إعادة التعمير بين الأرقام والواقع وسبل حماية المتضرّرين

تكاد لا تغيب يومًا عن وسائل الإعلام بمختلف ميادينها، وأيضًا عن تصريحات السياسيّين، عبارة “إعادة التعمير”، فتحطّ رحالها في معظم التحليلات التي تتداخل وتتشابك وتدور حول تلك العمليّة الحيويّة، فيما أنظار النازحين من بيوتهم المدمّرة تشخص إلى تلك المرحلة بفارغ الصبر وكذلك الانتظار.
وعلى الرغم من الحضور الكلّيّ لتلك العبارة في ما ذكرنا، بيد أنّها لم تنسحب بعد على أرض الواقع ولم تلامس ركام القرى، فبقي ملف التعمير يعاني من عدم اتّضاح الخطوات الفعليّة لبدء العمليّة، سواء لناحية التمويل، أو من حيث الآليّات والرؤى والخطط والمدد الزمنيّة اللازمة لإنهاء العمليّة. كلّ هذه الأسئلة تستدعي بحثًا معمّقًا لمعرفة تفاصيل هذا الملف، فضلًا عن الغوص في فهم الذهنيّة التي يجب أن تُعتمد في عمليّة التعمير.
من المعروف أنّ التعمير سيطال بشكل أساسيّ ثلاث مناطق جغرافيّة هي: الضاحية الجنوبيّة لبيروت، والجنوب ببلداته وقراه جميعها، وخصوصًا البلدات الحدوديّة التي مُسحت عن بكرة أبيها ومنطقة البقاع بشقّيها الشماليّ والغربيّ. وعلى رغم أنّ مصادر التمويل وآلياته لا يزال يكتنفها الغموض، إلّا أنّ الثابت فيها أنّها ستكون مقيّدة بشروط وإصلاحات، تسبق أيّ عمليّة إعادة تعمير.

الخسائر بالأرقام والمسؤوليّات
وبينما تتضارب الأرقام وتتباين بشأن حجم الخسائر وكِلَف التعمير بين أكثر من جهة تُصدر ذلك، أوضح رئيس مجلس الجنوب هاشم حيدر، أنّ الإحصاءات الأخيرة التي أجراها المجلس تشير إلى تهدّم نحو 37500 وحدة سكنيّة، وتضرّر 55000 وحدة بأضرار جسيمة، و130 ألف وحدة بأضرار متفاوتة. ويتابع حيدر لـ “مناطق نت”: “أمّا كلفة إعادة التعمير في البنية التحتيّة في الجنوب، فقُدِّرت بنحو ستّة مليارات دولار أميركي”.
وعن دور مجلس الجنوب في المناطق الأخرى، يؤكّد حيدر أنّ المجلس مكلّف بالمباني الرسميّة داخل نطاق الجنوب، بينما يتولّى مجلس الإنماء والإعمار مسؤوليّة المباني الرسميّة خارجه. وأوضح كذلك أنّ مسح الأضرار وإزالة الركام في الجنوب والبقاع الغربيّ وزحلة تقع ضمن صلاحيّات مجلس الجنوب، بينما يُعهد الأمر في الضاحية الجنوبيّة إلى اتّحاد بلديّات الضاحية، وتقوم الهيئة العليا للإغاثة بمتابعة سائر المناطق”. وفي ما يتعلّق بتمويل عمليّات التعمير من هبات أو مساعدات رسميّة، يشدّد حيدر على أنّه “لا توجد حتّى الآن أيّ مصادر تمويل أو مساعدات معلنة.”
من ناحيته يؤكّد المكتب الإعلاميّ لوزارة الأشغال العامّة والنقل، لـ “مناطق نت”، “أنّ دور الوزارة سيكون أساسيًّا في وضع آليّات إعادة التعمير، مشيرًا إلى أنّها تُعدّ الجهة المعنيّة بقيادة السياسات المتعلّقة بهذا الملف الحيويّ”. ويوضح أنّ “الوزارة تتولّى المسؤوليّة الرئيسة عن إصلاح البنى التحتيّة الخاضعة لسلطتها، بما في ذلك المعابر الحدوديّة والمرافئ والطرقات التي تضرّرت جرّاء العدوان، وذلك في إطار المفاوضات الجارية مع البنك الدوليّ بشأن قرض قيمته 250 مليون دولار”.
حيدر: الإحصاءات الأخيرة التي أجراها مجلس الجنوب تشير إلى تهدّم نحو 37500 وحدة سكنيّة، وتضرّر 55000 وحدة بأضرار جسيمة، و130 ألف وحدة بأضرار متفاوتة.
لضمان تعمير شامل ومستدام
عن الأضرار في البنى التحتية يفيد المكتب أنّ “إصلاح البنى التحتيّة يمثّل جزءًا لا يتجزّأ من دورنا الطبيعيّ، ونسعى إلى تأمين جميع الجهود لضمان تنفيذ العمليّة بكفاءة وشفافيّة”. ويشير كذلك إلى أنّ الوزارة ستؤدّي دورًا مهمًّا في وضع الآليّة الشاملة لعمليّة إعادة التعمير، لا سيّما في ما يتعلّق بالتنظيم المدنيّ وإصدار تراخيص البناء، وهي مسائل ستُناقَش وتُقرّ في مجلس الوزراء لاعتماد الصيغة النهائيّة.
ويؤكّد المكتب التزام الوزارة بتوفير بيئة آمنة ومستقرة، والعمل سويًّا مع الجهات المعنيّة لضمان إعادة تعمير شاملة ومستدامة تلبّي تطلّعات المواطنين.
أسئلة من دروس الحرب
نتيجة الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة ومنذ العام 1969 وما قبله، حطّم الجنوب رقمًا قياسيًّا في عمليّات إعادة التعمير، فبعض الجنوبيّين بنوا بيوتهم مرّات عدّة، لتعود إسرائيل فتهدمها ومن ثمّ يعودون إلى بنائها من جديد. ضمن هذا الإطار، ثمّة أسئلة عن الاستفادة من الدروس التي مرّ بها لبنان خلال إعادة التعمير المتكرّر ومنها تحديدًا حرب تموز العام 2006؛ فهل سيكون سيناريو التعمير اليوم هو نفسه؟ وهل ستكون آليّات التمويل ذاتها؟ وهل سيأخذ التعمير شكله المعماريّ والهندسيّ السابق عينه، أم أنّ هناك توجّهًا لمفاهيم أخرى، منها ما يتعلّق بالعمارة البيئيّة التي قد تؤثّر في المناخ؟ وإلى أيّ مدى سيرتبط هذا التعمير بثقافة البلد وهويّته؟ وكيف سيجري التعامل مع التخطيط الحضريّ؟ هل ستكون هناك مراعاة لطبيعة وشكل وبيئة الأماكن التي سيُعاد تعميرها؟
تُوضح المخططة الحضريّة سهى منيمنة، أنّ “التحدّيات التي تواجه إعادة تعمير المناطق الريفيّة والمتضرّرة، ليست بسيطة، إذ تعتمد على مجموعة من المعايير الأساسيّة، على رغم وجود بعض الخلافات في التفاصيل”. وتتابع لـ “مناطق نت”: “من الضروريّ إقامة عمل جماعي يضمّ المتخصّصين كافّة مع خلق خطوط اتّصال واضحة تربطهم بصانعي القرار”. وتستند منيمنة في ذلك إلى تجربة العام 2006 التي أثبتت جدوى هذا النهج، على رغم أنَّ أحداثًا لاحقة مثل ثورة “17 تشرين” العام 2019، أدّت إلى انقسام بين المتخصّصين والسلطة. ومع ذلك، تُبذل حاليًّا جهودًا لإعادة بناء شبكة تواصل جديدة مع حكومة حديثة يجب دعمها لتحقيق إعادة تعمير ناجحة.
ضرورات لا بد منها
تؤكّد منيمنة أنَّ “هناك اتّفاقًا حول ضرورة ارتكاز عمليّة التعمير على مطالب السكّان الأساسيّة؛ خصوصًا العودة السريعة للأهالي، والحفاظ على النسيج الاجتماعيّ، بحيث يعود السكّان الأصليّون إلى مناطقهم مع الحفاظ على المعالم التاريخيّة والتراثيّة والمساحات العامّة التي تُشكّل الهويّة المحلّيّة”. وتضيف أنَّ “المخالفات الإنشائيّة ينبغي دراستها بعناية لتحديد مدى ضرورتها وارتباطها بالاحتياجات الفعليّة للسكّان”.
وفي ما يتعلق بالمواءمة بين سرعة إعادة التعمير والحفاظ على الهويّة التراثيّة، تشدّد منيمنة على “أهمّيّة اعتماد إطار تشاركيّ يتيح للسكّان تقديم مقترحاتهم واعتراضاتهم بشأن القرارات المتّصلة بالتعمير”، موضحةً أنَّ “هذه العمليّة قد تستغرق وقتًا أطول، لكنّها تضمن بقاء الهويّة التراثيّة، إذ إنَّ السكّان هم أوّل من يدافع عن تراثهم”.
وتشير منيمنة إلى ضرورة “مراجعة السياسات العامّة في مجال التخطيط الحضريّ والتنظيم المدنيّ، التي ربّما تؤدّي توجّهاتها التطويريّة الرأسماليّة أحيانًا إلى دمار التراث، ممّا يستدعي إعادة صياغتها بما يؤمّن قيمة اقتصاديّة واجتماعيّة تُساهم في الحفاظ على الهويّة”.

وبيّنت منيمنة أنَّ “إشراك الأهالي في عمليّة التخطيط يُعدّ من الأمور الحيويّة لنجاح إعادة التعمير، مستشهدةً بتجارب التعاونيّات الزراعيّة والمؤسّسات البديلة التي أثبتت جدوى العمل الجماعيّ”. ونوَّهت كذلك “بوجوب تفعيل آليّات المشاركة ورفع مستوى الوعي حول أهمّيّة المساحات المشتركة، والاستعانة بالإعلام لتسليط الضوء على جهود التعمير وتحديد الأطراف الفاعلة فيه”، مؤكدةً أنَّ “التحدّي الحقيقيّ يكمن في تغيير العقليّة الفرديّة التي تشجّعها السياسات النيوليبراليّة، وتوجيه الناس نحو فهم قيمة العمل المشترك على المدى الطويل”.
عوامل متداخلة توجب التنسيق
وفي معرض حديثها عن إحياء الدورة الاقتصاديّة الريفيّة، ترى منيمنة أنَّ “هذا المسعى يتطلّب تنسيقًا حكوميًّا شاملًا؛ نظرًا إلى تداخل وزارات عدّة، مثل وزارة الزراعة والمؤسّسات المعنيّة بالشؤون الاجتماعيّة والإسكان ووزارة الاقتصاد، إضافةً إلى وزارة التربية والتعليم التي تتأثّر المنشآت التعليميّة المتضرّرة التابعة لها”. وتشدّد على “ضرورة وجود جهة مركزيّة للتخطيط تُنسّق بين الوزارات وتحدّد الأولويّات، وبخاصةً في ظلّ تقاذف المسؤوليّات ونقص التمويل، ممّا يضمن إعادة إحياء فعّالة للدورة الاقتصاديّة سواء في القطاع الزراعيّ أو غيره.”
أمّا عن التحديات التي تواجه عمليّة التخطيط العمرانيّ في مناطق الدمار البنيويّ، فتوضح منيمنة أنَّ “غالبيّة مشاريع التعمير لا تولي اهتمامًا كافيًا بشبكات الكهرباء والمياه والطرق، ولا تتبنّى تقنيّات حديثة توفر الطاقة البديلة، ما يؤدّي إلى تكرار الأخطاء وعدم التقدّم نحو بنى تحتيّة أكثر كفاءة”. وتنصح منيمنة “بضرورة وجود رقابة صارمة لضمان تقديم خدمات عالية الجودة بكلفات معقولة، بالإضافة إلى وجود كيانات قويّة تصرّ على تطبيق القواعد دون تنازل، على رغم الضغوط الاقتصاديّة والسياسيّة”.
منيمنة: غالبيّة مشاريع التعمير لا تولي اهتمامًا كافيًا بشبكات الكهرباء والمياه والطرق، ولا تتبنّى تقنيّات حديثة توفر الطاقة البديلة، ما يؤدّي إلى تكرار الأخطاء وعدم التقدّم نحو بنى تحتيّة أكثر كفاءة
وتفاديًا لكلّ الأخطاء التي حصلت خلال عمليّات التعمير السابقة وما اعتراها من أخطاء وفساد، تشير منيمنة إلى أنَّ “التمسّك بالمبادئ الأساسيّة وفرض رقابة دقيقة باستخدام الأدلّة والمسوحات الميدانيّة، هو السبيل الأمثل لمنع انحراف العمليّة عن مسارها”، مشدّدةً على “أهمّيّة تشكيل لجان وهيئات رقابيّة متخصّصة تتابع تنفيذ المخطّطات، وإعادة النظر في الهيئات القائمة إن لم تقم بدورها، مع محاسبة المخالفين والفاسدين لضمان شفافيّة العمليّة”.
تباين الأرقام
وفي سياق الحديث عن التنسيق بين الجهات الرسميّة والمنظّمات الدوليّة والمجتمع المدنيّ، تلفت منيمنة إلى “ضرورة إنشاء مجموعة عمل تضمّ الأطراف المعنيّة كافّة، بحيث تُرْبَط الخبرات وتفعيل آليّات اتّصال مستمرّة لتبادل المعلومات والخبرات، مع متابعة وتقييم العمل المشترك بشكل دوريّ لضمان تحقيق النتائج المرجوّة من خطط التعمير بصورة متكاملة ومنظّمة”.
تناولت منيمنة تقديرات حجم الدمار في القرى والبلدات المتضرّرة، وبخاصّة في مناطق الجنوب والضاحية والبقاع الشماليّ، مشيرةً إلى أنَّ “الأرقام تتباين بشكل ملحوظ؛ إذ تشير بعض التقديرات إلى أضرار تقارب ثمانية مليارات دولار، بينما يشير البنك الدولي إلى أرقام تصل إلى 12 مليار دولار أو أكثر”. وبرأيها أنَّ هذا التباين “يرجع إلى عدم وجود آليّة موحّدة لمسح الأضرار؛ إذ يعتمد البعض على تقنيّات الاستشعار عن بعد باستخدام صور الأقمار الاصتناعيّة، فيما تجري جهات أخرى مسوحات ميدانيّة بمنهجيّات مختلفة”. لذا، تدعو منيمنة، إلى “ضرورة أن تتولّى وزارة متخصّصة مهمّة جمع وتوحيد هذه التقديرات بمنهجيّة واضحة ودقيقة، مع مراعاة حجم الدمار الذي قد يتغيّر مع استمرار النزاعات والهجمات”.
وفي الختام، أكّدت منيمنة أنَّ “نجاح إعادة تعمير المناطق المتضرّرة يعتمد على التكامل والتنسيق بين جميع الأطراف المعنيّة، سواء حكوميّة أو محلّيّة أو مجتمع مدنيّ، مع تبنّي معايير حضريّة تشاركيّة تضمن عودة الحياة إلى سابق عهدها وتحقيق تنمية مستدامة للمستقبل”.