أنا المصرية، بيروت ضيعتي!
“نسّيني حالي بدي كون متل بيروت” جملة سبّبت إحدى أزماتي الوجوديّة، فقبل أن أراها كنت أتساءل كيف تبدو، رأيتها بعد سنوات من سماعي للأغنية فتحوّل السؤال إلى “لماذا بيروت؟” ثمّ “ماذا تعني بيروت؟”.
أتذكّر مجيئي إلى بيروت للمرّة الأولى، أخذني أحد الأصدقاء فور وصولي، في جولة إلى “الحمرا” أشهر مناطق المدينة. خلال ساعة ونصف تجوّلنا وجلسنا فيها، لم يكن في رأسي إلّا فكرة واحدة “هذه المدينة مبالغ في تقديرها”، كنت أقارن الواقع بما أحمل من صور ذهنيّة، تكوّنت عبر السنين من الكتب والأفلام والأغاني عن بيروت.
تجوّلت في الشوارع استكشفها وحيدة، تهت ولم أستطع العودة إلى شارع الحمرا الرئيسيّ. في الاسكندريّة أسهل طريقة للوصول إلى أيّ منطقة، هو الوصول إلى البحر الذي يساعدك في معرفة مكانك الجغرافيّ، حاولت إتّباع الاستراتيجية نفسها كما في مدينتي التي تؤدّي كل شوارعها إلى البحر فزدت الطين بلّة.
لم أجد البحر، وكلّ الشوارع انتهت بي إلى شوارع أخرى، تعبت من حرارة آب (أغسطس) ومن المشي ومن التيه الذي شعرت أنّه لن ينتهي، وصلت إلى ساحة كليمنصو التي لم أستطع حتّى لفظها آنذاك، لم أعرف كيف أصف فندقي في الكرنتينا التي لفظتها بشكل خاطىء أيضًا.
محاولات حثيثة لاكتشاف مدينة
في يومي الثاني، حاول الأصدقاء إقناعي بجمال المدينة، وأنّ هناك كثيرًا من الأشياء التي تُشاهد في هذه البقعة الصغيرة. ذهبنا إلى مار مخايل فلم تعجبني أيضًا، لست من المعجبين بالأماكن الفارهة، أحسست بالنفور أكثر من بيروت.
أعتقد أنّني وإلى جانب كثير من الناس اعتدنا وصفها بالمدينة التي لا تنام. لم تكن أماكن السهر تغلق أبوابها، وفي الصباح الباكر تفتح المطاعم والمحال التجاريّة، في تكرار يوميّ للمشاهد نفسها، كنت أتساءل كثيرًا كيف يستطيع الجميع مواكبة السهر بهذا الشكل المُفرط كلّ يوم ومن بعدها الذهاب إلى العمل؟
أثناء عودتنا عبرنا فوق جسر للمشاة، تستطيع منه رؤية نيرانًا مشتعلة وسحابة دخان ترتفع فوق المرفأ، سألت إن كان هذا حريقًا، أجاب صديقي بأنّ بعض أصدقاء وعائلات شهداء المرفأ يصرّون على إبقاء النار مشتعلة، للتذكير بالحادث الأليم حتّى لا ينسى الناس أنّ حقّ الشهداء ما زال ضائعًا.
أصبح الانطباع الثاني عندي أنّ بيروت مؤلمة، لكنّها تتذكّر، وتذكّر من ينسى آلامها. ذهبت إلى ساحة الشهداء فرأيت شعارات الثورة وصور الشهداء في كلّ مكان على الجدران، تذكّرت ثورتنا الضائعة وحزنت. لماذا تصرّ هذه المدينة على إحياء آلام الجميع؟
لم تكن أماكن السهر تغلق أبوابها، وفي الصباح الباكر تفتح المطاعم والمحال التجاريّة، في تكرار يوميّ للمشاهد نفسها، كنت أتساءل كثيرًا كيف يستطيع الجميع مواكبة السهر بهذا الشكل المُفرط كلّ يوم ومن بعدها الذهاب إلى العمل؟
لا أحبّها أصلًا
كيف يبدو نصفها حزينًا شاحبًا إلى هذه الدرجة والنصف الآخر يحوي كل هذه البهجة والفرحة والسهر؟ لم أفهم إذا ما كانت كثرة الأزمات شكّلت تكيّفًا وتأقلمًا تلقائيًّا مع كلّ الظروف المحيطة، هدفه النهائيّ الاستمتاع بكلّ دقيقة في الحياة وكأنّها الأخيرة، أم أنّه نوع من أنواع الخدر.
سألني أحد الأصدقاء منذ عدّة أشهر: ماهي أكثر منطقة مفضّلة لك في بيروت؟ أستغرقني التفكير عدّة دقائق ولم أتوصّل في النهاية إلى منطقة أو شيء محدّد أحبه. وقتها أجبته بأنّني لا أحبّها أصلًا. أحبّ لبنان بشكل مبالغ فيه لكثير من الأسباب، لكن بيروت ليست واحدة من الأشياء المذكورة على قائمتي.
حقيقةً أعتقدت وقتها أنّني أكره هذه المدينة كثيرًا، بسبب ازدحامها المروريّ طوال الوقت، وصغر حجمها الذي يجعلك تقابل كلّ من تعرف في الحياة، خلال الربع الأول من نهارك، الضجّة وكلّ ما يمكن أن يزعج المرء من كوابيس واقعيّة في أيّ عاصمة تحترم ذاتها.
تذكّرت أنّ الاختلافات الجذريّة بين الناس هنا، هو ما يجعلك تشعر بالإلفة أينما كنت، تنفي الغربة وإن كنت غريبًا. المشاكل الناتجة عن الطائفيّة والتعدّديّة الدينيّة والثقافيّة تلك، خلقت مجتمعًا يقول ويصرّ على أنّ الكلّ يكره الكلّ، لكن بشكل ما أيضًا بنت في العقل الباطن تقبلًا تلقائيًّا لكلّ الأشكال الإنسانيّة والبشريّة.
الكلّ يصرّ على الاختلاف
سواء كنت في منطقة مسيحيّة، شيعيّة، سنّيّة أو درزيّة، لم أشعر بالإنفصال عن الواقع كما في مصر، لم أشعر أنّني مختلفة إلى حدّ غرابة الأطوار. الكلّ هنا يصرّ على الاختلاف، لكن في النهاية الكلّ يعترف بوجوده ووجود الآخر.
كثرة الأزمات الاقتصاديّة والحروب المتعدّدة كوّنت فكرًا مختلفًا، صحيح أنّها أظهرت الخبير العسكريّ السياسيّ الاقتصاديّ الموجود بالفطرة في داخل الإنسان، لكن هذا أيضًا مفيد، فخلقت كثرتها مساحة للتحدّث عن تلك الأشياء التي ماتت تمامًا في مصر، تلك المساحة أدّت بدورها إلى تكوين أمل في التغيير يمكن أن يحدث إن تطوّر في الاتّجاه الصحيح وبالوعي الكافي.
كنت أعود المرّة وراء الأخرى أحاول وأفشل، كلّ مرّة كنت أضطر فيها إلى مغادرة لبنان بعد الفشل في العثور على فرصة تعليم أو عمل مناسبة، كنت أرى العاصمة كمكان يمثّل فشلي في البقاء، في كلّ مرّة أرحل فيها محطّمة الآمال، كان كرهي يزداد تجاه بيروت ولوحة طريق الأوزاعي والمطار وصوت مضيفة الطيران معلنة وصول طائرة إلى القاهرة.
عدت إلى هنا مرّة أخيرة منذ تسعة أشهر، فجأة أحببت طريق المطار الذي يقود إلى داخل المدينة، أحببت الإلفة والأمان الذي أحسست به، عدت إلى الوطن وإن لم يكن وطنًا بالولادة، لكن روحي بشكل ما تنتمي إلى هذه الأرض، بدأت أتقبّل بيروت.
ترميم الذاكرة
بعد مدّة طويلة من البقاء داخل حدودها، حفظت عن ظهر قلب طرقها التي كنت بالعادة أكره المشي أو القيادة فيها. تغيّرت هذه الشوارع كثيرًا منذ سنتين وإلى اليوم، أتذكّر أسوار مباني وسط المدينة تحمل صور شهداء المرفأ التي أزيلت منذ مدّة. شعارات كثيرة أيضا أزيلت أو تغيّرت، أندم على عدم تصويري كلّ هذا، لكنّها ستظلّ محفورة في ذاكرتي.
أصبح شارع الحمرا هو كلّ ذكرياتي عن الأصدقاء، من غادر منهم ومن بقي. الكورنيش و”البيال” شهدا على كثير من الصخب والمشادّات بيني وبينهم أيضًا، سلالم الجمّيزة رأتني أبكي وحيدة أحيانًا، أرحّب بأصدقاء وأودّع آخرين في أحيان أخرى. كنت التقط صورة في كلّ مرّة أمرّ على طريق عالٍ في الأشرفيّة، أردت توثيق كلّ المرّات التي كنت أرى فيها الجبل وخضرة الأشجار بعيدًا في نهاية الطريق.
أصبح شارع الحمرا هو كلّ ذكرياتي عن الأصدقاء، من غادر منهم ومن بقي. الكورنيش و”البيال” شهدا على كثير من الصخب والمشادّات بيني وبينهم أيضًا، سلالم الجمّيزة رأتني أبكي وحيدة أحيانًا، أرحّب بأصدقاء وأودّع آخرين
اليوم لم أستطع رؤية الجبل، لكن أردت تصوير خياله، لم تكن الصورة لتذكّر شعوري بالسعادة كالعادة، لكن لتوثيق الدخان المتصاعد من الضاحية جرّاء إحدى الغارات. ذهبت إلى العمل في إحد المقاهي المعتادة، فوجدت الجميع يتعاونون في الطبخ للنازحين، في مراكز الإيواء المحيطة، مثلها كمثل كثير من المطاعم والمقاهي أو حتّى الأماكن الثقافيّة التي وجّهت كلّ جهودها لمساعدة المتضرّرين من الحرب.
تغيّرت الشوارع كثيرًا منذ بدء العدوان على الضاحية الجنوبيّة، وتوسّع أكثر في الجنوب. تغيّر كلّ شيء في عينيّ وذاكرتي، لم تعد ساحة الشهداء تذكّرني بالثورة فقط، بل بالمأساة الناتجة عن الحرب أيضًا، أضيفت صورة النازحين في ملفّ آخر جنبًا إلى جنب مع صور شهداء المرفأ وشعارات الثورة.
بيروت ضيعتي
غادر معظم أصدقائي لبنان، ومن بقي منهم هم من خارج العاصمة، إمّا يرفض مغادرة بيته، باقيًا تحت القصف، أو غادروا بيروت، كلّ إلى ضيعته، عرض كثير منهم استضافتي في بيوتهم الآمنة، لكن قلت لأحدهم جملة ذات مرّة وأعتقد أنّها تصف شعوري تجاه بيروت ، “كلّ واحد فيكن رجع عضيعته، أمّا أنا ما عندي محلّ إرجعله، بيروت هي ضيعتي”.
كثيرًا ما أتسائل كيف لمدينة بهذا الصغر، أن تحوي العالم كلّه من شرقه إلى غربه، فيها ثقافات آسيويّة وأوروبّيّة وإفريقيّة ولاتينيّة، أديان وثقافات لا حصر لها، ما يمثّل العالم من منظّمات رأسماليّة أو شيوعيّة واشتراكيّة أو إنسانيّة ودوليّة هنا. كلّ الأزمات الاقتصاديّة مرّت من هنا، كلّ أنواع الحروب الخارجيّة والداخليّة أخذت ركنًا هنا أو هناك، ثورات ومشاعر وبشر مرّوا تاركين ذكرى في هذا الركن أو ذاك.
هذه الضيعة الصغيرة، التي بطريقة ما تجعلني مبانيها وشوارعها أشعر أنّني أصغر من قيد أنملة، لم تكن تمثّل آمالي المحطّمة كما كنت أعتقد، لكنّها تمثل محاولاتي المستميتة لإثبات وجودي، الآن فقط أرى أنّ بيروت لم تكن يومًا تجسّد فشلي في البقاء هنا، بل نجاحي في تعزيز الغريزة الإنسانيّة والفطرة البشريّة الأولى، المقاومة للبقاء في هذه الحياة.