وُلدت في مركز نزوح بحرب 2006 واليوم تعود إليه نازحة
بين حرب تموز (يوليو) 2006 التي استمرت 33 يومًا، وبين تشرين الثاني (أكتوبر) 2024 مرت 18 عامًا، وبينهما ثمّة حرب ثانية شنّتها إسرائيل على أشدّها. بين الحربين تولد حكايات وتختبئ طيّ التفاصيل، يوقظها الوجع الآتي من خلف الدمار ومعاناة النزوح. لكلّ جنوبيّ حكايته مع الحرب والترحال، لكن لشيماء حبيب سرور الصبيّة الجنوبيّة حكاية مختلفة، سترافقها على مدى العمر المتناثر بين الحروب والتهجير.
قدر شيماء أنّها أبصرت النور إبان النزوح، حيث لجأ أهلها إلى زغرتا جرّاء حرب تموز العام 2006. لكنّ المفارقة أنّ الحكاية تأبى أن تطوي أوراقها على حدث الولادة وتفاصيله، فتعود وتتفتح على مصراعيها، إذ عادت شيماء بعد 18 عامًا نازحة إلى مركز الإيواء نفسه الذي وُلدت فيه، هربًا من عدوان أشدّ وحشيّة وأكثر قسوة، وها أنّ تفاصيل أخرى دونتها الأيّام وتبعات الحروب الإسرائيلية المتكررة على الجنوب تسجّل فصولًا مضافة إلى رواية شيماء.
إلى حيث وُلدت بعد 18 عامًا
تتحدّر شيماء من قرية المنصوري في قضاء صور، وُلدت إبّان حرب تمّوز في زغرتا، بعدما كانت والدتها في شهرها الأخير من الحمل، آنذاك اضطرّت الأم إلى النزوح من ضيعتها التي تعرّضت لقصف إسرائيليّ عنيف. وبعد مرور 18 عامًا، تجد شيماء نفسها تعيش التجربة عينها لما مرّت به عائلتها، فالحرب تجدّدت، والصواريخ تنهال على الجنوب، ممّا أجبر العائلة على النزوح مرّة أخرى. تقول شيماء لـ “مناطق نت”: “أشعر أنّني أعيش في حلقة مفرغة. لقد وُلدت خلال حرب، وها أنا أعود إلى زغرتا الآن بسبب حرب أخرى.”
تتحدّث شيماء عن الرحلة التي عاشتها هذه المرّة بعيون شابّة تحمل ذكريات قصّتها الخاصة: “كان الأمر مختلفًا بالنسبة لي هذه المرّة. في 2006، لم أكن أدري بما يحدث، أمّا اليوم، فقد رأيت الخوف، وكنت أشعر بالقلق مع كلّ قصف كنّا نسمعه. الرحلة إلى زغرتا استغرقت كثيرًا من الوقت، بسبب الطرق المغلقة والخطر الذي كان يحيط بنا من كلّ حدب وصوب. كنّا نمر بالقرى التي تتعرّض للقصف وكأنّنا نسابق الزمن للوصول إلى برّ الأمان.”
على رغم هذه الصعوبات، لم تستطع شيماء إخفاء مشاعرها تجاه زغرتا، المدينة التي شهدت ولادتها، تصف ذلك: “عندما وصلنا إلى زغرتا، كنت أشعر بشيء من الراحة والحبّ. هنا وُلدت، ولطالما سمعت قصصًا من أهلي عن هذه المدينة. شعرت أنّني أعود إلى جزء من هويّتي، إلى مكان له رمزيّة كبيرة في حياتي. كنت أتمنّى أن أزور زغرتا في ظروف أفضل، وليس هربًا من الحرب.”
حلم بين حرب وحرب
شيماء التي حلمت بزيارة زغرتا حيث أبصرت النور سائحة، وجدت نفسها مجدّدًا في وسط نزوح آخر ومخاوف لاتوصف. “كنت أتخيّل أنّني سأزور زغرتا لأكتشف أماكنها الجميلة وأستمتع بوقتي هنا، لكنّني الآن هنا تحت ضغط الحرب. ومع ذلك، أهل زغرتا كانوا رائعين، استقبلونا وكأنّهم يعرفوننا منذ زمن. الكرم هنا لا يوصف، والناس يتعاملون معنا كأهل وأقرباء.”
وعلى رغم الحفاوة التي لاقتها شيماء وعائلتها في زغرتا، لا يزال الحنين إلى الجنوب يتمكّن منها. تقول: “اشتقت كثيرًا إلى بيتنا في الجنوب، لكنّنا نحاول أن نحتمل الوضع قدر الإمكان. الأمل دائمًا موجود بأن نعود قريبًا بسلام، وأن تنتهي هذه الحرب بالنّصر.”
أمّا “أبو جهاد”، وهو خال الشابّة شيماء، فيتحدّث عن رحلته الشاقّة، إذ في خضمّ حرب تموز 2006، واجه مع عائلته السيناريو ذاته، واليوم في العام 2024، يجد نفسه يعيش تجربة مشابهة.
شيماء: كنت أتخيّل أنّني سأزور زغرتا لأكتشف أماكنها الجميلة وأستمتع بوقتي هنا، لكنّني الآن هنا تحت ضغط الحرب. ومع ذلك، أهل زغرتا كانوا رائعين، استقبلونا وكأنّهم يعرفوننا منذ زمن.
الرحلة الأولى حرب 2006
يقول أبو جهاد لـ “مناطق نت”: “أنا من المنصوري قضاء صور، في العام 2006 نزحت أنا وعائلتي إلى زغرتا، تلك المدينة التي استقبلتنا وقتها كأنّنا من أهلها. أختي كانت عالقة في صيدا، كانت حاملًا في شهرها الأخير، والطريق كان مقطوعًا بسبب الحرب. كانت رحلة صعبة وشاقّة، لكنّها تمكّنت بعد يوم كامل من الوصول إلى زغرتا، على رغم المخاطر والعذاب. وصلنا نحو الساعة الثانية فجرًا، وبعد ساعتين، بدأت أختي تشعر بمخاض الولادة. أخذناها إلى مستشفى الشمال في زغرتا، وهناك ولدت طفلتها شيماء.”
يتذكّر أبو جهاد بوضوح تلك اللحظات، وكيف استقبلتهم مدينة زغرتا بحفاوة ودعم لا يوصف. “أهل زغرتا قدّموا لنا كلّ ما نحتاجه، وكأنّنا نزلنا في بيتنا. كانت فرحتنا كبيرة لأنّ الولادة تمّت بنجاح وسلامة. وهكذا أصبحت شيماء ابنة زغرتا، وهذا شرف نعتزّ به.”
الرحلة الثانية حرب 2024
بعد مرور 18 عامًا، يعيش أبو جهاد وعائلته تجربة النزوح مرّة أخرى، لكن بظروف أقسى. يتذكّر “كنت في عملي عندما بدأت الغارات، بيتي قريب جدًّا من الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة، وكانت القذائف تسقط بشكل كثيف حولنا. في إحدى الغارات، استشهد خمسة أفراد من جيراننا، فاضطررت إلى إخراج عائلتي على الفور. كانت الطريق إلى زغرتا مرعبة وخطيرة، الغارات تلاحقنا في كلّ قرية نعبر بها، عشنا على أعصابنا يومين ونصف اليوم حتّى وصلنا إلى زغرتا.”
يتابع: “في كلّ مرّة كنّا نعتقد أنّنا وصلنا إلى برّ الأمان، كنّا نعود ونسمع دويّ الانفجارات يقترب منّا. الأطفال كانوا مرعوبين، ولداي شاهدا الدمار والقصف بأعينهما. مررنا وسط القرى المدمّرة، وكان الموت والدمار في كلّ مكان”.
حرب التكنولوجيا الأصعب
يصف أبو جهاد هذه الحرب بأنّها “أصعب حرب” عايشها، ويضيف: “التكنولوجيا الإسرائيليّة في هذه الحرب مختلفة تمامًا. الدمار يحدث بسرعة هائلة، المنازل تُسوّى بالأرض في لحظات، والضحايا دائمًا من المدنيّين الأبرياء، الأطفال والنساء”. ويشير أيضًا إلى أنّ الاحتلال دمّر بيوت العبادة، الكنائس والمساجد، وارتكب المجازر علنًا”. ويردف: “نحن ندافع عن أرضنا وعن حقّنا في الحياة، والله معنا.”
أمّا عن زغرتا، فيجد أبو جهاد وعائلته في البلدة الجميلة حضنًا دافئًا يستقبلهم وسط المعاناة، ويقول: “أهل زغرتا لم يتغيّروا. كرمهم وحنانهم هو هو كما عرفناهم. لا تجد منهم سوى الابتسامة والدعم. هم أكثر من أصدقاء، إنّهم إخوتنا وأهلنا. هذا الشعب لا يوصف بحسن معاملته وضيافته.”
على رغم كلّ التحدّيات التي تواجههم، يشدّد أبو جهاد على أهمّيّة الوحدة بين اللبنانيّين في هذه الأوقات الصعبة. ويختم: “لدينا عهد بأن نحافظ على هذه الروابط القويّة التي جمعتنا. وإن شاء الله، سنعود منتصرين إلى أرضنا”.
“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.