أنجيلا جُرداق الخوري الوجه النسائيّ الأوّل للدبلوماسيّة اللبنانيّة

في زمنٍ احتكر فيه الرجال المجال الدبلوماسيّ في منتصف القرن العشرين، وكانت شؤون السياسة الخارجيّة فيه بعيدةً من تفكير المرأة في لبنان، وفُرض عليها مراقبة مجريات العالم من خلف الكواليس، لمع اسم أنجيلا جرداق الخوري كامرأة استثنائيّة لم يتوقّف طموحها عند حدود القاعات الأكّاديميّة، وامتدّ إلى الأروقة الدوليّة.
لم تكن أوّل امرأة تدخل السلك الدبلوماسيّ اللبنانيّ وحسب، بل كانت من أوائل النساء اللبنانيّات والعربيّات اللواتي تصدّرن منابر الأمم المتّحدة. فجلست على طاولات صياغة القرارات، وساهمت في تمثيل لبنان داخل لجنة وضع المرأة في الأمم المتّحدة، وشاركت في صياغة الأفكار التي ستُترجم لاحقًا في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان.
كذلك دوّى صوتها رافعةً من شؤون المرأة اللبنانيّة، فناقشت قضاياها وتفاوضت حولها، واختارت أن تمثّلها بثباتٍ وإيمان راسخٍ وعميقٍ بأنّ مكانها ليس في الظلّ، بل في قلب المشهد. وعُرف عنها دفاعها الشرس عن مبادئ العدالة الاجتماعيّة، وتعزيز تعليم المرأة وحقوقها، في عالمٍ كان يتغيّر بسرعة لكنّه لا يزال يقاوم فكرة المساواة. لذلك، جسّدت شخصيّةً محوريّةً في تاريخ الدبلوماسيّة النسائيّة اللبنانيّة والعربيّة، وبوصلةً فتحت الباب أمام جيلٍ جديدٍ من الدبلوماسيّات.
ضهور الشوير… البداية
وُلدت أنجيلا جرداق الخوري في الـ 24 من أيلول (سبتمبر) العام 1915 في “ضهور الشوير”، البلدة الجبليّة الوادعة وواحدة من أهمّ المصايف في لبنان التي لم تكن مجرّد مكانٍ للاستجمام، بل ملتقى نشط للنخبة الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة اللبنانيّة والعربيّة حينذاك.

ونشأت في هذه البيئة التي احتضنت المدارس والمجلّات والصالونات الفكريّة والأدبيّة، وضمن أسرةٍ تؤمن بأهمّيّة التعليم والمعرفة. فهي ابنة واحدٍ من أوائل المتعلميّن في البلدة، هو منصور حنّا جرداق، الأستاذ في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وعالم الرياضيّات والفلك الذي حرص على أن يتلقّى أبناؤه وبناته تعليمًا متقدّمًا.
بدأت تتكوّن ملامح وعي أنجيلا وثقافتها في مسقط رأسها، حيث لم يكن سهلًا أن تُصغي أيّ فتاة أو امرأة إلى تطلّعاتها أو تُفصح عن أحلامها، في فضاءٍ غير مصمّمٍ لقبول خروجهنّ عن القوالب التقليديّة.
ففي تلك الفترة، وعلى الرغم من الانفتاح الثقافيّ الذي كانت تشهده البلدة، لم يكن مألوفًا أن تلتحق فتاة بمدارس النخبة، لكنّ أنجيلا حقّقت هذا الطموح. وحين أنهت دراستها وقفت في وجه التقاليد وتمرّدت على الدور المرسوم لكلّ فتاة وامرأة، فتوجّهت إلى بيروت لاستكمال دراستها الجامعيّة.
رائدة السوسيولوجيا اللبنانيّة
حين خطت أنجيلا عتبة الجامعة الأميركيّة في بيروت في ثلاثينيّات القرن الماضي، كانت واحدةً من قلّةٍ من الشابّات اللواتي خضن هذا التحدّي. فواجهت عوائق العادات الاجتماعيّة والأعراف الذكوريّة التي لم تفتح الطريق أمام الطالبات، لكنّها تمكّنت بإصرارها وثباتها من عبور بوّابة الجامعة وبدأت تحفر مكانتها داخل جدرانها.
كانت بحسب بحثٍ نُشر في مجلّة “Journal of International Women’s Studies” أوّل امرأة درست في قسم “السوسيولوجيا” في الجامعة الأميركيّة
اختارت دراسة علم الاجتماع، وكانت بحسب بحثٍ نُشر في مجلّة “Journal of International Women’s Studies” أوّل امرأة درست في قسم “السوسيولوجيا” في الجامعة الأميركيّة. وفي العام 1938، أعدّت رسالة ماجستير قال عنها مشرفها عالم الاجتماع الأميركيّ ستيوارت ك. دود حينذاك، إنّها “عمل رائد لا يزال يُقتبس منه في الأوساط العلميّة في أميركا بفضل مساهمته الجديدة في علم الاجتماع”.
فأطروحتها التي تناولت البُنى الاجتماعيّة في السياق اللبنانيّ، لم تكتفِ بالرصد والوصف بل حملت حسًّا ومنهجًا نقديًّا وتصورًّا تحليليًّا متقدّمًا، حوّلها من بحثٍ جامعيّ إلى مشروعٍ فكريٍّ متكامل، فأثبتت أنّ الطموح العلميّ للمرأة اللبنانيّة ليس أمرًا عابرًا بل متجذّرًا في العمق.
هكذا، كسرت الحواجز والتقاليد وبنت لنفسها مكانةً خاصّة وتركت بصمةً نادرة، فشغلت موقع الريادة الأكّاديميّة بجدارة. وأصبحت أوّل امرأة تعتلي منبر التدريس في قسم العلوم الاجتماعيّة في الجامعة التي تخرّجت منها، وكانت من أوائل الأكّاديميّات في لبنان والعالم العربيّ.
من الجامعة إلى السياسة الدوليّة
شكّلت مسيرة أنجيلا جرداق الخوري الأكّاديميّة تربةً خصبةً نما فيها وعيها ومعرفتها وفهمها العميق لقضايا السياسة والمجتمع. وتوسّعت خبرتها، وأسهمت في بناء المناهج التعليميّة في الجامعة، وتولّت مهام إداريّة هامّة مثل سكرتاريّة عميد كلّيّة الآداب والعلوم. وأجرت أبحاثًا عدّة في مجال اختصاصها، فبرزت كأحد أبرز الأصوات النسائيّة العلميّة في لبنان حينذاك.
وبدأت تتبلور رؤيتها بشأن دور المرأة، وانخرطت في العمل المجتمعيّ والنسويّ مع منظّماتٍ عدّة، ودعمت قضايا تعليم المرأة وتمكينها. فأسهمت في رسم ملامح الوعي النسويّ، وكرّست حضورها كأحد الوجوه المُؤسِسّة للحركة النسائيّة في لبنان.

في تلك المرحلة، كان لبنان حديث العهد بالاستقلال وفي طور تكوين شبكة من الممثّلين لتعزيز حضوره السياسيّ والدبلوماسيّ على الساحة الدوليّة. وكان المطلوب تعيين شخصيّاتٍ لا تملك خلفيّات سياسية وحسب، بل تتمتّع بوعيٍ اجتماعيّ عميق وثقافة واسعة وقدرة على التفاوض.
وأنجيلا، بشهاداتها ومهاراتها اللغويّة، وخبرتها واطّلاعها الأكاّديميّ، وعملها الاجتماعيّ والنسويّ، كانت تُجسّد هذا النموذج. لذلك، بعد توصيةٍ من شخصياتٍ أكاديميةٍ عديدة، منهم مشرفها السابق الأميركيّ ستيوارت ك. دود، انضمّت رسميًّا إلى وزارة الخارجيّة اللبنانيّة العام 1945. وأصبحت جزءًا من السلك الدبلوماسيّ الرسميّ للدولة، وهو تعيين وظيفيّ يُخوّلها تمثيل بلدها في المحافل الدوليّة.
وبهذه الخطوة، كسرت سقفًا زجاجيًّا لم يسبق أن اقتربت منه امرأة في لبنان في ذلك الوقت، فكانت أوّل لبنانيّة تمارس العمل الدبلوماسيّ الرسميّ.
سفيرة لبنان بالمحافل الدوليّة
انطلقت أنجيلا بخطى ثابتة كسفيرة للبنان في ميادين السياسة الخارجيّة، ورسّخت دوره في المحافل الدوليّة، في وقتٍ كان الحضور النسائيّ في هذا المجال شبه معدوم ونادر.
ففي بداية رحلتها الاستثنائيّة، شاركت العام 1945 في مؤتمر سان فرانسيسكو المعروف رسميًّا باسم “مؤتمر الأمم المتّحدة حول التنظيم الدوليّ” الذي كان يهدف إلى تأسيس منظّمة الأمم المتّحدة، ووضع ميثاقها الرسميّ. فكانت من أوائل العربيّات اللواتي اعتلين منابر هذه المنظمة الدوليّة، لتحضر وتساهم في نشاط دبلوماسيّ دوليّ بهذه المكانة.
لكنّها لم تكتفِ بالمشاركة، بل حملت على عاتقها تمثيل قضايا المرأة اللبنانيّة والعربيّة و وصوتها، فطرحت نقاشات حول دورها في عمليّات السلام والتعليم والمشاركة السياسيّة.
بعد هذا الحدث التأسيسيّ، عُيّنت فورًا في منصب سكرتيرة أولى في البعثة اللبنانيّة الدائمة في واشنطن لتبدأ فيها مسيرةً، كانت خلالها حلقة وصل بين الخارجيّة اللبنانيّة ومؤسّسات القرار الأميركيّ، وبقيت في هذا المنصب حتى العام 1966. وهذا يدلّ على الثقة الكبيرة التي أولتها الخارجيّة لها، بالإضافة إلى قدراتها المهنيّة العالية التي مكّنتها من الاستمرار في هذا الموقع الرفيع نسبيًّا ضمن بيئة دبلوماسيّة تقليديّة.
صوت المرأة بأروقة الأمم المتّحدة
بين أروقة المنظّمة الأمميّة، لم تكن أنجيلا مجرّد مندوبة دبلوماسيّة عن بلدها الذي مثّلته بين عامي 1946 و1951 في اللجنة المعنيّة بوضع المرأة، بل كانت عضوًا فاعلة ثمّ مقرّرة في هذه اللجنة التي كانت في طور التأسيس.وفكان لها حضور بارز في عدد من المؤتمرات الدوليّة واللجان الحقوقيّة، ودافعت عن قضايا العدالة والمساواة. لم تكن دبلوماسيّة من النوع الكلاسيكيّ بل كانت تحمل فكرًا نقديًّا وإحساسًا عميقًا بالمسؤوليّة تجاه قضايا المرأة في لبنان والعالم العربيّ.
ساهمت بفعاليّة في صياغة عددٍ من الوثائق المرجعيّة الخاصّة بالمرأة، ولعبت دورًا في رسم ملامح السياسات التي تخصّ أوضاعها. وشاركت في صياغة أولى البنود التي أرست لاحقًا اتّفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّها وهي اتّفاقيّة “سيداو”، وتركت بصمتها في النقاشات التأسيسيّة حول حقوقها ضمن مسودّة الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان.
بعد سنواتٍ من الحضور الدبلوماسيّ الفاعل ونجاحات أنجيلا المتواصلة، لم يكن غريبًا أن تُعيّن قنصلًا عامًّا للبنان في نيويورك العام 1951. وهو منصب رفيع لم يسبق أن شَغلته امرأة لبنانيّة قبلها
في حينه، لم يكن وجودها في هذا السياق سهلًا ولا مجرّد تمرّدٍ على الصورة النمطيّة للمرأة في العالم العربيّ، إنّما كان انتصارًا لها بعد أن واجهت تحدّيات كثيرة في بيئة يغلب عليها الطابع الذكوريّ. وحين سُئلت لاحقًا عن تجربتها، قالت: “لم أشعر يومًا أنّني أمثّل نفسي فقط، إنّما كنت أمثّل صوتًا غائبًا عن قاعات القرار، صوت المرأة العربيّة الطامحة إلى الحرّيّة”.
“نيويورك”… فصل جديد
بعد سنواتٍ من الحضور الدبلوماسيّ الفاعل ونجاحات أنجيلا المتواصلة، لم يكن غريبًا أن تُعيّن قنصلًا عامًّا للبنان في نيويورك العام 1951. وهو منصب رفيع لم يسبق أن شَغلته امرأة لبنانيّة قبلها، لتخطّ فصلًا جديدًا في حكاية النساء في الدبلوماسيّة العربيّة. لم يكن هذا التعيين مجرّد لقب إضافيّ بالنسبة إليها، فتولّت بمسؤوليّةٍ عميقة والتزامٍ شديد شؤون الرعايا اللبنانيّين وملفّاتهم وقضاياهم، متسلّحةً بوعيها الثقافيّ ومهاراتها الإداريّة والتفاوضيّة وحسّها العالي بالانتماء الوطنيّ.
فأعطت لهذا المنصب بُعدًا رمزيًّا عميقًا: امرأة لبنانيّة خرجت من ضهور الشوير، تلك البلدة الجبليّة الصغيرة التي تقع على سفوح جبل لبنان، لتصل إلى واحدةٍ من أعقد مدن العالم، في زمنٍ كانت المرأة فيه بالكاد تخرج عن قيود الدور التقليديّ الذي رسمه لها البيت والمجتمع. فكسرت نمطًا طويلًا من التهميش، وأعطت مثالًا حيًّا على قدرة المرأة على التمثيل والإدارة، والمناورة، تمامًا كالرجل.
استمرّت خدمة أنجيلا في السلك الدبلوماسيّ أكثر من 20 عامًا، قبل أن تقدّم استقالتها من وزارة الخارجيّة اللبنانيّة العام 1966 لتنتقل إلى العمل الفكريّ. فاستكملت دراستها في واشنطن وحصلت على دكتوراه في العلاقات الدوليّة، وأجرت تدريبات عمليّة في مدرسة الدراسات الدوليّة في جنيف.
الريادة خارج المكاتب
لم تُجسّد استقالة أنجيلا من الخارجيّة اللبنانيّة انسحابًا من الساحة العامّة ولا تخلٍّ عن دورها، بل انتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ من التأثير والفاعليّة المدنيّة، والعمل الثقافيّ والنسويّ في الولايات المتّحدة حيث استقرّت وواصلت مشروعها الفكريّ والإنسانيّ عبر الكتابة، والتعليم في جامعة جورج مايسون حتّى تقاعدها العام 1982.
كذلك استمرت تشارك في النقاشات العامّة والفعاليّات التي تُعنى بحقوق المرأة والمغتربين اللبنانيّين. ولم تنسَ جذورها الأكّاديميّة، فبقيت مهتمّة بتوثيق تجارب النساء الرائدات وتاريخ الحركة النسائيّة في لبنان حتّى رحلت عن عالمنا في الـ 29 من أيّار العام 2011 بهدوءٍ يليق بمَن اختارت أن تُنجز وتنجح من دون ضجيج. لكنّ تأثيرها لا يزال يتردّد في كلّ امرأةٍ دخلت ميدانًا كان مغلقًا ومخصّصًا للرجال فقط!
بصماتها في ضهور الشوير
لم تنقطع أنجيلا عن بلدتها “ضهور الشوير”، بل اهتمّت بها وأسهمت في دعم تعليم الفتيات فيها. وكانت تُعتبر مرجعًا ثقافيًّا في منطقتها، فشجّعت على فتح مكتبات ومراكز ثقافيّة محلّيّة، ودعمت مبادرات مجتمعيّة لتمكين النساء.
وبفضل حضورها الثقافيّ والأكّاديميّ، أصبحت “ضهور الشوير” مكانًا يُستشهد به للدلالة على أوائل الرائدات اللبنانيّات، فأنجيلا جرداق الخوري لم تدخل إلى السلك الدبلوماسيّ لتكمل مشهدًا جندريًّا شكليًّا، بل لتمثل وطنًا صغيرًا بحجم لبنان طموحًا بحجم العالم، ولتصنع فرقًا حقيقيًّا في الطريقة التي يُنظر بها إلى المرأة اللبنانيّة والعربيّة في السياسة الدوليّة.