إقصاء الصحافيات عن صنع القرار مهنة تُدار بعيون الرجال

بين أروقة غرف الأخبار حيث تُرسم معالم السياسات التحريريّة، تقتصر مقاعد القيادة على الصحافيّين غالبًا. أمّا الصحافيّات فيُشكّلن المشهد الصحافيّ من وراء الكواليس، ويُحرمن من حقّهن بالمشاركة في توجيه مسار وملامح هذه المهنة، وترك بصمتهن الخاصّة فيها، فيكتبن العناوين العريضة ويغطّين الأحداث، ويملأن غرف الأخبار بأصواتهنّ الجريئة ويفرضن أنفسهنّ كجزءٍ لا يتجزّأ من الساحة الإعلاميّة. لكن، حين يصل الأمر إلى المناصب العليا مثل مديرة أو رئيسة تحرير أو مديرة مؤسّسة إعلاميّة، يخفت حضورهن.
وفي مجتمعٍ يحصر القيادة بالرجال، باعتبارها امتدادًا للسلطة التي تُقدّمها البنية الأبويّة التمييزيّة المتجذّرة إليهم، تُفضّل المؤسّسات الصحافيّة منحهم الأدوار التنفيذيّة والقياديّة، وتضع في طريق الصحافيّات حواجز صلبة بما يكفي لإبقاء السلطة بعيدةً من أيديهنّ.
رائدات الصحافة اللبنانيّة..
سارت الصحافيّات اللبنانيّات في رحلةٍ طويلة وشاقّة منذ مطلع القرن العشرين، لانتزاع حقّهنّ في اقتحام عالم الصحافة، في وقتٍ كانت الأصوات النسائيّة صامتة في ساحات الإعلام. فبرزت رائدات في هذا المجال، تحدّين القيود المجتمعيّة وأطلقن شرارة النضال الصحافيّ النسائيّ. وكانت سليمة أبي راشد حينذاك أوّل صحافيّة لبنانيّة، وأصدرت مجلّة “فتاة لبنان” في العام 1914 لتفتح بذلك الباب أمام النساء للتعبير عن آرائهنّ والمشاركة في الحراك الثقافيّ والاجتماعيّ.
توالت بعد ذلك الإصدارات، مثل إطلاق ماري يني مجلّة “مينرفا” في العام 1917، وتأسيس ماري زمار مجلّة “فتاة الوطن” بزحلة في العام 1919، ونشرت حبّوبة حدّاد “الحياة الجديدة” في باريس العام 1920، وهي المجلّة النسائيّة الأولى في أوروبّا، قبل أن تعود وتُصدرها في بيروت.
ومع مرور الزمن، شهدت الصحافة انفتاحًا تدريجيًّا فأصبح دور النساء أكبر، وظهرت صحافيّات وكاتبات لامعات، وانتقلن من رائدات إلى شريكات فاعلات في المشهد الإعلاميّ، ومساهمات في تشكيل الرأي العام.
التحيّز الجندريّ في القرار الإعلاميّ
في العقود اللاحقة، وتحت وطأة تغيّراتٍ اجتماعيّة وسياسيّة عدّة، حاربت الصحافيّات لإثبات وجودهنّ في مواقع متقدّمة في التحرير والإدارة، لكنّ تمثيلهنّ في هذه المناصب بقي خجولًا حتّى اليوم.
وتحوط النساء في المجال الإعلاميّ شبكةٌ معقّدة من العوامل الهيكليّة والثقافيّة والاجتماعيّة المتأصّلة في بيئة العمل، تُقصيهنّ عن المناصب العليا. وقد وُصفت منذ سنوات بمفهوم “السقف الزجاجيّ”، وهو حاجز غير مرئيّ يعوق تقدّم الصحافيّات نحو القيادة، على الرغم من كفاءتهنّ.
تحوط النساء في المجال الإعلاميّ شبكةٌ معقّدة من العوامل الهيكليّة والثقافيّة والاجتماعيّة المتأصّلة في بيئة العمل، تُقصيهنّ عن المناصب العليا. وقد وُصفت منذ سنوات بمفهوم “السقف الزجاجيّ”
في حديثٍ لـ “مناطق نت”، أوضحت الباحثة ومنسّقة البرامج في مؤسّسة سمير قصير، نادين مبارك أنّ “الثقافة السائدة في داخل المؤسّسات الإعلاميّة ترى في الرجل القائد الطبيعيّ، فيما تُمنح النساء الأدوار الثانويّة”. يعكس هذا الانحياز توزيعًا غير عادل للمهام، فيُسند العمل “السهل” مثل التغطيات الاجتماعيّة والثقافيّة إلى النساء، بينما يُترك العمل “الشاق” المرتبط بالسياسة والاقتصاد للرجال. إنّ هذه الممارسات، تكرّس الفصل الجندريّ وتحدّ من فرص الصحافيّات في اكتساب الخبرة اللازمة للوصول إلى مراكز القيادة.
وتذكر نادين التي أعدّت دراسة “ﻧﻀﺎل اﻟﺼﺤﺎﻓﻴّﺎت ﻓﻲ ﻟﺒﻨﺎن: اﻟﺘحدّﻳﺎت اﻟﻤﻬﻨﻴّﺔ واﻟﻨﻔﺴﻴّﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴّﺔ”، أن “إحدى الصحافيّات المشاركات في الدراسة روت لي، أنّه على الرغم من سنوات خبرتها، اختار صاحب العمل متدرّبًا أقلّ كفاءةً منها لتولّي المنصب الإداريّ، لأنّه يفضّل تعيين رجل لهذا الدور، مع أنّها كانت هي من درّبته وساعدته في تحسين مهاراته”. وتؤكد أنّه “بدلًا من تقييم الصحافيّة وفقًا لمهاراتها المهنيّة، يُحكم عليها بناءً على مظهرها الخارجيّ، ويُفترض دائمًا أنّها غير قادرة على التوفيق بين عملها وأسرتها”.
توريث غير معلن
لم يكن غياب الصحافيّات عن مواقع القرار وليد صدفة، بل هو نتاج منظومة تتشابك فيها السياسات الداخليّة للمؤسّسات الإعلاميّة مع النظرة المجتمعيّة، وتضع في طريقهنّ عوائق يخضن معارك يوميّة لاجتيازها. وتشير نادين إلى أنّ “أحد أبرز هذه التحدّيات هو عدم وجود سياسات ترقية واضحة وشفّافة، لضمان ترقيات عادلة تستند إلى الكفاءة والتطوّر المهنيّ”.
ففي معظم المؤسّسات الإعلاميّة تخضع مسألة الترقية إلى الاجتهادات الشخصيّة والتوازنات الداخليّة والاعتبارات الجندريّة، ما يفتح المجال أمام المحاباة والتحيّز الجندريّ. فتُعطى الأفضلية للرجال ممّن يشغلون مواقع السلطة منذ عقود، في ما يشبه توريثًا غير معلن للمناصب، لكن تضيق الدائرة حول النساء مهما بلغت كفاءاتهنّ. ومهما حقّقت الصحافيّة من نجاحٍ في عملها، لا ترى المؤسّسة الإعلاميّة فيها سوى عاملة مجتهدة، ولا تُمنح الثقة الكاملة لقيادة فريق أو صناعة القرار التحريريّ، ما يفرض عليها مضاعفة جهودها لإثبات جدارتها.
عبء الأدوار المزدوجة
تصطدم الصحافيّات أيضًا بسطوة النظرة التقليديّة المتغلغلة في الوعي الجمعيّ على مسارهنّ المهنيّ، وتوقّعات المجتمع منهنّ بأن يكنّ مديراتٍ ناجحات وأكثر التزامًا بدورهنّ التقليديّ في الأسرة، في الوقت نفسه.
لذلك، في حال نجحت إحدى الصحافيّات في الوصول إلى منصبٍ إداريّ، تُطالب دائمًا ببذل جهدٍ مضاعف لفرض نفسها في مواقع صنع القرار، وكأنّ النجاح وحده لا يكفي. فتخوض معركةً مزدوجةً، الأولى لتحقيق إنجازاتٍ مهنيّة وإقناع المجتمع بأنّها ليست استثناءً بل حقّ مشروع. أمّا الثانية، فهي وضعهنّ تحت ضغط توقّعات تحقيق توازنٍ بين حياتهنّ المهنيّة والأسريّة، بينما لا تُفرض هذه القيود على الصحافيّين الرجال.
في حال نجحت إحدى الصحافيّات في الوصول إلى منصبٍ إداريّ، تُطالب دائمًا ببذل جهدٍ مضاعف لفرض نفسها في مواقع صنع القرار، وكأنّ النجاح وحده لا يكفي
وفي هذا الإطار تقول مبارك إنّ “إحدى الصحافيّات المشاركات في الدراسة لخّصت هذا المفهوم بقولها، نحن كنساء ملزمات بإثبات أنّنا نملك الوقت والمهارات، فُتسأل المرأة دومًا، بعكس الرجل، عن الوقت الذي يمكنها أن تخصّصه لعملها بسبب التزاماتها الأسريّة”. فلماذا لا يُسأل الرجال عن هذا التوازن؟
غرف الأخبار غير آمنة لهنّ
يُمثّل عدم توفير حماية ودعم لحقوق الصحافيّات في مكان العمل، عقبةً رئيسةً أمام وصولهن إلى مراكز صنع القرار. وبحسب الدراسة “أفادت 55 في المئة من الصحافيّات المشاركات اللواتي تعرّضن للتحرّش أثناء البثّ المباشر، أنّ ردةّ فعل صاحب العمل كانت سلبيّة”. يعكس هذا الأمر تقاعس المؤسّسات عن دعم الصحافيّات، ووضع قوانين تحميهن من التحرّش والتنمّر والتعنيف بمختلف أشكاله.
لكنّ مبارك تشير إلى أنّ “الصدمة التي اكتشفتها كانت أنّ 70 في المئة من المشاركات ذكرْن أنّهنّ تعرّضن للتحرّش الجنسيّ، في حين أكّدت 96 في المئة منهنّ أنّهنّ على دراية بتعرّض إحدى زميلاتهنّ إلى هذا النوع من التحرّش”. وتضيف أنّ “المتحرّش بالنسبة إلى 51 في المئة من المشاركات كان المدير، وفي مركز صنع القرار الإداريّ، بينما كان أحد الزملاء بالنسبة إلى 37 في المئة منهنّ”.
مبارك: الصدمة التي اكتشفتها كانت أن 70 في المئة من المشاركات ذكرْن أنهنّ تعرّضن للتحرّش الجنسي، في حين أكدت 96 في المئة منهنّ أنهنّ على دراية بتعرّض إحدى زميلاتهنّ لهذا النوع من التحرش
وروت مشاركات عديدات في الدراسة أنّه طُلب إليهنّ تقديم خدمات جنسيّة مقابل الحصول على فرصة عمل. على سبيل المثال، قال أحد المسؤولين عن التوظيف لمرشّحة: “يمكنني أن أجعل منك نجمة إذا وافقتِ على ممارسة الجنس معي”.
صحافيّات يُغيّرن قواعد اللعبة
لا يُشكّل تولّي النساء مواقع قياديّة في المؤسّسات الإعلاميّة انتصارًا فرديًّا لهنّ في وجه المنظمومة الأبويّة فقط، بل يمتدّ أبعد من ذلك ليفتح نوافذ جديدة أمام الصحافيّات. فيُعيد رسم خارطة الأدوار في غرف الأخبار، ويؤثّر في طبيعة المحتوى، وفي طرح أخبار وقضايا تخصّ النساء لا يكثر الحديث عنها في الإعلام عادةً، فتُروى الحكايات بعيون من عايشنها. وتحمل الصحافيّة معها عند وصولها إلى مركز القرار أدوات وخبرات غنية، مستمدّة من معايشتها لتحدّيات النوع الاجتماعيّ في الحقل الإعلاميّ.
وتكمن إحدى أهمّ وأبرز مزايا هذا التواجد في ضمان تكافؤ الفرص في التوظيف والترقيات. فتقول مبارك إنّ “وصول المرأة إلى الإدارة يسمح بتقييم الصحافيّات بناءً على الكفاءة وليس على نوعهنّ الاجتماعيّ، ما يضمن تكافؤ الفرص في التوظيف والترقيات”، فمن اختبرت عن قرب آليّات الإقصاء والتهميش، تُدرك أهمّيّة الحكم على الصحافيّين والصحافيّات على أساس الكفاءة وحدها بعيدًا من الاعتبارات الجندريّة، لتصبح أكثر عدلًا. وتضع سياسات محاسبة صارمة لمكافحة التحرّش والتنمّر داخل المؤسّسة، ولتفعيل آليّات تبليغ آمنة وسرّيّة عن أيٍّ من هذه الانتهاكات.
معركة لعدالة أكبر في الإعلام
ليس نضال الصحافيّات للوصول إلى مواقع القيادة مجرّد مطلبٍ وظيفيّ، بل معركة أوسع لإعادة تشكيل منظومة العمل الإعلاميّ بما يضمن تمثيلًا حقيقيًّا للنساء، ويكسر احتكار السلطة داخل المؤسّسات. وعلى الرغم من استمرار العقبات التي لا تزال تعرقل صعودهنّ إلى القمّة، لكن مع كلّ امرأة تتبوّأ منصبًا قياديًّا، يتعزّز الأمل في بناء إعلام أكثر عدلًا وتنوّعًا، تكون فيه الفرص متاحة للجميع من دون تمييز.
وربّما تكون الخطوة الإيجابيّة التي اتّخذها الرئيس جوزاف عون بتعيين الإعلاميّة البارزة نجاة شرف الدين متحدّثة رسميّة باسم رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة، خطوةً أولى نحو تعزيز وصول الصحافيّات إلى مواقع صنع القرار.