ينتظرون عند مداخلها.. ماذا يقول أبناء القرى الحدوديّة المحتلة؟

“منهم من عاد ومنهم من ينتظر”، هكذا يمكن اختصار حال أهالي القرى الجنوبيّة الحدوديّة الذين لم يتمكّنوا بعد من دخول بلداتهم، جرّاء بقائها تحت الاحتلال الإسرائيليّ، فإثر انتهاء مهلة الـ 60 يومًا التي حدّدها اتّفاق وقف إطلاق النار، عاد كثر من الأهالي إلى قراهم على الرغم من خرابها، إلّا أنّ عددًا من القرى لا تزال أبوابها مقفلة أمام أهلها، وما زال في داخلها محتلّ “يسرح ويمرح” أمام أعين الناس المتلهّفين شوقًا إلى رؤية بيوتهم وأرزاقهم ولو أنّها أصبحت ركامًا.

مشاهد تتوالى من بوّابات القرى الجنوبيّة، خيام نصبت، مواطنون يصرخون دون سميع ولا مجيب، مواقد نار أشعلت وقلوب تحترق كلّما جاء خبر أنّ العودة ما زالت بعيدة.

يوم الأحد الـ 26 من كانون الثاني (يناير) الماضي زحف الأهالي، وقفوا بوجه الدبّابات والجنود، ينادون أنّ لهم وحدهم الحقّ في التواجد هناك. في تلك البلاد التي تشهد وحدها حربًا ثانية تخوضها آلة دمار وموت لا تعرف ماذا تعني تلك البلاد لأصحابها، ولا تعلم أنّ الشومر والهليون والصعتر لا يطيب بعدها طعم ولا عطر. هي بلادنا، حقيقتنا الموجعة، قبلتنا الثابتة، أرضنا الأولى والأخيرة، وجهتنا التي لأجلها نوّلي وجوهنا وهاماتنا وقلوبنا، هو لسان حال كلّ المنتظرين حربًا إثر حرب ومهلة إثر مهلة.

مارون الراس، عيترون، محيبيب، بليدا، ميس الجبل، حولا، مركبا، ربّ ثلاثين، العديسة، كفركلا، العمرة، سردة، الوزّاني، أطراف كفرشوبا، أطراف شبعا، حدود جبل بلاط، مروحين. كلّ تلك القرى، لمّا تزل آلة الحرب والدمار الإسرائيليّة تتمركز فيها. تنسف وتحرق وتمشّط وتجرّف وتفعل ما يحلو لها.

انسحاب فتقدّم في يارون

في يارون وبعد انتظار دام أيّام متتالية، ظنّ الأهالي أنّ العدو انسحب، فاندفع شبّان من المنتظرين على تخوم البلدة ودخلوا إليها الخميس الماضي، إلّا أنّ فرحة العودة لم تكتمل، فما إن شعر جيش الاحتلال بدخول عدد من الأهالي إلى وسط يارون، حتّى عاد ومنعهم من العودة. وقد تناقل أبناء يارون عبر مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد مؤثّرة لدخول بعضهم إلى البلدة والفرحة العارمة التي كانت بادية على وجوههم.

عدد من أهالي يارون ينتظرون عند مدخل بلدتهم بانتظار الدخول إليها

يُعتبر بيت عبّاس صالح في يارون الأقرب إلى الحدود مع فلسطين المحتلّة، وقد أطلق عليه “بيت التحدّي والصمود”. يقول عبّاس الذي وقف وجهًا لوجه مع دبّابة “ميركافا” لـ “مناطق نت”: “ما خفت على ابني اللي كان معي، ما بقى عنّا شي نخسره، الأرض ما بتتحرّر بالورد وغصن الزيتون”.

عن جدوى التحرك الذي يدأب عليه الأهالي بشكل شبه يوميّ عند تخوم البلدة، يشير عبّاس إلى أنّ “هيدي أرضنا وبلادنا وأرزاقنا وبيوتنا، ولا يمكن أن نسمح للاحتلال بأن يصبح أمرًا واقعًا، فقد سبق أن احتلّت أراضينا لسنوات، ومن حرّرها هم أهل الأرض فقط لا غير”.

باقون بمارون لآخر نفس!

على تخوم بلدة مارون الراس التي شهدت ما شهدته من عدوان مستمرّ وتدمير ممنهج وعمليّات نسف للبيوت، تنتظر القلوب المتعبة والمتلهّفة. مارون تلك التي تبعد “شلقة حجر” عن فلسطين المحتلّة، كانت من أوائل البلدات التي هُجِّر أهلها وما زالوا حتّى الساعة. يومًا تلو يوم، يجلس أبناء مارون حول خيامهم ومواقد نارهم المشتعلة، ينتظرون لحظة الانسحاب من بلدتهم.

“أقلّ واجب هو أن نعمل المستحيل لنفوت نطلّع الشهداء اللي بعدن تحت الركام”، يقول جاد علويّة ابن بلدة مارون الراس لـ “مناطق نت”. يتابع: “نحنا لبنانيّين قبل كلّ شي، طالعين على أرضنا المغتصبة بدنا نحرّرها ولو بدمنا ما عنّا أيّ مشكلة”.

عن وضع مارون الراس، يشير علويّة إلى أنّ “بعض أبناء البلدة استطاعوا الدخول ولمرّة واحدة إلى قرابة 35 في المئة من مساحة البلدة”، ويلفت إلى أنّ “المشهد كان صادمًا فلا يوجد أيّ بيت واقف على اجريه” بحسب تعبيره. جاد يؤكّد أنّ “كلّ ما تهدّم سيُعاد بناؤه، وعندما نعود إلى مارون سينصب كلّ فرد منّا خيمة بجانب بيته، ولن نرحل من هناك”. وعن دور الجيش اللبنانيّ، يؤكّد من التقتهم “مناطق نت” من أبناء مارون أنّهم ملتزمون بقرارات وتوجيهات الجيش.

أبناء كفركلا ينتظرون بديرميماس

عند مدخل كفركلا الغربيّ بالقرب من قرية ديرميماس – مفترق محطّة مرقص، ينتظر أهالي بلدة كفركلا لحظة الرحمة. “نريد البلدة حتى لو كانت رمادًا ولن نسمح تحت أيّ شكل من الأشكال احتلال البلدة وسنبذل في سبيل ذلك كلّ شيء”، يقول عدد من أبناء كفركلا لـ “مناطق نت”.

عند مدخل كفركلا الغربيّ بالقرب من قرية ديرميماس – مفترق محطّة مرقص، ينتظر أهالي بلدة كفركلا لحظة الرحمة للدحول إلى بلدتهم والتي يعرفون أنها تحوّلت إلى أكوامٍ من ركام

يقول علي الطويل، من كفركلا وعضو في جمعيّة “أهل الوفاء كفركلا الخيريّة” ولجنة شباب كفركلا القيّمة على الحراك الذي يقام حاليًّا، “سنبقى معتصمين حتّى الـ 17 من شباط (فبراير) الجاري، إلى التاريخ الممدّد للانسحاب، وإذا لم ينسحب العدوّ سنذهب إلى خيارات أخرى نحدّدها عبر بيانات رسميّة تصدر باسم حراك أهل كفركلا”.

ويضيف: “أبناء كفركلا متعلّقون جدًّا بالأرض وهم بالأصل مزارعون، لذلك لن يتخلّوا عن ذرّة تراب من بلدتهم، لكن في موضوع الإصرار الزائد هو وجود شهداء من أبناء البلدة ومن خارجها لا تزال جثامينهم على أرض كفركلا”. ويؤكّد أنّ “مطلبنا الأوّل والأساس دخول الجيش اللبنانيّ والصليب الأحمر لانتشال جثامين الأبطال الذين واجهوا الاحتلال حتّى الرمق الأخير”.

“البيت شلقة حجر بعيترون”

في عيترون يسود الوضع نفسه، ينتظر الأهالي خلف الساتر المرتفع من جهة بنت جبيل. ثمّة شهداء ارتقوا في الأسبوع الأوّل بعدما حاولوا الوصول إلى بلدتهم. ولا يزال ذاك الصوت الصادح “بابا، بابا” لا يفارق ذهن ممّن شاهدوا مقطع الفيديو الذي يعبّر عن وحشيّة إسرائيل وهمجيّتها.

تقول الشابّة ملاك فقيه، ابنة بلدة عيترون، إنّ منزلهم يقع خلف الساتر مباشرة ويمكن رؤيته من هناك، إلّا أنّه لا يمكن الوصول إليه، “هيدا أصعب شعور، أن يكون بيتك على بعد شلقة حجر وبنفس الوقت مش قادرة تروحي عليه”. تتابع لـ “مناطق نت”: “مجرّد الوقوف وإثبات الموقف والحقّ بالأرض هو نوع من أنواع المقاومة، هالأرض حقّها دمّ وذلك لا يساوي شيئًا أمام انتظارنا هنا عدّة أيام أو شهورًا حتّى”.

تقول الشابّة ملاك فقيه، ابنة بلدة عيترون، إنّ منزلهم يقع خلف الساتر مباشرة ويمكن رؤيته من هناك، إلّا أنّه لا يمكن الوصول إليه، “هيدا أصعب شعور، أن يكون بيتك على بعد شلقة حجر وبنفس الوقت مش قادرة تروحي عليه”.

وعن عزيمة الناس وإصرارها، تشير إيلينا دروبي من بلدة عيترون إلى أنّ “أبناء البلدة طالبوا بأن يواجههم أحد من قوّات العدو يفهم اللغة العربيّة، لكي يوصلوا له رسالة مفادها أنّهم لن يتركوا أرضهم وأنّ العدوّ مغتصب وسيرحل بأيّ حال من الأحوال”. مشيرةً إلى أنّه “حتّى بعض الذين أصيبوا في اليوم الأوّل عادوا وحضروا في الأيّام اللاحقة، من دون أي خوف”.

حولا.. دماء وشهداء وأسرى!

“ما رضي يشوف معشوقته تنغصب، وحقول الزيتون تُجرف، وجذور الشومر والخبّيزة تُدهس بدبّابات الميركافا”. هكذا نعت ديالا قطيش شقيقة علي غالب قطيش الذي قضى برصاص الاحتلال في الـ 26 من كانون الثاني الماضي شقيقها الشهيد، بمنشور لها على “فايسبوك”، وذلك في أثناء محاولة عدد من أبناء حولا الدخول إلى بلدتهم.

حال حولا كحال معظم القرى الجنوبيّة الأخرى، سواتر ومواجهات وانتظار. تروي نور فوعاني ابنة حولا والشاهدة على لحظات محاولات العودة الأولى لـ “مناطق نت”، ما حصل، فتشير إلى أنّه لحظة وصولها إلى حيث تقدّم أبناء البلدة، كان قد سقط عدد من الجرحى، الأمر الذي أدّى إلى حال إرباك بين الأهالي، إلّا أنّ عددًا من ذوي الشهداء أصرّوا على الدخول على رغم كلّ الخطر المحدق، وتقدّموا من بلدة شقرا حتّى مدخل حولًا مشيًا على الأقدام.

تتابع: “عند وصولنا إلى مدخل البلدة، تبيّن أنّ جيش الاحتلال قام بنقل غرفة نقّالة كانت مركونة قديمًا بجانب الطريق، وكان يستعملها عناصر من جيش لحد (ما يسمّى بجيش لبنان الجنوبيّ)، فقام جنود الاحتلال بنقلها إلى وسط الطريق”. تروي نور كيف ارتقى شهيد أمام عينيها، وكيف نقل عدد من الجرحى عبر الدرّاجات الناريّة لتعذّر نقلهم بأيّ وسيلة أخرى طبقًا للظروف.

عن شعور العودة، تلفت نور “لم يكن لدي رابط “ضيعوي”، كنت أحبّ الضيعة أيّام السبت والآحاد فقط، لكن عندما رافقت الشباب أثناء دخولهم إلى البلدة، وطلبهم إليّ مناداة بالابتعاد حتّى يتسنّى لهم الدخول أوّلًا، حينها شعرت أنّني بنت الضيعة التي تربّيت وعشت فيها”. تضيف نور “عند محاولتي الالتفاف والعودة، كنت أشعر أنّني خذلت الضيعة والشهداء.. مستحيل وصف ذلك الشعور”.

عن “دكّانة الحارة” التي شهدت على أجيال وأجيال، تقول نور: “لمّا شفت دكّانة الضيعة وقعت (دمرت)، حسيت روحي اللي وقعت”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى