أوتيل خوّام ومجد بعلبك الضائع.. من الكولونيل الألماني إلى ديغول وشمعون وعبد الوهاب
أوتيل خوّام، المعروف باسم العائلة التي امتلكته ذات يوم، كان قائماً في منطقة رأس العين بمدينة بعلبك، ولم يعد له وجود في الوقت الحالي، ما يبرر استعمالنا صفة الماضي. لذا، فإن الحديث عنه يشبه الحديث عن موقع أثري لم يبقَ منه سوى بعض الحجارة، على غرار العديد من الواقع الأثرية التي ما زالت ترتاح بقاياها على أرض هذا البلد، حاملة بعض الإشارات والأجزاء الهاربة من عثرات الزمن وكوارثه، يحاول علماء الآثار، من خلالها، الاستدلال على ما كان عليه النصب في الماضي.
لكن هذا الأمر لا ينطبق على أوتيل خوّام، فالمكان ليس أثرياً بالمعنى المتداول للكلمة، والمتفق عليه عادة لدى العاملين في الحقل الاثري، إذ أن مجموعة من الصور حفظها الأرشيف تشير إلى ما كان عليه الفندق في الماضي، إضافة إلى ما حفظته ذاكرة من عاش خلال تلك الفترة بالقرب منه، أو عمل فيه، أو استأجر واحداً من الشاليهات التي انتشرت حوله، أو كان يذاكر مع رفاقه في أنحائه استعداداً للامتحانات الرسمية، على غرار كاتب هذه الكلمات.
خلال استقصاءنا لتاريخ المكان وأحواله الماضية، كان لا بد من الحديث مع العديد من الأشخاص، بهدف الوصول إلى حقائق ثابتة. بيد أن هذه الطريق لم تكن سهلة، إذ أن معظم الأفراد، الذين عاصروا الأوتيل خلال عصره الذهبي، لم يبقَ منهم سوى قلّة قليلة على قيد الحياة، ولم يفلح هؤلاء في تقديم سوى بعض المعلومات التي تقطع الشك باليقين، في حين طغى التقدير على معلومات أخرى، وذلك في غياب التدوين الذي لم يقم به أحد حينذاك. لكن من الثابت أن عسكرياً ألمانيا مجهول الإسم برتبة كولونيل، كان ممن احتوتهم المدينة في بداية القرن الماضي، بالتزامن مع وجود البعثة الألمانية، التي توّلت، حينذاك، مهمة وضع مخططات ترميم المعابد الرومانية، نقول أن هذا الكولونيل هو من وضع حجر الأساس في الفندق، وذلك في العام 1905.
ميزة جغرافية ومناخ مميز
أما أحد الأسباب الرئيسية للقيام بالمشروع، وذلك في منطقة ذات معطيات جغرافية محددة، هو الهضبة قليلة الارتفاع عن مستوى مرجة رأس العين ومحيطها، والتي بُني عليها الفندق، وقد لعب مناخ بعلبك الجاف، وهواء المدينة النظيف، كما طبيعة المكان الجغرافية المذكورة، دوراً في اتخاذ الكولونيل الألماني قراره، وهو الذي عانى إبنه مرض الربو.
من الثابت أن عسكرياً ألمانيا مجهول الإسم برتبة كولونيل، كان ممن احتوتهم المدينة في بداية القرن الماضي، بالتزامن مع وجود البعثة الألمانية، التي توّلت، حينذاك، مهمة وضع مخططات ترميم المعابد الرومانية، هو من وضع حجر الأساس للفندق، وذلك في العام 1905
لكن قصة نظافة الهواء ونقائه ما كانت لتتخذ هذه الصفة لولا توافر أشجار الصنوبر والسرو المنتشرة بكثافة على أرض الهضبة. كان الكولونيل الألماني، هو أول من بادر إلى زراعة المئات منها، وذلك على منطقة تتجاوز مساحتها الـ 80 ألف متر مربع، في حين يقع الفندق في الجزء الشرقي منها. هذه الأشجار، التي نمت مع الوقت وصارت ذات ارتفاعات لافتة، تُعتبر زينة المكان، وأحد عوامل رونقه التي لا تضاهى، إضافة إلى دورها في نشر رائحة عطرة في الأجواء. غابة صغيرة ضمن المدينة تغنّى بجمالها الكثيرون، وأضحت إحدى صفات المكان الأثيرة التي تميّزه عن سواه.
وإذ صار يُطلق على قطعة الأرض تسمية “الخوّام”، نسبة إلى إسم العائلة، كما ذكرنا، فقد التصقت هذه التسمية بالمكان المشجّر، وصارت مضرب مثل لدى سكان المدينة، في حال الحديث عن شجر الصنوبر ورائحته وجماله. أما الدور “الطبي” لتلك الأشجار، المشار إليه سلفاً، فقد تكرّس لدى السكان بناء على نصائح طبية شعبية وحتى علمية، بحيث صاروا يصطحبون أولادهم إلى هناك في حال إصابتهم بـ “الشاهوق”، فيوقدون حزمة من بقايا الأشجار الإبرية الجافة المتناثرة على الأرض، ويدعون الأطفال إلى تنشقها، لما في ذلك من فائدة في علاج المرض المعروف أيضاً باسم السعال الديكي، الناتج من التهاب مفاجىء في الرئة والجهاز التنفسي العلوي.
الخوام.. مبنى وشاليهات
إشترت عائلة خوّام الفندق، بما فيه من أثاث، من الكولونيل الألماني، الذي عاد إلى بلاده (على الأرجح مع بداية الحرب العالمية الأولى). لكن آل خوّام قاموا بإضافات عديدة على البناء، ليكتسب بعدها شكله المعروف. أما فيما يخص الناحية المعمارية، فقد أشرفت واجهة الأوتيل على الغرب.
وفي كل الأحوال لم تُتح رؤية مباني البلدة، أو مشهدها العام، من تلك النقطة، إذ شكًلت الأشجار سياجاً مرتفعاً، وتحول الأوتيل ومحيطه إلى ما يشبه جزيرة خضراء، يرتفع على طرفها الشرقي المبنى ذو اللون الأبيض المائل إلى الصفرة، والمكلل بالقرميد الأحمر. هذا، وقد تألف البناء، مع إضافات الملاّك الجدد، من طبقتين يضمّان 24 غرفة وصالونين، هما عبارة عن “هول” واسع في الطبقة الأرضية، وآخر أصغر منه في الطبقة العلوية، وضمت الطبقة الأرضية أيضاً مطبخاً وغرفة الإدارة، وبعض الغرف للخدمة، وربما أيضاً غرفاً سكنية. أما المدخل الرئيسي فكان عبارة عن باب عريض يعلوه قوس سريري (نصف دائري) ويحيط به شباكان كبيران يتمتعان، بدورهما، بأقواس سريرية في أجزائهما العلوية.
ثمة خاصية أخرى تتعلّق بالأوتيل، بالإضافة إلى الخصائص المذكورة، وهي أنه كان محاطاً بمجموعة من الشاليهات، التي وقع معظمها في الجهة الشمالية، إلى يسار الطريق المؤدي إلى المدخل. هذا الطريق، الذي يبدأ من محيط مرجة رأس العين، ويلتف صعوداً إلى جهة اليمين، والذي بلغ طوله حوالي المئتي متر، شكل في حد ذاته عنصراً مكمّلاً للناحية الهندسية – الجمالية. إذ لو وقع الأوتيل لصقاً إلى جانب الطريق الرئيسي لكانت تبدّلت الأمور، ولما استطاع السائح الإستمتاع بعبور الغابة الصنوبرية، كي يصل أخيراً إلى وجهته. أضف إلى ذلك، أن هذا القرار الهندسي سمح بتوفير جو من الهدوء، علماً أن الحقبة الزمنية التي شُيّد خلالها الأوتيل تختلف عمّا هي عليه الآن، حيث ازداد عدد السكان، وصارت الآليات التي تدور على الطريق بجانب المدخل المزوّد بباب من القضبان الحديد، لا تُعد ولا تُحصى، وتُصدر ضجيجاً لا يُحتمل.
زوّار الخوّام
أمّا برج الحمام الذي يقع خلف الفندق لناحية الشرق، فما زال قائماً حتى اللحظة. ونقدّر، تبعاً لمعاينته، وكما يبدو في الصورة المرفقة، أنه خضع لتحسينات معينة، إذ أن مظهره الخارجي يبدو لائقاً، مما لا يتناسب مع حالته الأولى القديمة. ورد ذكر البرج في قصيدة معروفة باللغة العامية للشاعر طلال حيدر، وصرنا نسمعها أغنية من حنجرة السيدة فيروز، ومن كلماتها: “برج الحمام مسوّر وعالي.. هجّ الحمام وبقيت لحالي”.
أما فيما يختص بزوار الأوتيل، وبمن قصده لقضاء عطلة، أو للإستراحة، فيبدو أن اللائحة طويلة، وتضمّ مجموعة من الشخصيّات المعروفة محليّاً وعالمياً. تقول الزميلة عبادة كسر في مقالها لها (صحيفة “الأخبار” – السبت 30 حزيران 2007) إن السجل الذهبي للفندق يضم أسماء الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول، والرئيس السوري شكري القوتلي، ويوسف العظمة، وفيروز وأم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وسواهم. وكان عبد الوهاب يقضي شهراً كاملاً كل سنة في شاليه خاص، أطلقت عليه تسمية “سويت محمد عبد الوهاب” على ما روى خليل ياغي، الذي ورث والده بالعمل في الأوتيل، والذي أضاف أن “سيارة فورد أبو دعسة كانت تقل السياح والرؤساء وكل زائري الأوتيل من محطة القطار إلى الفندق”، كما ذكر أيضاً أن اجتماعات الطبقة السياسية السورية كانت تُعقد دورياً في الخوّام.
إلى ذلك، يفيد المحامي منيب حيدر أن الرئيس كميل شمعون أراد أن يجعل من الأوتيل مقراً صيفياً لرئاسة الجمهورية، لكن الحلم تبدد مع ثورة 1958”. هذا، وقد أفادنا المحامي غالب ياغي (رئيس بلدية بعلبك الأسبق) أن “حزب الشعب” السوري، إضافة إلى بعض أفراد الطبقة السياسية السورية، كانوا يعقدون إجتماعاتهم في الأوتيل، ومن ضمن هؤلاء هاشم الأتاسي وناظم القدسي ورشدي الخيخة.
أبو رستم وذكريات
وإذ تعذّر علينا إيجاد السيد خليل ياغي، لإستيضاحه حول بعض الأمور، توجهنا إلى الصديق طالب الجمّال، الذي هو إبن جميل مصطفى رستم الجمّال (أبو رستم)، فأفادنا أن إدارة الأوتيل أنيطت بعلي مسعود الطفيلي في بداية سبعينيات القرن الماضي. لكن هذا الأمر لم يستمر طويلاً، واكتفى آل خوام بتعيين “ناطور” هو خليل عبدو ياغي، المذكور سلفاً، الذي سكن منزلاً خُصص له يقع على بعد خطوات من الأوتيل من أجل هذه الغاية.
على أن ذكر أبا رستم لا يمكن أن يمر من دون الحديث عن هذا الرجل الذي ارتبطت حياته بالفندق، ويعرفه سكان المدينة خير معرفة، وهو الذي كان يقطع المسافة بين منزله والفندق – بيته الثاني، دائماً، على متن درّاجته الهوائية. بدأ أبو رستم العمل في الفندق منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، وربما كان آخر من غادره في التسعينيات. لم يغب يوماً عن العمل، أكان في المطبخ، أو من أجل خدمة الزبائن، الذين قلّ عديدهم في بداية سبعينيات القرن الماضي، لينحسر أكثر فأكثر مع بداية الحرب الأهلية.
أوتيل الخوّام كان يتألف من طبقتين يضمّان 24 غرفة وصالونين، هما عبارة عن “هول” واسع في الطبقة الأرضية، وآخر أصغر منه في الطبقة العلوية، وضمت الطبقة الأرضية أيضاً مطبخاً وغرفة الإدارة
خلال السنوات العشر الأخيرة من عمله، لم يتلقَ أبو رستم أجراً، كما أفادنا إبنه، وكان يكتفي بالقدر القليل من أثمان الشاي والقهوة التي يقدّمها للزبائن، وهم من الشباب البعلبكي في معظمهم، الذين يشبه تعلّقهم بالمكان تعلّق أبو رستم نفسه به. وأكثر من ذلك، لم يتلقَ أبو رستم تعويضاً عن فترة عمله في الأوتيل التي استمرّت لعقود عدّة، وشكّل هذا الأمر مادة لدعاوى قانونية تقدّم بها أبناؤه بعد وفاته، لكنها لم تؤدِ إلى أية نتيجة حتى اليوم.
أثرًا بعد عين
شكّل الأوتيل هدفاً لطيران العدو الإسرائلي غير مرّة، لاعتقاده بتحوّله مقراً لجهات حزبية. وبالفعل، فقد استأجر أفراد من “الحرس الثوري الإيراني”، ممن قدموا إلى بعلبك بعد الاجتياح الإسرائيلي العام 1982، غرفاً في الفندق، وازداد عددهم مع الأيام. وقد جاءت الضربة الأخيرة، العام 1997، قاضية في تأثيرها ومفعولها المدمّر، إذ سوّت الأوتيل بالأرض، لتنهي بذلك تاريخاً عمره أقل من مئة عام بقليل.
هذا، وقد قام أحد مغتربي مدينة بعلبك، القنصل الفخري في الولايات المتحدة مصطفى ناصر بشراء قطعة الأرض مع ما فيها من أشجار، وما يتناثر على صفحتها من أجزاء الحجارة القديمة الباقية. وإذ يصعب علينا معاينة المكان، كي نتبين بالفعل ما بقي منه، بعدما أقفلت بوابته الحديدية لناحية مرجة رأس العين، وأحيط الخوّام بسياج لمنع المتطفلين من الدخول إلى قطعة الأرض، لم يبقَ لدينا سوى تصوّر المشهد في أذهاننا، والعودة بالذاكرة عقوداً إلى الوراء لنرى طيف أبو رستم، وأبو سامي منهل (الذي عمل أيضاً في الفندق لفترة أقل من أبي رستم) ونشتم رائحة الصنوبر العابقة في المكان.