الاحتلال دمّر سبعين بالمئة من بيوت العديسة والبقيّة لا تصلح للسكن

لا يختلف المشهد هنا في العديسة عن قرى وبلدات عبرناها للوصول إليها، فهو واحد، دمار يحاكي دمار، ولا يقتصر على البيوت والبنى التحتيّة ومراكز التعليم ودور العبادة وغيرها، بل يطال الشجر والتراث والذاكرة، وكلّ ما ملكت يد الاحتلال الإسرائيليّ من إجرام حطّ رحاله هنا في هذه البلدة التي تيمّم وجهها شطر فلسطين وتتربّع هنا في جنوبيّ الجنوب.
دمّرتها الحرب الأخيرة وبدّلت معالمها، هذا ما وثّقته “مناطق نت” خلال جولتها في ما تبقّى من البلدة. يقول رئيس بلديتها علي رمّال “الاحتلال دمّر 70 في المئة من بيوتها تدميرًا كلّيًّا والـ 30 الباقية يراوح دمارها بين جزئيّ أو محترقة، بيتان فقط أضرارهما تقتصر على الزجاج والأبواب وبعض الأثاث، فيما سقط من أبنائها 26 شهيدًا”.
يتابع رمّال لـ “مناطق نت”: “البيوت تعرّضت للسرقة من قبل العدوّ الإسرائيليّ، فكثير من المقتنيات، لم يجدها أصحابها بعد عودتهم، كذلك الأمر بالنسبة إلى مقرّ البلدية والمدرسة الرسميّة وملعب البلدة وغيرها من المنشآت الحيويّة”. يضيف رمّال: “قبل الحرب كان عدد وحداتها السكنيّة 1200 وحدة ونحو 130 محلًّا تجاريًّا”. ويشير إلى أنّ “البنى التحتيّة في البلدة لم تعد صالحة أبدًا، فقد تعمّد الإسرائيليّون محوها بالكامل”.
وعلى الرغم من وقف إطلاق النار المعلن منذ ما يقارب الخمسة أشهر، إلّا أنّ ذلك لم يسرِ على أرض الواقع، فتقوم قوّات الاحتلال بخرقه يوميًّا، وهي قامت منذ أيّام بالتقدّم إلى ساحة العديسة، ومنذ يومين أطلقت النار على شابّين فأصيب أحدهما، وأحرقت الدراجة الناريّة التي كانا يستقلّانها.

ذاكرة الماء والأرض
“تمتدّ العديسة على مساحة تزيد على سبعة كيلومترات مربّعة، وترتفع 700 متر عن سطح البحر، وهي خطّ عبور يربط منطقة مرجعيون ببنت جبيل”، وذلك بحسب رمّال.
بعيدًا من الدمار والخراب وفي حديث عن موقع العديسة المتّكئ على التاريخ، فإنّ كثيرًا من القصص تُروى عمّن ناضلوا وعبروا. وفي هذا الإطار يستذكر رمّال حكايات عن “عبور جيش الإنقاذ منها، ومرور شارل ديغول فيها، وزيارات السيّد عبد الحسين شرف الدين وياسر عرفات والإمام موسى الصدر”.
تحرس العديسة ثلاث تلالٍ خضراء، كأنّها أجنحةٌ تحميها من الرياح العاتية، ويسقي عطشها نبعٌ يتدفّق منذ مئات السنين، حافظ على نبض الحياة فيها، وظلّ شاهدًا على من مرّوا من هنا، على وقع حكاياتها النابضة بالحبّ والحياة. في هذا السياق يتحدّث رمّال عن العين التراثيّة، فيقول: “استهدف العدوّ أصل النبع بصاروخ ودمّر البناء الجميل المحيط به، ومحطّة التكرير التابعة له، وقد عملت على إنشائهما البلديّات السابقة، ولأهمّيّة هذه العين والنبع عملنا على تنظيف العين بعد العودة مباشرة، ومن حسن حظّنا أنّ النبع عاد ليتدفّق من جديد”.
ويتابع: “تمثّل العين محطّة مهمّة ليس لأهل العديسة فحسب، بل للقرى المجاورة من ربّ ثلاثين والطيبة وكفركلا، فأهالي تلك البلدات يقصدون العين لعذوبة مياهها أوّلًا، ولأنّها مكرّرة ثانيًا، وإذا ما عدنا إلى الوراء، فإنّ البدو الرحّل كانوا أيضًا يقصدونها خلال رحلاتهم من فلسطين وإليها، لا سيما أنّ خانًا قديمًا كان قريبًا منها أطلق عليه تسمية خان الرُحّل”.
خسارات كبيرة منيت بها العديسة لم تقتصر على الحجر والبنى التحتيّة فحسب، فمعظم بساتين زيتونها وسنديانها بحسب رمّال “أحرقه الفوسفور، وجُرّف واقتُلع، وبخاصّة محلّة المخافر التي لم يبقَ فيها أثر للزيتون”.

العديسة ورجالاتها
منذ أيّام الانتداب الفرنسيّ كان أبناء العديسة من بين الثوّار الذين قارعوا المستعمرين، أمثال طعّان خليل، رشيد وحسن خليل، سلمان طباجة، محمود سليمان، والثائر صادق حمزة، وقد نُفي بعضهم وحُكم على آخرين بالإعدام.
يقول رمّال: “عدد سكّان العديسة يقارب الـ 8000 آلاف نسمة، وهم يتنقّلون بين إقامة في البلدة صيفًا وغياب شتاءً، إذ لا يتجاوز عدد المقيمين شتاءً 2000 نسمة، أمّا في الصيف فتعود الحياة لتدبّ في البلدة فيرتفع العدد إلى حوالي 4500 نسمة”، ويؤكّد رمّال أنّ “الزراعة لا تمثّل لأبناء العديسة مصدر الرزق الأساس، فهم لا يعتمدون عليها إذ أنّ أهلها المقيمين يعملون في الصناعات الخفيفة والتجارة”.
آمال العودة وإعادة التعمير
ويلفت رمّال إلى أنّ “العودة إلى العديسة مرتبطة إلى حدّ كبير بالدول المانحة، ولكنّنا اليوم نتواصل فقط مع جهتين، مجلس الجنوب وجهاد البناء لمسح الأضرار والتعويضات، وقد باشرنا بالمساعدة لوجستيًّا بعد الانسحاب الإسرائيليّ من البلدة، وكان تركيزنا على فتح الطرقات وإعادة المياه والكهرباء”.
رمال: العودة إلى العديسة مرتبطة إلى حدّ كبير بالدول المانحة، ولكنّنا اليوم نتواصل فقط مع جهتين، مجلس الجنوب وجهاد البناء لمسح الأضرار والتعويضات
وعلى الرغم من أنّ الأمر ليس سهلًا ويحتاج إلى تضافر الجهود ووقت طويل، يقول رمّال: “عملنا في البلديّة مع الشباب المتطوّع من أبناء البلدة، (ونخصّهم بالشكر والتقدير)، على تنظيف العين وصيانة مولّدين كهربائيّين لنؤمّن بعض الاحتياجات موقّتًا للمنطقة التي تحتاج إلى ترميم، إذ يجري ذلك بالتوازي مع أعمال شركة الكهرباء، التي بدأت تدريجًا في الخيام والطيبة وصولًا إلى بقية القرى”.
بالنسبة إلى المياه يضيف رمّال: “تقوم مصلحة مياه الجنوب بالتعاون مع الصليب الأحمر الدوليّ بالعمل على تأمينها، بعد قطع خطّ الوزّاني وجرف طريق الطيبة”. مشيرًا إلى “أنّنا تقدّمنا بطلب الحصول على تراخيص حفر آبار ارتوازيّة ربّما تساعد في حلّ هذه المشكلة”.
ويوضح رمّال أنّ “إمكانيّات البلديّة أصبحت شبه معدومة، فالمبنى البلديّ دُمّر بالكامل، ونستخدم اليوم ما تبقّى من غرف بحاجة لترميم في مدرسة الروضات لاستئناف عملنا، وكذلك استهدفت جميع آليّات البلديّة وأُحرقت مع سيّارات الإسعاف وسيّارة نقل الموتى، ونحن بحاجة إلى تجهيز البلدية بمختلف أنواع الآليّات”.
تراث العديسة
لم تدمّر الحرب الإسرائيليّة الأخيرة البيوت وتجرّف الطرقات فحسب، بل دمّرت إرث العديسة التاريخيّ والفنّيّ وهو ما لا يمكن تعويضه. عن ذلك يقول رمّال: “لم نفقد مجرّد مبانٍ عاديّة، فمقام “الخضر” لم يعد موجودًا، وبيت الفنّ والثقافة بيت الفنّان عبد الحميد بعلبكي أيضًا مع كلّ ما يضمّه من إرث ثقافيّ ورمزيّة كبيرة، كذلك الأمر ثمّة أضرار كبيرة في أحد البيوت التراثيّة العريقة في البلدة والذي كان يعرف بدارة محمّد الأسعد”.

ويذكّر رمّال من أنّ الإسرائيليّ لم ينسحب كلّيًّا من أراضي البلدة “وهو ما زال محتلًّا الخطّ العام للبلدة الذي يربطها بكفركلا”.
ذاكرة عبد الحميد بعلبكي الحجر والروح
في قلب العديسة، كان يقف بيت الفنّان التشكيليّ عبد الحميد بعلبكي، الرسّام والنحّات والشاعر والأستاذ الجامعيّ كحكايةٍ لم تُكتمَل فصولها بعد. لم يكن المنزل مجرّد أحجار وطين، بل روحٌ معلّقةٌ بين الماضي والحاضر، بين قصائده وحكاياته وكتبه ولوحاته ومخطوطاته، كان وطنه وملاذه الأخير الذي أصبح جزءًا من الذاكرة الجمعيّة للعديسة ومتحفًا يتغنّى به أهلها.
اليوم، لم يعد المنزل موجودًا، فقط مدفن بعلبكي وزوجته بقي شاهدًا على هول الجريمة بصمته العميق. يقول المايسترو لبنان عبد الحميد بعلبكي: “هناك بقيت ذكرياتنا وحلم والدي الذي انعكس على حياتنا والذي أصرّ على تحقيقه فهندسه ورسمه وبناه بنفسه، وقد استغرق الأمر أعوامًا طويلة قاربت الـ 30 عامًا، لأنّه ببساطة كان يقتطع أكلاف البناء من راتبه الشهريّ”. ويتابع: “تعلّم والدي في الخارج وعلّم في بيروت وأمضى معظم حياته خارج البلدة، إلّا أنّه بعد تقاعده عاد إلى العديسة متمسّكًا بجذوره، وكان مؤمنًا بضرورة نشر الثقافة والفنّ في المنطقة التي انحدر منها لأنّه كان مؤمنًا وفخورًا بتاريخ جبل عامل”.
ويؤكّد لبنان بعلبكي لـ “مناطق نت” حول “إعادة تعمير البيت”، “أنّنا سننتظر إعادة تعمير البلدة والمنطقة فهذه المرحلة من الصعب أن نستثمر بها، فعليًّا حال الحرب ما زالت قائمة ونحن بانتظار أنّ يحلّ الأمن والأمان والتمويل والدعم”.
بين الركام.. بيت الفنّ حيّ
حتّى بعد أن أصبح منزل عبدالحميد بعلبكي كومة من حجارة مبعثرة، لا يزال حاضرًا في ذاكرة العديسة. كلّ من يمرّ به، يشعر أنّ عبدالحميد لم يغادر، وأن روحه لا تزال تحوم حول المكان، ترفض أن تنطفئ. ربّما لن يعود كما كان، لكنّه صار جزءًا من حكاية أكبر، حكاية العديسة التي تعرف كيف تنهض من الدمار، وكيف تبقى على رغم كلّ محاولات المحو.
عن المخطوطات التي كان يضمّها المنزل وبعضها نادر، أكّد لبنان “أنّها بقيت في بيروت وأنّ متحف سرسق اليوم يكرّم الفنّان الراحل عبدالحميد بعلبكي تحت عنوان “تحيّة إلى الجنوب”، إذ يستمرّ المعرض الذي يضمّ لوحات ومخطوطات الوالد حتّى الـ 28 من أيلول/ سبتمبر المقبل”.
