أناشيد الجنوب.. رحلة بدأت بالأحمر لتنتهي بالأصفر


من سيّئات الأغنية السياسية أنها لم تُنجَز لذاتها الفنيّة، بقدر ما ارتكزت على البُعد الدعائي التعبوي، التثويري، الذي يستفيد من الموسيقى كحامل شبه مضمون للقضيّة. في مصر، ومن حيّ الغوريّة بالتحديد، اشتهر الثنائي أحمد فؤاد نجم (شعراً)، والشيخ إمام عيسى (غناءً)، ليكونا نموذجين للنضال الشعبي، على خلفية يسارية. بينما كان عبد الحليم حافظ، مغنّي الدولة الرسمي، الذي قدم أشهر الأغنيات الوطنية (أحلف بسماها وبترابها).

في الجزائر هناك الشيخ حمادة، مؤسس الراي البدوي، ومن قبله الأمازيغي سليمان عازم، أما في المغرب فكانت فرقة “ناس الغيوان” عنواناً لطرح هموم الناس، في توليفات غير بعيدة عن السياسة. تأسست تلك الفرقة في حيّ المحمدي، أحد أكثر الأحياء فقراً في الدار البيضاء. من فلسطين كانت الأناشيد المتأثرة بالأغاني المصريّة، بتوليف مع التراث الفلسطيني، وكان الموسيقار حسين نازك من نجوم تلك الاغنية، وأشهرها “إشهد يا عالم علينا وع بيروت”، وهناك جورج قرمز، ثم مي جبران، بينما كان مخول قاصوف، صاحب الريادة في لبنان، مطلع السبعينيات.

الفنان مرسيل خليفة
الجنوب كعبة المغنين

“إنهم جنوبيون. الشمس تأكل لحمهم، لكنهم يعاندون الشمس، من بطون الأرض يطلعون، من عيون الشمس يطلعون، من وجه القمر، إنهم جنوبيون، يزرعون الحب والسنابل، والتبغ والرصاص، ويكدحون، فقراء يكدحون، فليلهم طويل، ودربهم طويل، لكن، في عيونهم ألف انتقام” هذا ما كتبه إبن كفر رمان، الشاعر حسن ضاهر. قبلها شاعت أغنية “جنوبيون” التي أطلقها إبن الخنشارة، مخوّل قاصوف، لتكرّ السبحة من بعده، مع “العمشيتي” مارسيل خليفة، والبيروتي خالد الهبر، والجبيلي سامي حواط، والبعلبكية أميمة الخليل، والبيروتية الصورية جوليا بطرس… ولا ننسى فرقة “الأرض”، وفرقة “السنابل”، وفرقة “الجبل”…

في حمأة القضايا الكبرى، كان جنوب لبنان كعبة المغنّين الملتزمين بالقضايا الوطنية والانسانية، فغنّى مارسيل “أنا يا رفاق من الجنوب، من شذوة الشفق الخضيب” التي كتبها الشاعر حسن العبدالله، ثم قرأ قصيدة “أنصار”، و”أيمن”، بينما غنّى خالد الهبر لـ “كفر كلا” التي “تزرع في الأرض أقحوانة، وتغرس في الأرض بندقية، لتحمي القضية”. كما أنشد “أطفالك عيترون يضحكون في الخنادق، يلهون بالبنادق، يصنعون من شظايا القذائف ألعابا، يرقصون حول جثة مناضل”، أما أحمد قعبور، فغنّى للخيام، والنبطية، لتغني جوليا في منتصف الثمانينيات “غابت شمس الحق، وصار الفجر غروب” لتقول: “هو إلنا يا جنوب، يا حبيبي يا جنوب”…

كان جنوب لبنان كعبة المغنّين الملتزمين بالقضايا الوطنية والانسانية، فغنّى له مارسيل خليفة وخالد الهبر وأحمد  قعبور وجوليا

مغنّون متنوّعو المشارب العقائدية: مسيحيون، مسلمون، شيوعيون، وقوميون سوريون… استطاعوا بتنوعهم هذا بأن يحرّروا الجنوب من أي نظرة تصنيفية، تعليبية، تحشره في إطار فئوي ضيّق.

بالطبع كانت هناك اغنيات للجنوب ببصمة “وطنية” دون خلفيات حزبية، كما هو حال السيدة فيروز عندما غنّت من كلمات جوزيف حرب “إسوارة العروس مشغولي بالدهب، وإنت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب”. بينما غنّى نصري شمس الدين “غالي والله يا جنوب”، أما “حيّو صمود جنوبنا” فكانت لمحمد قاسم، و”جنوب لنا” لمايز البياع، و”نسّم يا جنوبي” لأحمد دوغان، و”يا بلال يا بطل” لأمال عفيش، وهناك أغنيات جنوبية لفرقة “جبل عامل” التي أسسها الباحث منير بدوي، مع فنانين أغلبهم من مدينة صور، في حين كان لمعين شريف أغنيات عدّة للجنوب، والتحرير…

الحركة

لحركة أمل خطّها الانشادي، إنما دون أن تتظهّر أي خصوصية في تلك الأعمال التي بدأت مع نشيد أمل، الذي قدمته فرقة الرسالة، ثم كانت “عاصي عالدهر يا موسى الصدر… وحدت قلوب، على حبك وحدت قلوب، وهبّ الجنوب للدعوة الجنوبية”. بعدها ظهر جيل انشادي جديد في حركة أمل، مثل علي قبيسي، وعلي ناصر، تلاهم أبو الحسنين، وحسن علامة. أما أغنية “يا قائد الله معك”، فمستنسخة عن أغنية قدمها مغنٍّ عراقي، أدّاها بالكلمات ذاتها، لكن لصدّام حسين.

الجنوب في أناشيد الحزب

في الموازاة، ومع تأسيس حزب الله في العام 1982، لم تكن الأناشيد المنتَجة ذات مضمون جنوبي على وجه الخصوص، بل أغلب ما شاع في الحالة الاسلامية المستجدة في لبنان، كانت مصادره ايرانية، أو بحرينية، وعراقية، بل وبعضها من إرث الاخوان المسلمين. وقتذاك كان هناك مزج بين اللطميات، والأناشيد، وكان الرادود الايراني عساكري، الأكثر شهرة، وتاثيراً، بينما كانت أشرطته تباع عند “تسجيلات بنت الهدى” أسفل مسجد بئر العبد.

فرقة الولاية

من كلمات الشاعر انور نجم، وألحان محمد عساف كان نشيد حزب الله، الذي قدّمته فرقة الولاية، واللحن في البداية كان لنشيد عاديّ، مطلعه “سلّحتني أمي بحب الجنوب”. لم تكن للفرقة آلات احترافية، بل كان الأورغ آنذاك أقرب ما يكون للعبة أطفال. بعدها أمّن السيد عباس الموسوي مبلغاً لتشتري الفرقة آلات احترافية. تكوّنت تلك الفرقة من: الأخوين نبيل ومحمد عساف، والشاعر أنور نجم، عطالله شعيتو، حسن عطية، حسين عسيلي، مرعي مرعي، عبد الكريم خشاب، ضامن ضامن، كلّاس كلّاس.

في ذلك الزمان، أي في العام 1985، كانت هناك محاذير شرعية عديدة حول الموسيقى، وآلاتها، وكان الأمر يحتاج إلى غطاء شرعي، وهو ما حقّقه السيد عباس الموسوي، على أن يتم تفادي استخدام بعض الآلات، التي لا تزال محرّمة حتى الآن.

كان نشيد “أخي سوف تبكي عليك العيون” من أشهر ما انتشر في الساحة الشيعية، لترافق كل شهيد في رحلته نحو مثواه الأخير. لكن بعد البحث، تبيّن أن هذا النشيد الحزين، مكتوب من قبل شاعر من شعراء الإخوان المسلمين، ويدعى شاعر الموصل، ذو النون يونس مصطفى، وكان رثاءً وردّاً على أبيات كتبها سيد قطب، وتم تهريبها من سجنه، قبيل اعدمه.

لطميات وأناشيد عراقية

كثرت الأناشيد، وتأسست فرق جديدة، وتم العمل على لطميات بصوت ولكنة لبنانيين، بعد أن شاعت اللكنة العراقية، فتكوّن ثنائياً مؤلفاً من الرادود صادق زعيتر، والشاعر فادي حدرج، لتكون اللطميات جزءاً رئيسياً من كل مسيرة، وتشييع. كان الإعلامي فيصل عبد الساتر جزءاً من ذلك المشهد، فحمل الميكروفون، لمرّات، من على ظهر بيك آب، وراح يصدح بأعلى الصوت، لتردّد الجماهير خلفه، بالقبضات المرفوعة.

في ذلك الزمان، أي في العام 1985، كانت هناك محاذير شرعية عديدة حول الموسيقى، وآلاتها، وكان الأمر يحتاج إلى غطاء شرعي، وهو ما حقّقه السيد عباس الموسوي، على أن يتم تفادي استخدام بعض الآلات، التي لا تزال محرّمة حتى الآن.

ساهمت تسجيلات “بنت الهدى”، وإذاعتيّ المستضعفين، والنور في نشر تلك الاعمال، ليأتي المنار فيما بعد ويكرس تلك الاصدارات في كليبات تجعل قضية الجنوب، محوراً في أصل محاورها، ليبرز المنشد علي العطار الذي تعاون مع نزار فرنسيس في الشعر، وزياد بطرس في التلحين، كعلامة على انزياح ملحوظ في مسيرة الموسيقى الاسلامية. لكن بقيت المحاذير الشرعية حاسمة، حازمة مع الصوت النسائي، حتى مع جوليا بطرس، وأغنيتها “أحبائي” المستلهمة من رسالة السيد نصر الله، فلم تُعرَض على شاشة المنار، أو في أي احتفال حزبيّ.

من ضمن المنشدين الذين قدّموا أعمالاً ملتزمة بخط حزب الله، نذكر أحمد همداني، وأسامة همداني، ومحمود شاهين، وحسين زعيتر، وبسام شمص، وحسن حرب، وعلي بركات الذي لا يملّ من اثارة الجدل، لسرعته في تسجيل الاغنيات، وكلماتها التي تستفز الآخرين في بعض الاحيان، ليبرّر الأمر انه يغرّد في بيئة الحزب، وهو ليس حزبياً بالمعنى المباشر.

الفنانة جوليا بطرس



اليمين بلا جنوب

“هيّا فتى الكتائب”، و”الأشرفية البداية”، و”عالصخر منحفر كتايب”، “عسكر نحنا ما منهاب”، “هزّت منازلنا”، “من هاك الملعب”، “حمرا ومكتوبي بالنار”…كثيرة هي الأناشيد والأغاني التي قدّمتها أحزاب “الجبهة اللبنانية”، ولم تأتِ على ذكر الجنوب اللبناني بأي جملة، أو إشارة. على العكس، في العام 1982 درجت أغنية “شالوم عيني شالوم”، ترحيباً بالاجتياح الاسرائيلي.

أغلب تلك الأناشيد كانت بأداء من الكورس، دون وجود لمغنٍّ رئيسي، بينما صدرت أغانٍ كثيرة في فضاءات اليمين اللبناني، بأصوات مطربين مثل باسكال صقر التي غنّت “وعد يا لبنان”، “أرضك الكرامي”، والمفارقة ان كلمات هذه الأخيرة تقول “من جبيل الشهامة، من عنجر البطولة، الصلابة من الجبل، من السهل السهولة، الحقيقة من بيروت، من زحلة الرجولة”، هكذا دون أي إشاحة نظر باتجاه الجنوب. وباسكال هي إبنة إتيان صقر، مؤسس “حرّاس الارز”، الحزب الداعي لعلاقات طبيعية مع “إسرائيل”.

أيضاً هناك أغنيات بروحية يمينية، أو شاعت في تلك الأوساط بصوت سامي كلارك، وإيزيس، وخوليا، وألبير فرحات… على العموم اعتمد “القوميون اللبنانيون” على أغاني فيروز، والرحابنة، ومسرحياتهم، لتعزيز المشروع اليوتوبي للبنان الحلم، وبمساهمات مباشرة من الشعراء: سعيد عقل، وموريس عواد، ويونس الابن، ولا ننسى الياس الرحباني الذي لحّن أشهر أناشيد الكتائب والقوات، فكان السرّ وراء نجاحها، لكن المفارقة أنه لحّن أيضاً نشيد حزب البعث “يا شباب العرب هيّا وانطلق يا موكبي” وهو من تأليف سليمان العيسى وألحان الرحباني الذي جعل من بعض الاعلانات “أيقونات” سمعيّة، بجمل موسيقية ضاربة، مثل: “جبنة بيكون”، “تترا تترا”، “شو بطريتك؟”، “جبنة البقرة الضاحكة”.

الفنانة باسكال صقر
أغنيات على خط التماس

مع استعراضنا للأعمال الغنائية السياسيّة، والوطنية، لاحظنا بأن النشيد اليميني قد غضّ النظر عن كل أحداث الجنوب، من احتلال، وتنكيل، وأسر، ومجازر، وكانت تلك الأناشيد تعبوية، موجّهة لجمهورهم المباشر، فلم تجد لها آذانًا صاغية عند جمهور اليسار، بل لم تقطع تلك الأغنيات خط التماس الفاصل، باتجاه الغربية، ولو كانت تُبَث عبر اذاعة صوت لبنان، ولم يتغيّر شيء يذكر في هذه المعادلة بعد انتهاء الحرب في العام 1990.

من الناحية الثانية، بقيت أناشيد حزب الله، وحركة أمل، حبيسة جمهورهما، ولم تتوسّع ضمن المساحة العامة، حتى في مناسبات وطنية كبرى، مثل التحرير في العام 2000، على الرغم من الجهد الذي قام به حزب الله بانتاج أناشيد غنّى بها نجوم من الدراما السورية، ومنهم الممثلة رغدة.

من ناحية ثانية، كان من الواضح بأن الجمهور الآخر قد أغلق بابه باتجاه أي “ثقافة” مغايرة، علماً ان الحزب والحركة لم يقدّما اهتماماً حقيقياً لمشروع موسيقي جامع، وهو على ما يبدو ترَف لا يشبه ظروف لبنان، وخصوصياته المعقّدة، حيث الفدرالية غير المعلنة.

الفنان زياد الرحباني
مرسيل وزياد والجنوب ثالثهما

تكمن المفارقة الكبرى في اليسار، حيث استطاع مارسيل خليفة على وجه التحديد بأن يكوّن جمهوراً أوسع بكثير من الجمهور الشيوعي، فكان مسموعاً في شتّى المناطق، ولو كان ممنوعاً في أحيان، ومحرّماً في أخرى. يعود الأمر بنسبة كبيرة إلى التفاصيل التي شكّلها خليفة، انطلاقاً من خبرته الموسيقية الخاصة، ومهاراته التقنية في العزف، وثقافته المنفتحة على الآخر، وهو الذي عاش لسنوات في فرنسا، والأهم اختياره لقصائد متينة، ومغايرة، من محمود درويش، إلى عز الدين مناصرة، وعلي فودة، بينما كانت القصائد الجنوبية مع شوقي بزيع، وعباس بيضون، وحسن العبدالله، ومحمد العبدالله، وعصام العبدالله، وحسن ضاهر، ونبيه بري الذي كتب قصيدة “بلال”.

في قرارة نفسه، اشتغل مارسيل خليفة للقضية، لكنه ايضاً اشتغل لذاته، وبالرغم من تضاؤل حزبه إلا أنه كان يسجل صعودًا، بينما لم يبرز من اليمين اللبناني اسم فنان واحد، لأن جميع أناشيد الكتائب والقوات، وحراس الأرز، والتنظيم، والأحرار، كانت مبنية على الأداء الجماعي. 
وحده زياد الرحباني، استنكف عن خوض هذا الغمار بشكل مباشر، فكتب ولحّن أغنية واحدة، لتقدم بثلاثة أصوات، آخرهم السيدة فيروز: “خلّصوا الأغاني هنّي ويغنّوا عالجنوب، خلّصوا القصايد هنّي ويصفّوا عالجنوب. ولا الشهدا قلّوا ولا الشهدا زادوا، وإذا واقف جنوب، واقف بولادو…هيدي مش غنّيي، هيدي بس تحيي”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى