وصلة المنصورية.. والدولة المقطّعة !
زهير دبس
تختزل الصور المتواترة من المنصورية وما يتصل بها من تطورات الكثير من الدلالات والاستنتاجات تجعل من وصلة التيار الكهربائي العالقة فيها منذ ١٥ عاماً الحلقة الأضعف من بين تلك الصور. وهي تتخطى صورتي الرجل الثمانيني أثناء غضبه ومن ثم تقييده بالأصفاد، وتتعدى صورة وقوف قوى الأمن في مواجهة المواطنين ومن ثم تزعم حزب الكتائب الحملة ضد الوصلة وغيرها من الصور. الصورة الأكثر وضوحاً وسطوعاً والتي تتوارى خلف تلك الصور هي صورة الدولة المهترئة أو صورة انتفاء هذه الدولة التي لم يبقَ منها سوى الإسم عالقاً على ألسنتنا لكنه سقط كفكرة وكمنظومة من رزنامتنا وثقافتنا، وما يجري الآن هو الاعتياد على هذا السقوط، وهو ما تذكرنا به أحداث مثل وصلة المنصورية أو مكب برج حمود أو الكوستا برافا أو جسر جل الديب أو اسمنت الأرز في عين دارة أو غيره من المواضع التي تعيد تأكيد انتفاء الدولة وسقوطها.
وبعيداً عن الأحقية التي يتمترس وراءها كلا الطرفين منذ سنوات طويلة حول جواز مرور تلك الوصلة فوق المنازل أو عدم جوازها. يبدو أن هناك شيئاً ما، هو الذي يحتاج إلى وصل ولا يمت إلى التيار الكهربائي بصلة، وهو الثقة المفقودة بين ما يفترض أنه دولة وبين مواطنيها والتي كرست وصلة المنصورية سقوطها المدوي. فصورة المواطنين وهم يحملون الصليب في مواجهة القوى الأمنية لها دلالة رمزية عميقة تؤكد هذا السقوط وتؤكد أن الناس لم تلجأ في ملماتها إلى الدولة كمرجع وإلى القضاء كملاذ بل لجأت إلى الطائفة كحامٍ وملاذ ومرجع وهو ما تُرجم بالذهاب إلى بكركي لحل المشكلة حيث تحولت الأخيرة مرجعاً وملاذاً وبديلاً عن الدولة ومؤسساتها التي صارت طرفاً فاقداً للأهلية في معالجة الأمور.
وبغض النظر عن مستوى الخطر الذي تشكله «وصلة المنصورية» فإن رفع الناس للصليب في مواجهة القوى الأمنية يؤشر إلى أن خطراً وجودياً شعر به هؤلاء وشهروا بوجهه الصليب كرد على ذلك الخطر، ويؤشر أيضاً إلى الإمعان في تطييف الاحتجاجات الشعبية بوصفها تستهدف فئة طائفية بعينها دون سواها.
لم تنفع كل المؤتمرات والتصريحات والتطمينات التي تستند على دراسات علمية كما قالت وزيرة الطاقة ندى البستاني من إقناع أهالي المنصورية من أن لا خطر على حياتهم جراء تلك الوصلة، وهي تدل إلى أن هوة عميقة اتسعت بين الناس والدولة تحتاج الى ردم قبل وصل تيار كهربائي هنا ووصلة هناك. فالدولة فقدت مصداقيتها لدى الناس الذين أصبح لديهم فائض في عدم الثقة وينظرون الى كل ما تقوم به بعين الشك والريبة والتوجس، ويتلقفون كل ما تقوم به ضمن خانة «رجس من أعمال الشيطان فاجتنبوه»، وسيكون مردوده سلبيا على الناس.
لعبة المعارضة والسلطة هي الأخرى سقطت في كل اختبار من الاختبارات الكثيرة التي يمر بها البلد وهي أصبحت باهتة وممجوجة وهذا ما بينته «وصلة المنصورية» التي تناوب على الاعتراض عليها قوىً كانت ضدها ثم عادت وصارت معها، وهي تعكس الخلل الوظيفي في أداء ما يسمى «المعارضة» التي أُفرغ دورها من أي محتوى وصار شكلاً لا يمت بصلة إلى مصالح الناس الحقيقية والدفاع عن مصالحها، بحيث تحوّلت إلى كليشيهات فارغة همها التسلق فوق أوجاع الناس لتتخذ منها منصة على قاعدة «الرعيان بوادٍ والقطعان بوادٍ».
مشكلة «وصلة المنصورية» هي أبعد من مد خطوط للتوتر العالي الكهربائي فوق منطقة سكنية، هي مشكلة دولة سقطت كفكرة وكمفهوم وكمنظومة من أذهان الناس ومن انتظام حياتهم، والخطورة إلى أن الناس فقدت مسألة بالغة الأهمية وهي أن الدولة لم تعد تشكل بنظرهم المظلة الآمنة التي يحتمون تحتها. وسواء تم مد الوصلة الهربائية فوق الأرض أم تحتها أو من خلال خيار شراء الشقق السكنية في محيط «الوصلة»، فإن منطق الاعتراض «المنصوري» وما آلت إليه أموره وما استدعاه من وقت طويل، يستتبع اعتراضاً آخر في مناطق أخرى وعلى الطريقة نفسها، وقد يحل محل بكركي دار إفتاء أو دار فتوى، في رحلة بحث شاقة عن دولة تشظت وتبعثرت، فيما يجهد المطالبون بها بالتفتيش عنها فلا يجدونها فتصبح المطالبة بها هي مطالبة على طريقة «بدل عن ضائع».