أحراج عيتا الشعب والناقورة خسائر جسيمة وثروة لا تُعوَّض

لم تقتصر الخسائر التي سبّبتها الحرب الدائرة جنوبًا على البشر والحجر فحسب، بل طالت مجالات مختلفة تتوزّع بين مباشرة وغير مباشرة. من تلك الخسائر ما أصاب المساحات الحرجيّة والزراعيّة الواسعة، والغطاء الأخضر الممتدّ من الناقورة غربًا وحتى شبعا شرقًا، وتقدّر مساحته وفق وزارة الزراعة بستة آلاف دونم من الأراضي التي لحقتها الأضرار بشكل جزئيّ، وألفين ومئة دونم طالتها الحرائق بالكامل.

قد تكون بلدة عيتا الشعب أكثرها تضرّرًا في مساحاتها الحرجيّة عن سواها، كونها الأكبر من حيث المساحة بين أحراج القرى والبلدات الحدوديّة، وفق مختار عيتا الشعب ماجد طحيني، تليها أحراج اللبّونة.

“تعدّ هذه الأحراج التي تغطي مساحة 7 كيلومترات مربّعة من مساحة عيتا الشعب الإجماليّة التي تبلغ 11 كيلومترًا مربعًّا “إكسيرًا اقتصاديًّا” للبلدة” والكلام للمختار طحيني لـ”مناطق نت”، ويضيف: “إن نسبة الأضرار داخل تلك المساحات الحرجيّة، تقدّر بحوالي 85 في المئة وهي أضرار من الصعب تعويضها قبل خمس سنوات”.

ما أصاب المساحات الحرجيّة والزراعيّة الواسعة، والغطاء الأخضر الممتدّ من الناقورة غربًا وحتى شبعا شرقًا، تقدّر مساحته وفق وزارة الزراعة بستة آلاف دونم من الأراضي التي لحقتها الأضرار بشكل جزئيّ، وألفين ومئة دونم طالتها الحرائق بالكامل

الصابون والفحم

فضلًا عن الخسائر المباشرة في أحراج عيتا الشعب، هناك إنتاج أبناء البلدة من زيت وصابون الغار، والذي يقدّر سنويًّا بأكثر من 300 ألف دولار، ولا يقلّ أهمّيّة عن إنتاج التبغ، ويصدّر إلى السوق المحلّيّة. وتعدّ عيتا الشعب الأولى في إنتاجه. هذه الثروة اليوم قضي عليها، فضلًا عن الحطب والفحم الذي يزيد إنتاجه على مليون دولار سنويًّا.

عن ذلك يقول المختار طحيني: “هذه الأحراج تشكّل رئة اقتصاديّة رئيسة للبلدة، غير أنّ العدو الاسرائيليّ قضى عليها، ودمّرها. وقد منيت بنكسة العمر نتيجة الحرائق التي طالتها والقصف بالفوسفور الأبيض الحارق والغارات التي ليس آخرها قيام العدو الاسرائيليّ بإلقاء أنابيب موصولة إلى مسيّرة MK بغية حرق الأشجار في داخل الأحراج التي تتنوّع فيها أشجار السنديان، الملول، الغار، البطم الزيتون والكرمة وقد تضررت بغالبيتها”.

منذ بداية الحرب، وعيتا الشعب التي تقع عند الحافة الأماميّة للحدود مع فلسطين المحتلة، على تلة تحوطها ثمانية مواقع للعدو الاسرائيلي هي: الراهب، برانيت، زرعيت، شتوال، طربيخا، سقوطه واتامون، وموقع يارون من جهة بلدة يارون، تتعرّض للقصف والغارات المتواصلة، وتحديدًا أحراجها التي تحدّها من ثلاث جهات، إذ تنتشر أحراج الزيتون والغار والبطم من جهة الغرب، ومن الجنوب أحراج الكرمة والزيتون، ومن الشمال الغربي أحراج السنديان والغار والملّول.

أحراج محروقة جراء القصف في الجنوب
خسارة قفران النحل والعسل

هذا الموقع تبعا لطحيني “جعل أحراجها عرضة للاستهداف، بهدف القضاء على الغطاء الأخضر، وحرق أحراج عيتا الشعب يعني القضاء على اقتصاد البلدة بشكل كبير، إذ كانت تلعب الأحراج في حياة أهلها دورًا اقتصاديًّا كبيرًا، إن كان لجهة تأمين الحطب للسوق المحلّيّة أو الفحم أو حتّى الغار والزيتون والكرمة”، يقول طحيني.

ثمّة جوانب أخرى طالتها الخسائر كذلك وشملت قطاع النحل. وبحسب تقرير وزارة الزراعة فإنّ ما يقرب من 310 قفران نحل نفقت وتلفت بسبب القصف الفوسفوريّ في المنطقة الحدوديّة. ويشير طحيني إلى أنّ “إنتاج عيتا الشعب في قطاع النحل كان يبلغ حوالي عشرة أطنان من العسل سنويًّا، يعتاش منه خمسة عشر نحّال، وبحرق الأشجار قضي على هذا القطاع”.

لم تكن عيتا الشعب وحدها التي خسرت غطاءها الأخضر بما يضمّه من رئة بيئيّة ودورة اقتصاديّة، بل إنّ امتدّ إلى كلّ الغطاء النباتي في قرى الخطّ الأماميّ.

أحراج اللبونة إلى قحل

يؤكد رئيس بلدية الناقورة عبّاس عواضة هذا الخسران ويقول: “إنّ حرج اللبونة الأجمل في المنطقة بات قاحلًا اليوم. يفترش الحرج الممتدّ بين الناقورة وعلما الشعب آلاف الدونمات، ويعتبر موئلًا لعديد من الحيوانات البرّيّة. وقد شكّل على الدوام رئة بيئيّة وصحيّة للناقورة”. هذا الحرج تحوّل بحسب عواضة في حديث لـ”مناطق نت” إلى أرضِ قاحلة، إذ إنّ جزءًا كبيرًا منه تمّ حرقه بالفوسفور الأبيض والقنابل الحارقة التي أتت على جميع أشجار السنديان والحور في داخله”.

المساحات الحرجية في عيتا الشعب قبل القصف وبعده (المصدر: الجنوبيون الخضر)

يشير عواضة إلى “أننا خسرنا بقعة خضراء كنا نتغنى بها، وكانت تضفي لوحة جماليّة مميزة على المنطقة. لم يترك العدو شجرة في داخل الحرج إلا وأحرقها بقصفه اليومي والمتكرّر”. ويلفت عواضة إلى “تداعيات خطيرة على المناخ والبيئة باتت تهدّد المنطقة بسبب خسران أحراج المنطقة والجوار”. ويقول: “كانت الأحراج توفّر مناخًا معتدلًا، والقضاء عليها سيدخلنا حتمًا في ما يسمّى الاحتباس الحراري الذي بدأنا نشعر به، وهذا أمر خطير جدًّا، لا تقل خسائره أهمّيّة عن الخسائر في الممتلكات”.

ويطلق عواضة صرخة “للتدخل السريع من أجل حماية هذه الثروة، وإيقاف الكارثة التي تحلّ بها. فالخطر الذي يطال الأحراج، لا يقتصر على منطقة بعينها، بل يشمل معظم الثروة الحرجيّة في القرى والبلدات، منها: بيت ليف، كفرا، دبل، يارين، رامية، ووادي زبقين (مقترح محمية)”.

“الجنوبيّون الخضر”: الخطر يطال كلّ شيء

ووفق جمعيّة “الجنوبيّون الخضر” فإنّ “الموضوع أبعد من تأثّر المحميّات وحدها، بل إنّ معظم المناطق الحرجيّة المحروقة هي خارج المحميّات وتشكّل مواقع غنيّة جدًّا بيئيًّا، وهو ما له آثار على كامل المحيط البيئيّ، توازنه واستدامته”. ولفتت الجمعية إلى أنّ “هناك حيوانات مهدّدة بخطر الانقراض والناشطة في المنطقة وأبرزها الضباع المخطّطة.”

ووفقًا لـ”الجنوبيون الخضر” فإنّ “هذه المناطق تشكّل مواقع مهمّة لموائل طبيعيّة وللتنوعّ البيولوجيّ الذي يختلف بين منطقة وأخرى، تبعًا لأنواع الأشجار الموجودة داخلها، ويأتي في طليعتها السنديان”.

الجنوبيون الخضر: إنّ معظم المناطق الحرجيّة المحروقة هي خارج المحميّات وتشكّل مواقع غنيّة جدًّا بيئيًّا، وهو ما له آثار على كامل المحيط البيئيّ، توازنه واستدامته

ورأت “الجنوبيّون الخضرّ” في معلوماتها إلى “مناطق نت” أن “استخدام الفوسفور الأبيض فاقم الأضرار أكثر، إذ يوجد 800 هكتار تعرضت لأضرار مباشرة، وأنّ أكثر من 600 هكتار تقع في مناطق حرجيّة ذات كثافة شجريّة مرتفعة ومتوسّطة ما يجعل أضرارها كبيرة وبعيدة المدى وحرائقها شديدة، تقضي على الأشجار بالكامل، وتسبّب تلوث التربة ومجاري الأنهر التي تحمل مكثفات الفوسفور للمسطّحات المائّية الموجودة أو للخزّانات الجوفية”.

لا تخفي “الجنوبيون الخضر” مخاوفها “من حجم الأضرار التي لحقت بالثروة الحرجيّة والنباتيّة في جنوب لبنان”، وتلفت إلى أنّ “استعادة الغطاء الأخضر، هو عمليّة معقّدة تحتاج سنوات لمعالجة مسبّبات التلوث”.

ممّا لا شكّ فيه أنّ المطلوب اليوم هو إخضاع التربة والمياه لفحوص مخبريّة لمعرفة كيفيّة معالجة التلوّث، وهو أمر تشدّد عليه “الجنوبيون الخضرّ” التي تقوم حاليا “بتوثيق وتقييم الأضرار وكيفيّة التعاون مع الوزارات المعنيّة في مرحلة لاحقة”.

لكن يبقى السؤال أنّه بعد مرور ستّة أشهر من تدمير القطاع الأخضر هل تكون المعالجة سهلة؟ بحسب تقديرات “الجنوبيون الخضر” أنّه “عمليًّا وبعد مرور ستّة أشهر على الحرب، باتت المعالجة معقّدة وتحتاج إلى إمكانيّات كبيرة للتعامل مع حجم الكارثة البيئيّة التي أصابت أحراج ومحميّات الجنوب”.

10 شجرات بدل كل شجرة

أمس، وفي تصريح إعلامي، أكّد وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال عباس الحاج حسن تحديث الوزارة، يوميًّا، لخريطة تتضمّن الأضرار المباشرة وغير المباشرة في بلدات الجنوب، التي تتعرّض إلى اعتداءات.
وشدّد، “على استحالة الحصول على جواب طبّيّ عمّا إذا كانت تربة الجنوب مضرّة بالناتج الزراعيّ، إلى حين إجراء الدراسات اللازمة”. وقال: “شكّلنا لجنة جاهزة لدراسة هذه التربة، فور وقوف الاعتداءات الإسرائيليّة على هذه المناطق.”

وأضاف: “مقابل كل شجرة أحرقها العدو سنغرس عشر شجرات.” ولفت إلى أنّ قيمة الأضرار في الجنوب، أكثر بكثير من ثلاثة مليارات دولار.

بالمحصّلة، كان الغطاء الأخضر وشاحًا على كتف الجنوب، يزينه ويشكّل مدىً حيويًّا وبيئيًّا له، أصابته الحرب بالصميم، ومعه أصابت موائل طبيعيّة للطيور والحيوانات. وهو يعني كثيرًاً لأبناء القرى، لما لهم ولأجدادهم في هذه الأحراج من ذكريات عريقة ورئة يتنفّسون من خلالها حبًّا وعطرًا منبتهما تلك الأرض التي عاشوا عليها ويتوقون للعودة إليها كي يعيدوا زرعها وفلحها وإحياءها على سابق عهدها.

أشجار صارت حطباً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى