“يارين” و”البستان” وهجرة القرى.. من مناطق حدودية نائية إلى الوسط في العاقبية والبابلية
عندما تعبثُ الحروب بالجغرافيا
قبل أكثر من 45 عامًا، لم يكن يدري أهالي بلدتي “يارين” و”البستان” المتاخمتين للحدود مع فلسطين المحتلة، أن بلدتيهما ستنتقلان إلى مكان آخر لتصبحا معه مكانًا للذكريات.
تُشير إحصاءات إلى أنّ نحو 90 % من أهالي بلدتي يارين والبستان والقرى المحيطة بهما يسكنون في بيروت وفي الجنوب، ويشكلون في العاقبية قضاء صيدا أكبر تجمع لهم، حيث استقروا في منطقة تُعرف بـ”عرب يارين”. وأيضًا بين بلدتي أنصار والبابلية تُعرف بـ “ضيعة العرب”.
يشير محمد أبو عُقلة، وهو من سكان يارين، أن الناس جاؤوا إلى المنطقة في العام 1977، جراء الاعتداءات الإسرائيليّة المتكررة على منطقتهم المتاخمة للحدود مع الأراضي الفلسطينيّة. يستذكر العقلة: “قضى 14 فردًا من بلدتي وتمّ إضرام النار بجثثهم، وهناك فقدت أخي الذي كان عسكريًا في الجيش اللبناني ولم يُعرف عنه شيئا”. ويضيف:”بقي في يارين حوالي 15 بيتًا فقط”.
قبل مجيئهم إلى منطقة العاقبية، تنقّل أهالي يارين كنازحين من منطقة إلى أخرى. سكنوا في المدارس وفي البساتين، وكان مقررًا أن يعودوا إلى مناطقهم، لكن الأيام والسنين مرّت دون عودتهم.
لا يقتصر سكان الحي على أهل يارين كما يشير العقلة، بل هناك أشخاص تعود أصولهم إلى بلدتي مروحين والبستان ولكن النسبة الأكبر هم من أهالي يارين. يتابع “في البداية جاء خمس عائلات إلى هذه المنطقة التي تُعد أراضٍ مشاع تابعة للدولة اللبنانية” ويذكر العقلة من هذه العائلات: خلف، أبو دلّة، والقاسم.
بدايات صعبة!
أقاموا شوادرًا وتخاشيب من الصفيح، وبحكم خبرتهم في الزراعة صاروا يعملون في البساتين الموجودة في مناطق الجوار، ومع الوقت بنوا منازلهم على مراحل لتكون ما هي عليه الآن، يشير العقلة أنّه تم إيقافهم مرات عدة وتعرضت بيوتهم للهدم أكثر من مرة من قبل الدولة كونهم مخالفين.
يذكر الحاج محمد أبو دلة، أن المنطقة كانت خاليّة من مقوّمات العيش قبل أن يستقروا فيها، وقد سعوا بأنفسهم لبنائها وتأمين خدمات الماء والكهرباء، بأياديهم حفروا بئرًا للمياه الإرتوازية بمعونة الرئيس ياسر عرفات “أبو عمار” حيث كان الفلسطينيون ينتشرون في تلك المنطقة، وتم تمديد شبكة مياه.
يضيف: “قمنا بتمديد كابلات الكهرباء من المنطقة المجاورة بإمكانات مُتواضعة وتثبيتها على ألواح خشبية”. كما قدموا طلبات لتركيب عدادات ساعات الكهرباء، تشرّعت البيوت لهم ولكن لم تتوفّر أوراق ملكية، وبحسب أبو دلة، في العام 1995 قدموا على طلب تسوية للدولة من أجل الحصول على تراخيص، كانت قيمتها في حينها مليونان وستين ألف ليرة لبنانية لبنك الإسكان، ولم يلقوا تجاوبًا، فاختفى المال وبقيت الأوراق.
يذكر الحاج محمد أبو دلة، أن المنطقة كانت خاليّة من مقوّمات العيش، وقد سعوا بأنفسهم لتأمين الماء والكهرباء، وبأياديهم حفروا بئرًا للمياه الإرتوازية بمعونة الرئيس ياسر عرفات “أبو عمار” حيث كان الفلسطينيون ينتشرون في تلك المنطقة، وتم تمديد شبكة مياه.
استأجروا غرفًا في بيت قديم ثم اشتروا بيتًا وأسسوا فيه مدرسة لأبنائهم ثم سجلوها لدى وزارة التربية، وتكفّلت الدولة ببناء الباقي، ثم قدموا طلبًا إلى الجهات المعنيّة لمياه الصرف الصحي، يعلّق أبو دلّة:”نحنا كنا نشتغل منيح، ندق باب الدولة وندفع ما تفرق معانا.. نحن قمنا بنهضة قويّة”.
وعن العودة إلى مناطقهم يقول العقلة:”ما زالت يارين خراب، فُقد العديد من أبنائها في الحرب. لكن لا تزال قيود النفوس في يارين، والانتخاب أيضًا، ولكن لا أحد يسأل عن احتياجات البلدة”. كما يشير إلى أنّهم يقصدون المصيلح ودومًا يلقون استجابة، في حين لم يلتفت أحد من نواب الدائرة التي ينتمون إليها لمصالحهم.
استقر عرب يارين في المنطقة حتى صارت تُعرف باسمهم، على الرغم من وجود عائلات مهجّرة من مناطق أخرى، يعيشون في وئام واستقرار مع مناطق الجوار وهناك زيجات متبادلة بينهم. لا يزالون محافظين على علاقتهم مع جذورهم في يارين فيقصدون أراضيهم الزراعية البعليّة في مواسم قطاف الزيتون والتين، ويزرعون الدخان على مساحات محددة، مذكرين بأن هناك أراضٍ لهم داخل الشريط الحدودي.
عن عاداتهم وتقاليدهم والدبكة والقهوة العربية، يقول أحد الجالسين: “نحنا زمان كنا ناس أصيلة مأصلة، اليوم لا والله! تمدنت العالم”. كانت الاحتفالات تُقام قبل الأعياد بأسبوع، مع التهجير خسر أهالي يارين الكثير من عاداتهم. يضيف العقلة: “نحن هنا لا يوجد لدينا راعٍ”. ويحيل السبب إلى غياب دور دار الإفتاء والحكومات المتعاقبة، “دولة لبنان لم تُقدم شيئا لأهل يارين” يختم العقلة كلامه.
عرب “البستان” وضيعة العرب
منذ أكثر من 45 عاماً يسكن “عرب البستان” في عقارات بين بلدتي أنصار والبابلية، يتبعون عقاريًا للأخيرة، يقصدون مختار البابلية “نايف حسون” لتصديق أوراقهم الرسمية. لكن قيودهم لا تزال في دائرة نفوس صور.
تقول أم قاسم التي تمتلك بسطة خضار ودكان على الطريق العام، أن للتجمع الذي يشكلونه تسميات عدة منها: “ضيعة المغار” بسبب وجود مغارة في المنطقة، فيما يسميها أهل أنصار بـ “ضيعة العرب”، وأهل البابلية بـ “جلّ عسّاف”، وتذكر أنها في الأصل تسمى “العجارم”.
لدى أبو عبدالله التركي، مواليد 1951، ثماني أولاد، تزوج وعاش وأنجب في المنطقة وزوّج أبناءه، جاؤوا من ضيعة البستان، وكانت المنطقة خالية من السكان. استقدمهم أبو نادر الحريري (زوج النائب بهية الحريري) للعمل لديه في البساتين الزراعية التابعة له وفي قطاف الخضار من الخيم الزراعية، وبعد استغنائه عن خدماتهم صاروا يستأجرون الأراضي ويزرعونها خضار ودخان.
في ضيعة العرب، جامع قامت العائلات بجمع تبرعات لبنائه، وهو مقفل منذ 10 سنوات نتيجة خلافات بين الشيخ المسؤول والأهالي. يُفتح فقط في المناسبات لإقامة العزاء ولحضور اجتماعات تعقدها البلدية مع المزارعين، ولم تلتفت دار الإفتاء لمسألته.
تذكر الحجّة عفيفة التركي المتزوجة منذ عقود إلى البقاع، وتزور “ضيعة العرب” من حين لآخر، أن أهلها جاؤوا إلى هنا في العام 1987 هربًا من الحرب، باعوا أراضيهم هناك واشتروا أرض في البابلية وعمروها. تضيف الحجّة عفيفة لـ “مناطق نت” أنهم جاؤوا كمهجرين بنوا خيمًا وتخشيبات وبعد ذلك صاروا يعملون في الخيم الزراعية والبساتين، تقول: “كان هناك أراضٍ لعائلة من البيسارية اشتراها أبو نادر الحريري، واستثمرها بمعونة سواعدهم وكان العمال من جميع الطوائف”.
تذكر عفيفة بأن والدها توفي في الاجتياح الإسرائيلي وعانت وإخوتها الكثير في سبيل تحصيل قوت عيشهم فلم يتمكنوا من إكمال تعليمهم، كان العمل صعبًا، فكانوا يذهبون إلى المزارع (مزارع أبو نادر) منذ السابعة صباحًا حتى الواحدة ظهرًا، وتضيف: “نرجع نجي ناكل زعتر وزيت ولبنة ونذهب إلى خيم زراعية تابعة لشخص من بلدة الغسانية يُسمى أبو علي كوثراني، يعطينا على الساعة 500 ل.ل” .
مع الوقت ومع استقرار المشروع الزراعي بدأ الحريري بالاستغناء عن الأيدي العاملة اللبنانية بالتدريج، واحتفظ في معامله وبساتينه بالعمّال من الجنسيات غير اللبنانيّة. تعلّق أم قاسم:”بنى معاملًا ومشروع مياه معدنية وأجبان وألبان، مزارع دجاج، معمل بلاستيك ومشغل لتوضيب المنتجات وتصديرها للخارج”.
تقول أنّه لم يعد يريد عمالًا من الضيعة، وتبرر ذلك بأن العامل الأجنبي يسكن في غرف تابعة لمكان العمل أو الأرض الزراعية أو كناطور، وذلك يخفّف عليه أعباء تجميع عمال والبحث عنهم عندما يحتاجهم، إضافة إلى قبولهم بأجور متدنية وهو ما لم يعد متلائما مع احتياجات العمال اللبنانيين فصاروا يستأجرون أراض ويضمنونها لزراعة محاصيلهم.
تذكر الحجّة عفيفة التركي أن أهلها جاؤوا إلى هنا في العام 1987 هربًا من الحرب، باعوا أراضيهم هناك واشتروا أرض في البابلية وعمروها. جاؤوا كمهجرين بنوا خيمًا وتخشيبات وبعد ذلك صاروا يعملون في الخيم الزراعية والبساتين.
تقول أم قاسم:” كان الناس هنا فقراء وكانت المنطقة تفتقر للخدمات الأساسية، أسسوا حالن بحالن”. بنوا بيوتًا واستقروا مع عائلاتهم فيها.
يعاني أهالي الحي من حالة النكران، فلا يوجد متحدّث باسمهم في المنطقة، في أوقات الانتخابات يذهبون إلى قريتهم الأساسية “البستان” للاقتراع.
بسطة أم قاسم
لدى أم قاسم بسطة خضار بالقرب من منزلها، تحت شجرة خروب على قارعة الطريق. تعمل عفيفة في تصنيع المونة، والمربيات، وتعرض ما تنتجه في دكان أم قاسم. في البداية كانت أم قاسم تزرع البقدونس وتعرضها للمارة وصار الناس يشترون منها. مع الوقت تنوعت المزروعات إلى الخس والكوسى وغيره، “صرنا نزرع كل شيء ونبيع، وبعدها قمت ببناء بسطة خضار، يحب الناس كل ما هو طبيعي، لدينا بئر ارتوازي، نسقي الزرع مياه نظيفة، فالناس هذه الأيام يمرضون بسبب التلوث الذي يطال ما يأكلونه، ونضيف للأرض السماد العضوي من مخلفات الحيوانات لدينا” تقول أم قاسم.
في الشتاء يزرعون الخضار وفي الصيف الدخان، وعن معاناة زراعة الدخان، تقول أم قاسم: “تزرعينه بالشتله، تقطفينه بالورق، يُقطف على الندى وتُشكّ أوراقه منذ الصباح الباكر حتى الساعة الرابعة عصرًا.
تحولات وتبدلات
اتجه قسم من الجيل الجديد لمتابعة تعليمهم في المدارس والمعاهد الفنية والجامعات والقسم الآخر وغالبيته من الذكور يتسربون باكرًا من المدارس ويتجهون نحو تعلم مصلحة كالميكانيك مثلًا، ويعمل قسم منهم في وظائف تابعة للدولة.
وعن العادات والتقاليد، تذكر عفيفة أنهم قديمًا كانوا يبذخون في تقديم المنسف واللحوم، مع الوقت خفتت طرق الاحتفاء بالأعراس والأعياد فالمقتدرون يقيمون حفلاتهم في الصالات أما محدودي الدخل فيقيمونها أمام البيوت. يقول فادي:” كان العرس يمتد إلى سبعة أيام، كانت البركة أكثر.
تنشط في المنطقة عدّة معامل وبساتين زراعية تعود ملكيتها للعديد من العائلات، كمشغل دنش. تأقلم العرب في المنطقة وجمعتهم بالقرى المجاورة علاقات تبادليّة وزيارات، وهم يحافظون على صلاتهم مع البدو المنتشرين في المناطق المجاورة.
استقر أهالي يارين والبستان في المناطق التي سكنوها، وبقيت تجمعهم بجذورهم صلات وزيارات، خفتت عادات بداوتهم لصالح التمدن، لكنهم لا يزالوا يحافظون على عملهم في الزراعة والعمل في البساتين، الذي يذكرهم بأرضهم المهجورة. وكما بدا واضحا يفتقدون لراعٍ يمثلهم، ولمسؤول يتحدث بلسانهم، هم منسيون في مناطقهم ويفتقدون للكثير من الخدمات التنموية في أماكن سكنهم.