الأكّيدنيا في ساحل صيدا وشرقها هلّت مواسم الذهب
من ساحل صيدا إلى قرى شرقها ووادي جزّين، العدّة الزراعيّة لموسم قطاف “الإكّادينا” (الأكّدنيا في اللغة العربيّة) بدأت حيث ينتشر أهالي هذه المناطق في حقولهم لقطف “موسم الذهب” كما يسمّونه، وإن كانت بَرَكة الموسم قد بدأت بالاندثار، لا سيما مع الإهمال المُتعمّد للزراعات التقليدية التي لها تراث عريق في تلك المناطق، ومنها زراعة الأكّيدنيا.
من بلدة القريّة في شرق صيدا، والمجيدل وكفرحتّى والحسّانيّة، تنتشر بسطات بائعي “الإكّادينا” على جوانب الطرقات، حيث يتوقّف المارّة لاختيار “النخبة” من حبّات الموسم الذي يُعدّ الأقصر عمرًا بين مواسم الفاكهة، سواء الشتويّة منها أو الصيفيّة، إذ تثمر الأكّيدنيا وتنضج في تلك القرى.
قرب جسر نهر المجيدل الذي تتوزّع حقول الأكّيدنيا على جانبيه، يقف الفتى جيمس مسعود (12 عامًا) مع طفل آخر يدعى أحمدا ليبيعَا ما قطفاه من الحقل. يغتنمُ الطفل جيمس عطلة عيد الفصح التي تتزامن مع بدء الموسم لمساعدة والدِه الذي يملك بساتين مزروعة بالأكّيدنيا. يقول جيمس لـ”مناطق نت”: “بحبّ الزراعة ومساعدة بيّي.. الشغل بالأرض مش متعب، وبكلّ موسم منزرع شي”. يشرح جيمس كيفيّة قطف “الإكّادينا” وعدم إزالة الغبار عن الحبّة وتعبئتها فورًا بأوعية خاصّة لكي لا يصيبها الدبغ.
من المجيدل إلى بلدة كفرحتّى التي تشتهر ببساتين الأكّيدنيا، تحافظ البلدة على تلك الزراعة. وهي بالرغم من زحف العمران المتزايد، الذي أدّى إلى تآكل حقول الأكّيدنيا وتناقصها، إلّا أنّها لا تزال صامدة، ينتظر أبناؤها الموسم الواعد.
بساتين مزدحمة
يتجوّل العمّ حسين نصّار (72 عامًا) في أحد بساتينه المزدحمة بالأكّيدنيا. يروي لـ”مناطق نت” حكاية هذه الفاكهة قائلًا: “الإكّادينا قبل أن تحطَّ رحالها في مناطق الساحل الجنوبيّ كان تسمّى بالمشمش الهنديّ، لكونها زراعة بدأت في الهند والصين واليابان، وانتقلت من بعدها إلى أوروبّا لكن لم يتمّ الاهتمام بها، وفي كاليفورنيا اسُتعملت كشجرة للزينة”. يضيف: “لم تحتضنها إلّا قرى الساحل الجنوبيّ كالبابليّة والقاسميّة وأبو الأسود، وكذلك ساحل الدامور، وقد حاول عديد من المزارعين في مناطق طرابلس وعكّار زراعتها لكنّها لم تنجح”.
يُعرف شجر الأكّيدنيا بأسماء عديدة حسب البلدان التي نشأ بها، أو يعتمد عليها اقتصاديًا، فقد يطلق عليه البعض اسم “الإكّادينا” أو “الإسكدنيا”، وينقل أيضًا بأنّ تسمية الأكّيدنيا تعود في الأصل إلى تركيّا وتعني “الدنيا الجديدة”.
أكّيدنيا معمّرة
قد يصل عمر شجرة الأكّيدنيا إلى مئة عام، وتصل حمولتها إلى 500 كيلوغرام. وإذا كان عمر الشجرة أو “النصبة” عشرين عامًا يمكن أن تبلغ حمولتها قرابة مائتي كيلوغرام، ما يدلّ على وفرة إنتاجها.
عن ميزة أشجار الأكّيدنيا في منطقة شرقيّ صيدا يلفت المزارع نصّار إلى أنّ “هناك عناصر جاذبة للشجرة متوافرة في هذه القرى منها وفرة المياه، فقرية كفرحتى تضمّ أراضيها أكثر من عشرة ينابيع مياه، ومن ثمّ يأتي عامل الطقس المعتدل الذي يسود المنطقة، بدءًا من نهاية تشرين الأوّل إلى آخر آذار، من حيث سرعة الهواء الشرقيّ، والطقس البارد وما يُعرف بالمربعنيّات، ومن ثمّ درجة حرارة الشمس المعتدلة التي يحتاجها نضوج الثمرة، ويجب أن تتراوح بين 21 و27 درجة”.
يخشى مزارعو الأكّيدنيا في كفرحتّى من “الطقس الشلوق (الشرقي الحارّ)، الذي يأتي حارًّا فوق معدّلاته الموسميّة، ما يجعل الثمرة تنضج قبل أوانها، ويسرّع عملية القطف من قبل المزارعين خوفًا من تبدّل الطقس من الحار إلى البارد”.
عن ذلك يقول المزارع نصّار “الأكّيدنيا فاكهة العناية الفائقة” ولهذا يلجأ نصّار إلى تغطية أشجاره بأغطية بيضاء وخضراء (شوادر)، فالأولى تخفّف من أشعة الشمس التي قد تغدر بالموسم، والثانية تحمي من تساقط حبّات البرد، كما تحمي أيضًا الثمار من العصافير والحشرات. لذلك لا تزال حبّات الأكّيدنيا في حقل نصّار “ملوّحة” (أي لونها بين الأخضر والأصفر ولم يصل إلى الذهبيّ بعد”. وبرأي نصّار القطاف يجب أن يبدأ من منتصف شهر نيسان حتّى منتصف شهر أيّار، وهذا ما يعتبره نصّار “موسمًا قصيرًا نسبيًّا، لكن مردوده كبير”.
يقول نصار “أنا مزارع أبًّا عن جدّ”. وهو امتهن الزراعة عن كثب وورّثها لأبنائه من حاملي الشهادات الجامعيّة ويعملون ضمن اختصاصاتهم، لكنّهم يواظبون في الوقت نفسه على العمل في المواسم أيضًا.
الأكّيدنيا في الحقول
يُفصّل نصار مراحل نضج الأكّيدنيا ويقول إنّها تستغرق بين بداية تفتّح الزهر والنضج نحو خمسة أشهر، حيث تنضج الثمار بشكل متتالٍ، ممّا يجعل قيمتها الاقتصاديّة مرتفعة بعكس بعض الثمار التي تنمو دفعة واحدة، وبالتالي فإنّ عمليّات القطاف تتمّ على دفعات.
يُفصّل نصار مراحل نضج الأكّيدنيا ويقول إنّها تستغرق بين بداية تفتّح الزهر والنضج نحو خمسة أشهر، حيث تنضج الثمار بشكل متتالٍ، ممّا يجعل قيمتها الاقتصاديّة مرتفعة بعكس بعض الثمار التي تنمو دفعة واحدة
يتشابه موسم الأكّيدنيا بموسم الزيتون، حيث ينتشر الأهالي في حقولهم، ويتسامرون بين بعضهم البعض خلال عملهم، ما يخلق جوًّا من الفُكاهة والألفة. يتحدّث المزارع أحمد إسماعيل لـ”مناطق نت”، عن أشهر منطقتين في كفرحتّى “تتميّز فيهما حبّات الأكّيدنيا كعين “أبو جامع” وهو نبع قديم من معالم البلدة، ومنطقة الدوير التي تحتوي على أطيب إكّادينا بلدي”. ويعبّر إسماعيل عن خشيته من غياب مواسم الأكّيدنيا بعد سنوات. “أولًا، لكون أبناء البلدة قد بدأوا بالتوجّه نحو زارعة الأفوكا والقشدة (القشطة). وثانيًا، بسبب كثرة العمران في البلدة التي قضت على مساحات كبيرة من الحقول”.
الحسبة تستغلّ المزارعين
تبلغ المصاريف التشغيليّة لموسم الأكّيدنيا على المزراع 35 بالمئة من إيراداته، تُقسّم على “التشحيل “التشذيب” والسقاية والفلاحة، والتسميد العضويّ والكيماويّ”، وعلى رشّ المبيدات وتأمين المستوعبات للتوضيب. إضافة إلى أجرة العمّال ممّن يقطفون المحصول، وتبلغ أجرة العامل في اليوم للرجال 15 دولارًا أميركيًّا، وللنساء بين 10 و12 دولارًا أميركيًّا. ويبقى للمزارع ربح صافٍ بقيمة 65 بالمئة، ويتراوح سعر كيلوغرام الأكّيدنيا بين 100 و150 ألف ليرة.
بدوره يشكو المزارع طوني بولس من بلدة الحسّانيّة، من “أنّ هناك سرقة لتعب المزارع، حيث يتمّ شراء الأكّيدنيا من حسبة صيدا “بالرخص” ويتمّ بيعها في مناطق الزلقا وجلّ الديب بـ350 ألف ليرة للكيلو الواحد، وهذا ظلم يلحق بأصحاب العمل أو الرزق، ويجني منه التجّار أموالًا مضاعفة من تعبنا”.
كان طوني يعمل في الدفاع المدنيّ وأنهى خدمته منذ عشر سنوات، ورث العمل في الأرض عن والده، وتفرّغ للعمل في “رزقنا” كما يسمّيه. يقول لـ”مناطق نت”: “العترّة على الجيل يلّي بعدنا ما بيعرف يقطف أو يجيب حامضة، ولدينا خوف من أن نخسر فكرة الزراعة والتمسّك بالأرض”.
الموسم بأيد سوريّة
يعتمد المزارعون في قطاف الموسم على اليد العاملة السوريّة ولا سيّما الإناث منها، اللواتي يتولّينَ تعبئة وتوضيب الثمار في أوعية (علب) مخصّصة لذلك. وتشير العاملة يُسرى إلى “أنّ العمل ليس متعبًا، نحن نجلس فقط للتعبئة بينما مهمّة الرجال قطف المحصول عن الشجر، ونتمكّن من تأمين لقمة عيشنا”.
يفضّل المزارع طوني بولس الشجرة التركيّة والإسبانيّة عن البلديّة، لكونها تعطي شكلًا وحجمًا أكبر، يقول “مجتمعنا يحبّ الحبّة الإكسترا” ويضيف: “الإكّادينا فاكهة تحافظ على الصحّة، وهي مثاليّة للأشخاص الذين يهتمّون بالريجيم، أيّ الحميّة الغذائيّة، وهي تساعد في عمليّة الهضم”.
لا يعتمد المزارع محمّد إبراهيم على العمّال السوريين في البلدة فحسب، بل إنّ العديد من العاملين معه “هم من أبناء السلك العسكريّ ممّن يودّون تأمين مدخول إضافيّ لعائلاتهم” يقول ويضيف: “شو جابرك على المرّ إلّا الأمرّ منه”.
خلال التجوال بين قريتي كفرحتّى والحسّانيّة يوزّع المزارعون على المارّة من أبناء البلدة الأكّيدنيا، وبعضهم يتولّى توزيعها على المنازل. يشير إبراهيم، الذي يستثمر بعض بساتين الأكّيدنيا بالضمان لتأمين أقساط أبنائه الجامعيّة إلى أنّه “لا يمكن أن يتمّ تخزين ثمار الإكّادينا في البرّادات لسرعة تلفها، بل يجب استهلاكها مباشرة بعد القطف”. ويختم: “الموسم جيّد يؤمّن معيشتنا ومعيشة غيرنا”.