أنيسة روضة نجّار رائدة تغيير في حياة المرأة الريفيّة

في زوايا التاريخ القريب، ومن قلب النضال الثقافيّ والاجتماعيّ والنسويّ، تسطع سيرة أنيسة روضة نجّار كصفحةٍ ناصعةٍ في تاريخ النساء الرائدات. لم تكتفِ “الست أنيسة” بأن تكون شاهدةً على التحوّلات الكبرى، بل اختارت أن تتواجد في صلبها. تصوغها بتجربتها الغنيّة وقلمها الحادّ، وصوتها الذي حمل قضايا النساء خصوصًا الريفيّات، إلى أروقة النقاش العام.

ولدت أنيسة نجّار في 26 حزيران (يونيو) العام 1913 في بيروت، في زمنٍ كان حيّز النساء فيه هامشيًّا لكنّ أنيسة وسّعته بحلمٍ لا يعرف المستحيل. تشبّعت منذ نشأتها بروح التغيير وتميّزت بشخصيّتها المتمرّدة، فتمسّكت برسالتها وعطائها بثبات، من بيروت حيث ولدت إلى القرى النائية المنسيّة. خاضت أنيسة معاركها بهدوء العارفة، وإصرار المتمرّدة، واعتقادها بأنّ المعرفة درعٌ يحمي المجتمعات من الجهل والتخلّف.

تركت أنيسة نجّار وراءها حينما رحلت في الـ 15 من كانون الثاني (يناير) العام 2016، أثرًا سيبقى راسخًا وإرثًا غنيًّا، جسّدت فيه قيم الإرادة الحرّة والشغف والعطاء في مجالاتٍ عدّة، فكانت صحافيّة جريئة، بيدين ممدودتين للنهوض بالمجتمع بشكل عام، وللمرأة الريفيّة لحثّها على التعلّم بشكل خاص، في رحلةٍ امتدّت أكثر من قرن.

ذاكرة لا تُمّحى

عاشت أنيسة نجّار 103 أعوام، نذرت نحو 95 منها للتنمية وإعادة تشكيل ملامح العدالة الاجتماعيّة، فهي نشأت خلال الحرب العالميّة الأولى التي ألقت بظلالها الثقيلة على البلاد، فكان شبح التجنيد الإلزاميّ العثمانيّ يطارد والدها سليم روضة الذي كان يهرب مختبئًا منهم، ثمّ يعود ليختلس بعض لحظات الدفء وسط أسرته، فكانت والدتها زلفا تدفع للجنود العثمانيّين في كلّ مرّة ليرةً من ذهب للإعفاء عنه.

أنيسة نجار في العام 1926

لكنّ الحظّ لا يبتسم دائمًا، ففي إحدى المرّات وقع سليم في قبضة الجنود، الذين سيّروه إلى اللاذقيّة التي كان ينهشها وباء التيفوس ولم تُكتب له النجاة، فتوفّي وكانت أنيسة في الرابعة من عمرها، فبقي ذاك اليوم في قلبها حتّى آخر لحظةٍ في حياتها.

وعلى الرغم من أنّ أنيسة عاشت أكثر من قرن، إلّا أنّ الزمن لم يحفر أيّ ثقوبٍ في ذاكرتها. ففي مقابلة مع “تلفزيون لبنان” أُجريت معها وهي في عمر الـ 102، ظهرت وفي عينيها بريقٌ لا يخفت، وفي ذاكرتها سجلٌ لا يشيخ، فروت تفاصيل اعتقال والدها، كما لو أنّه حدث بالأمس القريب.

امرأة كتبت تاريخها باكرًا

منذ خطواتها الأولى في مسيرة التعلُّم، برز لدى “الست أنيسة” شغفها في العمل الاجتماعيّ والصحافة، فكانت في عمر الثامنة فقط حين أسّست، من على مقاعد الدراسة بالتعاون مع عددٍ قليل من زميلاتها، أوّل مجلةٍ مدرسيةٍ أطلقن عليها اسم “الأهليّة”، فنسّقت مع صديقاتها مهام كلّ واحدة منهنّ، وكتبن موادّ أعداد المجلة بخطّ أيديهنّ وباستخدام قلم رصاص!

لكنّ هذا المشروع الذي حلمت به لم يَطُل، ولم يُصدرن من المجلة سوى ستّة أعداد فقط. فنَشر مجلّةٍ في هذا السن المبكّرة تحدّ كبير، ومواصلة الكتابة بخطّ اليد أمرٌ مرهقٌ بالنسبة إليهنّ خصوصًا أنّها كانت تتألّف من 12 صفحة، ما أثّر على أوقات دراستهنّ ففضّلن التوقّف عن هذا العمل، للتركيز على علمهنّ.

منذ خطواتها الأولى في مسيرة التعلُّم، برز لدى “الست أنيسة” شغفها في العمل الاجتماعيّ والصحافة، فكانت في عمر الثامنة فقط حين أسّست، أوّل مجلةٍ مدرسيةٍ أطلقن عليها اسم “الأهليّة”

رحلة البحث عن أثر

في أروقة الجامعة الأميركيّة ببيروت، حيث تخصّصت في العلوم الاجتماعيّة والتربية، وجدت أنيسة فضاءً رحبًا للفكر والحوار، وشعرت بمسؤوليةٍ أكبر تجاه مجتمعها وحبًّا للكتابة، فكانت من أوائل النساء اللواتي دخلن عالم الصحافة.

كان انضمامها إلى “جمعيّة العروة الوثقى” نقطّة تحوّلٍ في مسيرتها، وهذا ما امتدّ تأثيره ليشمل مختلف الأصعدة الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة، والاجتماعيّة والاقتصاديّة والفنّيّة والأدبيّة. فأنيسة لم تكن مجرّد عضوٍ في هذه الجمعيّة، بل تولّت بعد تخرّجها العام 1936، رئاسة تحرير مجلّتها.

العراق… مغامرة خارج المألوف

في العام 1937، احتاجت الحكومة العراقيّة إلى معلّمات ومربّيات يمتلكن رؤيةً تعليميّةً متطوّرة، فطلبت مدرّسات من لبنان الذي تميّزت نساؤه في هذا المجال. هكذا، وجدت أنيسة نفسها أمام فرصةٍ تشكّل تحدّيًا يستحقّ المجازفة، فسافرت إلى بغداد حيث كانت تنتظرها تجربة غنية بالتحوّلات والتحدّيات. كانت تلك الخطوة جريئةً جدًّا بالنسبة لأنيسة نجّار، وخيارًا غير تقليديّ لفتاةٍ لبنانيّة في ثلاثينيّات القرن الماضي، حين كان سفر النساء أو خروجهنّ إلى العمل نادرًا جدًّا.

بدأت رحلتها في العراق من مدينة الموصل حيث عملت مدرّسة، ثم انتقلت إلى بغداد وأُوكلت إليها مهمّة إدارة صفوف عديدة هناك، ثمّ عادت إلى الموصل مديرة لمدرسة “الموصل للبنات”. وفي أثناء تواجدها في العراق، سعت “الست أنيسة” عبر عملها إلى المساهمة في تطوير المنظومة التعليميّة، وإحداث تغييرٍ ملموس. فلم تكن مديرة مدرسةٍ تقليديّة، بل قائدة تعمل على خلق بيئةٍ تعليميّةٍ تزرع في الطالبات حسّ المسؤوليّة والطموح.

امرأة صنعت التغيير

عادت “الست أنيسة” إلى لبنان في أواخر العام 1941، حاملةً معها إرثًا من التجارب والرؤى التربويّة الحديثة، ومؤمنةً بأنّ النهضة تبدأ من الإنسان نفسه، وتستمرّ به، لذلك، واصلت عملها ونشاطها في مجال التعليم والتنمية الاجتماعيّة لعقودٍ طويلة، على الرغم من التحدّيات وعوائق كثيرة تخطّتها بنجاح، في زمنٍ كانت فيه أصوات النساء مكتومة ومقموعة.

قاومت القيود الاجتماعيّة التي تُحكم قبضتها على المرأة، وتحدّت نظرة المجتمع الذي يرى فيها ربّة منزل تنحصر مهمّتها الأساسيّة في الزواج والإنجاب وتربية الأطفال، فسلّطت الضوء على موضوعٍ، كان ولا يزال حتّى اليوم منسيًّا، فركّزت عملها وجهودها في الدفاع عن حقوق وهموم المرأة الريفيّة، واحدة من الفئات الأكثر تهميشًا في لبنان.

تمسّكت أنيسة بحلمها في تطوير الريف اللبنانيّ واعتبرت أنّه يبدأ بتوفير التعليم، والرعاية الصحّيّة والتنمية الاجتماعيّة للمرأة، وتوفير الفرص لها لتصبح أكثر وعيًا بقدراتها وحقوقها، ما يُسهم في تغيير المجتمع وتطويره بشكلٍ عام.

“جمعية إنعاش القرية”

هذه العوامل مجتمعةً دفعت أنيسة إلى تأسيس “جمعيّة إنعاش القرية” العام 1953 برفقة السيّدة إفلين بسترس. كانت هذه الجمعيّة رائدةً في مجال التنمية الريفيّة في العالم العربيّ، والمؤسّسة الأولى التي تهدف إلى تأهيل “امرأة الغد”، المثقّفة والمُؤهّلة التي ستساهم في إعادة بناء القرى.

وفي مقابلتها مع قناة “تلفزيون لبنان”، قالت “الست أنيسة” إنّ “إنعاش القرية، كانت المساحة التي احتوت جميع الآراء الوطنيّة ومفاهيم المواطنة التي أؤمن بها. وكان هدفي من ذلك، أن تشعر المرأة بأنّها موجودة ومرئيّة، وأن تتعلّم القراءة والكتابة وتُدرك جيّدًا واجباتها وحقوقها”.

وأضافت “قدّمنا للمرأة الريفيّة دروسًا وورش عمل لتحسين مهاراتها في الزراعة، ورعاية الأطفال، وأساسيّات التغذية والنظافة. فنشرنا التعليم بين نساء وأطفال الريف ومحونا أمّيّة ثلاث قرى لبنانيّة. وعملنا على تمكين الريفيّات من مهنٍ عدّة، مثل الأشغال الحرفيّة اليدويّة وفنّ الحياكة، ليشعرن بالاستقلال المادّيّ”. وبفضل جهودها، بدأت النساء القرويّات في اكتساب الثقة بأنفسهنّ، وأصبحن أكثر قدرة على تحقيق ذواتهنّ خارج الأدوار التقليديّة المفروضة عليهنّ.

رائدة العمل النسويّ

لم ينحصر كفاح “الست أنيسة” في قضايا التعليم والمجتمع والنساء، بل امتدّ للمساهمة في القضايا الوطنيّة، فكانت من أوائل النساء اللواتي انخرطن في الاتّحاد النسائيّ اللبنانيّ الذي لعب دورًا محوريًّا في المطالبة بحقوق المرأة اللبنانيّة ودعمها، ومقاومة الانتداب الفرنسيّ، انطلاقًا من إيمانها بأنّ استقلال الأوطان لا يكتمل من دون نهوض المرأة ومشاركتها في بناء المجتمع.

نجّار: قدّمنا للمرأة الريفيّة دروسًا وورش عمل لتحسين مهاراتها في الزراعة، ورعاية الأطفال، وأساسيّات التغذية والنظافة. فنشرنا التعليم بين نساء وأطفال الريف ومحونا أمّيّة ثلاث قرى لبنانيّة

وبعد مشاركتها في مؤتمر العصبة النسويّة العالميّة للسلام والحرّيّة في أميركا، دعت العام 1962 إلى تأليف لجنة لبنانيّة لجمعيّة “السلام والحرّيّة”، بهدف “إظهار لبنان بوجهه الثقافيّ والدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة”. دافعت “الست أنيسة” عن حقّ المرأة بالمساواة مع الرجل، وحصولها على جميع حقوقها ووقف الانتهاكات في حقّها. وعبّرت عن عتبها على المناهج الدراسيّة لأنّها لا تتضمّن تدريس وتعليم الصبيان والشبّان، أصول وأساسيّات احترام المرأة التي تملك عمقًا لا يمكنه أن يلحظه بسهولة، بعيدًا من التركيز على مظهرها الخارجيّ.

تكريم “الست” المُستحق

على الرغم من المآسي التي مرّت بها بعدما خسرت ابنتها سَنا إثر القصف الإسرائيليّ على بلدة العباديّة (قضاء بعبدا) وهي أوّل مهندسة زراعيّة لبنانيّة، واصلت نشاطها، فشاركت في الوفد الذي قابل الأمين العام للأمم المتحدة العام 1985 والذي اعتصم تضامناً مع الفلسطينيّين في لبنان .وأصدرت في الذكرى المئة لولادة زوجها الراحل فؤاد نجّار كتابها “رحلة فؤاد نجّار بين الأرض والوطن”، ولها كتاب لم ينشر بعد بعنوان “محو أمّيّة العقل”.

لم يمر تفاني وإصرار أنيسة في عملها من دون تقدير، فحظيت بأكثر من تكريم، وأشادت بها شخصيّات سياسيّة وفكريّة وخبراء في مؤتمرات محلّيّة ودوليّة، وحصدت أوسمة ودروعًا يصعب حصرها من كثرة عددها، من مؤسّساتٍ حكوميّة وخاصّة ومحلّيّة ودوليّة، لكن يبقى كلّ واحدٍ منها شهادةً حيّة على التزامها الراسخ بقضيتها. وحصلت على جوائز دوليّة مرموقة من منظّماتٍ عالميّة، تعمل في مجال التنمية وحقوق المرأة.

في العام 1967 نالت وسام الاستحقاق اللبناني من رتبة فارس؛ وفي ذكرى ميلادها المئة، كرّمتها الدولة ومنحها رئيس الجمهوريّة حينذاك ميشال سليمان، وسام الأرز الوطنيّ من رتبة كومندور. وأصدرت وزارة الاتصالات طابعًا بريديًّا عاديًّا يحمل صورتها إلى جانب نساء رائدات (فئة 2000 ليرة تاريخ 22 أيار/ مايو 2014). وروت أنّها فرحت بإصدار هذا الطابع لسببٍ واحد فقط، هو أنّ تفكير الدولة اتّجه نحو تكريم امرأة وهو أمر نادر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى