الانتشار الجغرافيّ للجوء السوري.. أسباب وعوامل مؤثّرة
بيّنت إحصاءات رسميّة تلخّص نسبة النازحين السوريّين المسجّلين في المفوّضيّة السامية للأمم المتّحدة لشؤون النازحين في لبنان، بحسب المناطق حتّى منتصف 2024، أنّ نسبة السوريّين الموجودين في مناطق الجنوب اللبنانيّ بلغت 11.2 في المئة فقط، في موازاة 37.7 في المئة في محافظة البقاع، 28.3 في المئة شمال لبنان، و22.7 في المئة في بيروت وجبل لبنان. هذه الإحصاءات، وإن كانت غير شاملة لجميع السوريّين المتواجدين على الأراضي اللبنانيّة، وإنّما فقط للمسجّلين لدى المفوّضيّة إلّا أنّها تُعطي مؤشّرات واضحة على توزيع وانتشار اللاجئين في بلد يحتلّ المرتبة الأولى عالميًّا في استقطاب اللاجئين وفقًا لعدد السكّان، بحسب مجلس اللاجئين النروجيّ.
والفوارق في أعداد اللاجئين السوريّين من منطقة لأخرى لا تقتصر على أعدادهم فقط، وإنّما تختلف كذلك في طرائق إقاماتهم، إذ تقتصر مخيّمات اللاجئين في بعض المحافظات مثل الجنوب على مخيم كبير بين مرجعيون وإبل السقي يعرف بمخيم “مرج الخوخ”، ومخيمات عائلية صغيرة قرب الساحل، لتظهر بكثرة في البقاع الشماليّ أو عرسال التي تضمّ أراضيها 163 مخيّمًا وتجمّعًا للنازحين (مقال: عرسال ومخيّماتها.. ماذا عن الخدمات وفرص العمل؟)، ولكلّ ذلك أسبابه التي أفرزت هذا الشكل من النزوح.
أسباب التوزّع الديموغرافيّ
ويمكن القول إنّ عوامل توزّع النازحين على المناطق متعدّدة ومتنوّعة، وتتداخل فيها الهواجس الطائفيّة والمساحة الجغرافيّة وصولًا إلى البيئات الحاضنة للاجئين. كذلك إنّ هذه المحدّدات غير مقتصرة على حال اللجوء السوريّ إلى لبنان، بل يمكن ملاحظتها كحال عالميّة بحيث تتجمّع الجاليات في بلدان الاغتراب في مناطق أو ربّما أحياء معيّنة، رغبةً منها في الحفاظ على هويّتها الثقافيّة وعاداتها وتقاليدها.
انطلاقًا من ذلك، يرى منسّق مختبر الديموغرافيا في مركز الأبحاث، معهد العلوم الاجتماعيّة، الجامعة اللبنانيّة، شوقي عطيّة، في حديث لـ”مناطق نت”، أنّ هناك عاملين أساسيّين أدّيا إلى أن يأخذ التوزّع الجغرافيّ للاجئين السوريّين هذا الشكل. العامل الأوّل “هو القرب الجغرافيّ، إذ نلاحظ التواجد الكبير للاجئين السوريّين في بعض المناطق القريبة من الحدود اللبنانيّة- السوريّة مثل عكّار والهرمل والبقاع”، مضيفًا أنّ “ما يعزّز رغبة السوريّين في التواجد في تلك المناطق هي قيام جزء كبير منهم بزيارة سوريّا لفترات والعودة مجدّدًا إلى لبنان”.
أمّا العامل الثاني، فهو “العامل الطائفيّ، وهذا ما يُفسّر عدم تواجدهم بأعداد كبيرة في بعض المناطق مثل الجنوب بسبب الاختلاف الطائفيّ، في مقابل تواجدهم بأعداد كبيرة في مناطق معيّنة ذات وزن طائفيّ مُعيّن”، وفقًا لـ”عطية. ولا شكّ في أنّ العامل الطائفيّ ساهم في وجود بيئات أكثر احتضانًا للاجئين السوريّين ممّا دفعهم إلى النزوح باتّجاهها على حساب مناطق أخرى مثل الجنوب، على رغم تواجدهم التاريخيّ فيها، كونها مناطق زراعيّة لطالما كانت جاذبة لليد العاملة السوريّة.
الوجود السوريّ في الجنوب
يعود تاريخ العمالة السوريّة في الجنوب إلى زمن بعيد، إلّا أنّها ازدهرت بداية التسعينيّات، بعد الانسحاب الإسرائيليّ في منتصف الثمانينيّات إلى منطقة كانت تعرف بـ”الشريط الحدوديّ المحتلّ”، حيث تحوّلت بقيّة مناطق الجنوب المُحرّرة إلى مناطق آمنة نسبيًّا جذبت إليها العمالة السوريّة التي تركّزت في قطاعيّ الزراعة والبناء.
شوقي عطية: العامل الطائفيّ ساهم في وجود بيئات أكثر احتضانًا للاجئين السوريّين ممّا دفعهم إلى النزوح باتّجاهها على حساب مناطق أخرى مثل الجنوب، على رغم تواجدهم التاريخيّ فيها، كونها مناطق زراعيّة لطالما كانت جاذبة لليد العاملة السوريّة
وتميّزت هذه العمالة بكونها فرديّة آنذاك، إذ كان يعمد العمّال السوريّون إلى الإقامة بشكل فرديّ في الجنوب من دون عائلاتهم، مع زيارات منتظمة إلى سوريّا بفترات زمنيّة متواصلة. وشكّلت هذه العمالة مناسبة لنسج علاقات مع أهالي الجنوب الذين لم يتردد كثر منهم من زيارة السوريّين في بلدهم، ممّا قدّم الوجود السوريّ في تلك الفترة كوجود لأسباب اقتصاديّة بالدرجة الأولى، وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال سعي العمّال السوريّين إلى توفير أكبر قدر من الأموال، عبر تشارك السكن والمصاريف مع بعضهم، بغية بناء منازلهم ومساعدة عائلاتهم في سوريّا.
هذا الوضع استمرّ إلى غاية أحداث العام 2011، التي شهدت موجات نزوح كبرى للسوريّين باتجاه لبنان، ممّا دفع العمّال إلى استقدام عائلاتهم وأقربائهم هربًا من الحرب، وشكّل علامة فارقة ونقطة تحوّل كبيرة في الوجود السوريّ في الجنوب اللبنانيّ، إلّا أنّ هذا التحوّل لم يصل إلى مرحلة بناء مخيّمات لجوء، وإنّما استمرّ الوجود السوريّ جنوبًا محصورًا في المنازل في القرى والبلدات وبشكل مختلط مع الجنوبيين.
غياب اللاجئين في الجنوب
تحليل عطيّة لا يختلف عن رأي الباحث في “الدوليّة للمعلومات”، محمّد شمس الدين، الذي أشار في حديث لـ “مناطق نت”، إلى أنّه “من الطبيعيّ أن تضمّ المناطق القريبة من سوريّا، مثل عكّار ومحافظتيّ الشمال والبقاع، أعدادًا كبيرة من النازحين السوريّين أكثر من الجنوب، إذ إنّ الجنوب بعيد جغرافيًّا عن سوريّا”. ويوضح أنّ “الاعتبارات السياسيّة القائمة في الجنوب حالت دون أن تصل أعداد اللاجئين السوريّين إلى أرقام كبيرة”.
ويؤكّد شمس الدين أنّه “لغاية فترة قريبة كان ممنوع على اللاجئين السوريّين الدخول إلى المناطق الحدوديّة القريبة من فلسطين المحتلّة”، موضحًا أنّ “جميع هذه العوامل أدّت إلى عدم وجود أعداد كبيرة من اللاجئين السوريّين في الجنوب”. أمّا تواجد اللاجئين في بيروت وجبل لبنان، فيربطه شمس الدين بـ “فرص عمل كثيرة في تلك المناطق”.
تأثير الانتشار على المجتمعات المحلّيّة
من الطبيعي أن يؤثّر اللجوء السوريّ في لبنان في المجتمعات المحلّيّة، كما هي الحال في جميع البلدان التي تشهد عمليّات نزوح كبيرة وطويلة. وفي هذا السياق، يوضح عطيّة أنّ “معظم اللاجئين السوريّين في لبنان ينتمون إلى مناطق ريفيّة، وبالتالي فإنّ عاداتهم وثقافتهم وتقاليدهم تختلف حتّى عن عادات وتقاليد أبناء المدن السوريّة في حمص أو حلب أو طرطوس أو غيرها من المدن”، مضيفًا أنّ هذه الاختلافات أثارت “عديدًا من المشاكل بين النازحين السوريّين والمجتمعات المضيفة حتّى في المدن السوريّة”.
ويلفت عطيّة إلى أنّ “سوريّا شهدت العام 2009 موجة نزوج داخليّة كبيرة من الأرياف باتّجاه المدن بسبب الجفاف والوضع الاقتصاديّ، وهذا أدّى إلى ضغط ونفور اجتماعيّ بين أهالي الريف والمدينة في ذلك الحين”. وهذا المشهد الذي يقع ضمن الدولة الواحدة يمكن أن نلاحظه في عمليّة اللجوء السوريّ إلى المدن اللبنانيّة.
ويؤكّد عطيّة أنّه “كلّما كان المجتمع المضيف أبعد من الناحية الثقافيّة والعادات والتقاليد من اللاجئين السوريّين فإنّ ذلك سيخلق مزيدًا من المشاكل”، مشيرًا إلى أنّ هذا ما يُفسّر “النفور الذي يحدث في بعض المجتمعات مثل جبل لبنان أو بيروت أو الجنوب أكثر من النفور أو المشاكل التي قد تقع في مناطق مثل عكّار أو البقاع”. ويوضح أنّ هذه الحال يُطلق عليها علميًّا تسمية “الشخصيّة الثقافيّة القاعديّة التي كلّما ابتعدنا عنها تصبح المشاكل أكبر”.
ويمكن ملاحظة الفروق الكبيرة بين اللاجئين السوريّين أنفسهم، من خلال اختلاف خلفيّاتهم المعرفيّة والثقافيّة والظروف المحيطة بلجوئهم، إذ يختم عطيّة أنّ “قسمًا كبيرًا من السوريّين تركوا منازلهم بشكل مفاجئ وسريع معتبرين أنّ العودة ستكون بعد وقت قصير، إلّا أنّ ذلك لم يحدث”.