار الكيلوغرام الواحد منها بين 17 و20 دولارًا أميركيًّا.
إشارة إلى أنّه وفق التراث الزراعيّ الشعبيّ، فإنّ دبس الخرّوب، مفيد لمرضى السكّريّ، فضلًا عن أنّه علاج فعّال للإمساك، لأنّه يسهّل عمليّة الهضم وينشّط عمل المعدة، ويساعد الأمّهات المرضعات على إدرار الحليب.
“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.