غادة فوعاني تحوك مستقبل عائلتها بـ”الطارة” و”السنّارة”

ميل طفوليّ إلى التطريز والخياطة نشأ لدى غادة فوعاني ابنة بلدة حولا (مرجعيون) التي تقيم اليوم مع عائلتها في النبطية، مذ كانت في العاشرة من عمرها، إذ كانت تترقّب أولئك التجّار القادمين من بلدة برجا (الشوف) إلى حيث تقيم عائلة أهلها في كفررمان (النبطية) وتطلق على كلّ واحد منهم كنية “البرجاويّ”. كانت أمّها “أم خالد” وجاراتها يشترين منه ما تيسّر لحياكة فستان وألبسة أو أغطية مقاعد ومساند، وما تبقّى منها كانت حصّة غادة لتحوك أحلامها من قماش مطرّز بالحبّ والأمل.

في السبعينيّات من القرن الماضي، كانت غادة وأهلها يقيمون في كفرّرمان، نازحين من حولا بسبب الاحتلال الإسرائيليّ واعتداءاته، تمامًا مثلما ينزح أهلها اليوم عن بلدتهم الأمّ بسبب الحرب الدائرة هناك منذ ستة أشهر متتالية، من قبل العدو عينه الذي يقصف حولا بشكل يوميّ وسقط فيها عديد من الشهداء والجرحى، فضلاً عن تدمير عشرات البيوت.

تقول غادة: “كان “البرجاوي” يأتي إلى كفررمان حاملًا رزمة ضخمة من الأقمشة على أحد كتفيه، يبيعها بـ”الذراع” (وحدة قياس للاقمشة تبلغ 46 سنتم)، وكانت تجذبني ألوان تلك الأقمشة وملمسها، واستمع بفرح إلى الأحاديث والجدل الذي كان يدور بين أمّي وبعض جاراتها من جهة وذلك البائع المتجوّل من جهة ثانية، حول جودة هذا القماش أو ذاك، وسعره مع طرافة الحديث والمزاح المشهورين به أبناء برجا، وبدأت منذ ذلك الحين تتوطّد علاقتي بالقماش”.

غادة فوعاني وأشغالها اليدوية
من الهواية إلى الاحتراف

وتضيف: “كنت ألتقط ما يتبقّى من الأثواب التي كانت أمّي تخيطها من تلك الأقمشة، وأمارس هوايتي البدائيّة في الخياطة والتطريز، وكنت أراقب أمّي وهي تخيط الثياب وكذلك بعض جاراتنا المحترفات، إلى أن اشترت والدتي ماكينة خياطة يدويّة صغيرة ماركة “سنجر” فبدأت أتعلّم عليها، ثمّ شاركت في دورات كانت تقيمها لجنة حقوق المرأة في كفررمان والنبطية وكذلك مصلحة الإنعاش الاجتماعيّ”.

بعد ذلك تدرّجت فوعاني في عالم الخياطة وغدت هوايتها حرفة، وصارت تخيط وتحوك لوحات مزخرفة ومطرّزة، وأغطية أباريق الشاي وشراشف الطاولات وما شابه، حتّى إنّها صارت لاحقًا تصمّم بعض الثياب والفساتين وتخيطها لنفسها أو لبناتها ولمن حولها في السهرات والأعراس والمناسبات، إلى أن افتتحت محترفًا خاصّا للخياطة في النبطية استمرّت فيه عدّة سنوات قبل أن تغلقه “بسبب التعب ومشاغل الحياة وهموم العائلة وأوضاع البلد” تقول فوعاني.

“طارة وسنّارة”

في خلال جائحة “كورونا” تعاونت غادة مع ابنتها “يارا” على إنشاء صفحة على موقع التواصل الاجتماعيّ “فايسبوك” لنشر أعمالها وصور ما تشتغله في المنزل، واختارتا له اسم: “طارة وسنّارة” في محاولة لتسويق مشغولات من “طارات” و”كروشّيه” وحياكة سنّارة وغيرها. وقد لاقت فوعاني تشجيعًا من الأهل والأصدقاء وكان همّها كما تقول: “تحقيق الذات والإبداع أكثر من الربح المادّيّ، مع العلم أنّني استطعت أن أساهم بقدر مقبول في مصاريف المنزل”.

في خلال جائحة “كورونا” تعاونت غادة مع ابنتها “يارا” على إنشاء صفحة على موقع التواصل الاجتماعيّ “فايسبوك” لنشر أعمالها وصور ما تشتغله في المنزل، واختارتا له اسم: “طارة وسنّارة”

وتنصح فوعاني “كلّ ربّة منزل أو فتاة أن تتقّن إحدى الحرف اليدويّة وخصوصًا التطريز والخياطة، فهذا الإتقان يُساعد في مصروف البيت ويملأ أوقات الفراغ، كما تستطيع ربّة المنزل أن تصنع لنفسها ولمن حولها بعض الحاجات الضروريّة أو اللوحات الفنّيّة والهدايا، بدلاً من أن تشتريها من السوق بأسعار عالية”.

تذكر فوعاني أنّ “غالبيّة الهدايا التي كنت أهديها للأصدقاء في المناسبات المختلفة كانت من شغل يدي، وكانوا يفرحون بها كثيرًا، كما أنّني كنت أفرح كثيرًا عندما يعبّرون لي عن إعجابهم وتقديرهم لهذه الأعمال”.

شاركت فوعاني في عدّة معارض للأشغال اليدويّة والتراثيّة في مناطق مختلفة، وقد اكتسبت من خلالها المعارف والأصدقاء والزبائن وتشاركت الخبرات مع زميلاتها، كما لاقت تشجيعًا من بعض الجمعيّات والمؤسّسات على أعمالها.

تراث يجب المحافظة عليه

تعتب غادة فوعاني “على المؤسّسات الاجتماعيّة التي كانت تقيم الدورات التدريبيّة في أوقات سابقة، بغيابها اليوم عن دورها الرياديّ، وعدم تقديمها الدعم لهذه الأنشطة وتشجيع ربّات البيوت على تعلّم الحرف اليدويّة وإتقانها”. وتعتب كذلك “على الدولة اللبنانية، لعدم دعمها أو حمايتها للمنتج الوطني، كما أنّها لا تفعل شيئًا للمحافظة على هذه الحرف من الانقراض، وكان الحريّ بالدولة أن تعلّمها في المدارس أسوةً بدول كثيرة وذلك حفاظًا على إرث الأجداد والتراث الذي يُعدّ جزءًا من الهويّة الوطنية”.

غادة فوعاني رفقة والدتها وابنتها وحفيدتها وبينهن تراث ينتقل من جيلٍ إلى جيل

تحلم فوعاني بإقامة “أتولييه” خاصّ بها تعلّم فيه الأجيال الصاعدة الحرف التراثيّة على أنواعها: “صناعة الصابون، المؤونة البلديّة، أشغال الفخّار والسيراميك والتطريز”. وهي تدعو كلّ أمّ وفتاة إلى تعلّم هذه الحرف، على رغم كلفة موادّها الأوّليّة، وكذلك على رغم تعبها وما تحتاجه من وقت ولكنها بالنهاية تُشْعِرنا بمتعة الإنجاز والإبداع الذي أساسه المحبّة الحقيقيّة لما نفعله ونشتغله، وللحياة وللناس، ويجب أن تنتقل هذه الهوايات والحرف إلى بناتنا وأحفادنا مثلما وصلت إلينا من أمّهاتنا وجدّاتنا كي نحافظ عليها ونطوّرها”.

هل نسترجع مع غادة ومثيلاتها من النساء الطموحات، زمن أمّهاتنا وجدّاتنا اللواتي كان لديهنّ اكتفاء ذاتي بحيث كنّ يصنعن ويُحضّرن كلّ ما يحتاجه البيت من مؤن وثياب وستائر وأغطية وغيرها؟ ولن ننسى كذلك آباءنا وأجدادنا ممّن كانوا يصنّعون ويُصلحون كلّ ما يخرب من أثاث المنزل وأدواته.

حول “الطارة”

الطارة أو (إطار الشدّ) تشبه إلى حدّ بعيد الطارة الخشبيّة التي تحيط بالمنخل (إطاره). يُستخدم كربون القماش لإنزال رسمة ما أو عمل فنّي على قطعة من القماش، ثمّ توضع قطعة القماش على الطارة، ويبدأ شغل التطريز، وتستخدم الطارة كذلك في أثناء التطريز على ماكينة التطريز.

يوجد 5 مقاسات من الطارة، ويوجد منها أنواع مثل العاج والبلاستيك. في خلال التطريز يمكن استخدام طارة واحدة فقط، ويكون مقاسها مناسب للاستخدام في أكثر من عمل نظرًا لعدم التكلفة الزائدة لشراء المقاسات كلها.

ماكينة السنجر التي لا زالت غادة تحتفظ بها من والدتها
أشغال يدوية لغادة فوعاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى