البيروتي غازي مكداشي.. رائد الأغنية السياسيّة ومؤسّس “الكورس الشعبيّ”
ينتمي في الأصل إلى حي “الغلغول” في وسط بيروت الواقع قرب “التياترو” الكبير. عاشت أسرة جدّه هناك قبل نزوحها إلى البسطة، وصولًا إلى طريق الجديدة التي كانت تعّد ضاحية بعيدة عن بيروت. نشأ في عائلة مكوّنة من تسعة أفراد، كان هو أصغرهم، وهذا ما أكسبه بعضًا من حرّيّة الحركة والتفكير، بخاصّة مع محيط تملؤه البساتين والرمال.
بدأ غازي مكداشي يتعلّق بالرسم ثمّ بالموسيقى الكلاسيكيّة بعدما ترك له شقيقه “بدر الدين” مجموعة اسطوانات قبل سفره إلى ألمانيا لمتابعة دراسته الجامعيّة. لم تكن تربيته بعيدة عن ثقافة السماع. كان الوالد التقيّ يوقظ أهل المنزل على تراتيل القرآن بالإضافة إلى أغاني محمّد عبد الوهاب وسلامة حجازي في ساعات الصباح الأولى. بيد أنّ الموسيقى الكلاسيكيّة استهوته وشرع بجمعها من مصروفه، حتّى جاء اليوم الذي امتلك فيه آلة “الأكّورديون” وألّف عليها بعض المقطوعات وأسمعها إلى صغار العائلة قبل النوم.
شغلت الموسيقى الكلاسيكيّة فضوله وقرّر دراسة “البيانو”، وهو الأمر الذي كانت العائلة عاجزة عن تحقيقه، لولا تدخّل شقيقته الكبرى “سلوى”، وهي تزاول التدريس في مدرسة البنات الرسميّة، اذ تقدّمت من إدارة مدرستها للسماح له بالعزف على آلة البيانو الموجود في إحدى القاعات المتروكة في المدرسة، بعد دوام العمل.
قاده هذا الشغف إلى دراسته للآلة على يد أستاذ ألمانيّ في محلّ مخصّص لبيع الآلات الموسيقيّة في باب إدريس، ثم انتسب إلى معهد للفنون يديره سامي صليبا في شارع الجامعة الأميركية قرب مخفر حبيش. راح يدرس جميع أنواع الفنون من مسرح ورسم وموسيقى، وكان لفيف من أساتذة مهمّين يتردّدون على المعهد، من بينهم وليد غلمية. درس في المعهد أربع سنوات وكانت حفلة التخرج في العام 1962.
الأغنية السياسيّة
كانت بداية تجاربه مع الأغنيّة السياسيّة في أثناء أحداث “ثورة 1958″، إذ لحّن عددًا من المقطوعات والأغاني التي بثّ بعضها في الإذاعات الخاصّة التي نشأت في تلك الفترة، ومن بين تلك الأغاني “ثائر” التي غنّاها الكورس وبثت في إذاعة “المشعل” ومركزها في طريق الجديدة، وفي إذاعة أخرى كانت تتبع للرئيس صائب سلام في منطقة البسطة.
بعد الانتهاء من دراسته الثانويّة، كانت الهندسة المعماريّة الأقرب إلى ميوله الفنّيّة، وجعل الموسيقى هواية وليس اختصاصًا. سافر إلى بلجيكا لدراسة الهندسة وفي الوقت نفسه درس الهارموني وتعمّق في دراسة الموسيقى الأثنية والفولكلوريّة، كما تأثّر بالموسيقى الإيرانيّة والأفغانيّة إلى جانب اهتمامه بالموسيقى العربيّة.
بعد الانتهاء من دراسته الثانويّة، كانت الهندسة المعماريّة الأقرب إلى ميوله الفنّيّة، وجعل الموسيقى هواية وليس اختصاصًا. سافر إلى بلجيكا لدراسة الهندسة وفي الوقت نفسه درس الهارموني وتعمّق في دراسة الموسيقى الأثنية والفولكلوريّة.
بعد عودته إلى بيروت وضع موسيقى مسرحيّة “إضراب الحراميّة” من كتابة أسامة العارف وإخراج نضال الأشقر وروجيه عسّاف. ثمّ سجّل أول رباعيّة على آلات البيانو والعود والفلوت والإيقاع، وصدرت بعنوان: “رباعيّات”. ثمّ وضع موسيقى مسرحيّة “جحا في القرى الأماميّة” لجلال خوري، ثمّ موسيقى مسرحيّة “قبضاي”، وبضع اغانٍ مثل “ليمونة وزهرة للأطفال” و”سجّل أنا عربي” التي سجّلها في العام 1974 مع كورس الإذاعة اللبنانيّة، لمناسبة احتفالات الذكرى الخمسين للحزب الشيوعيّ اللبنانيّ.
الكورس الشعبيّ
كان غازي مكداشي يؤمن بالعمل الاجتماعيّ الجماعيّ، فمع اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان انضمّ إلى لجان إغاثة المهجّرين والنازحين من الحرب، قبل أن يفكّر بمشروع فنّيّ يدعم طموحاته الاجتماعيّة والعمل الجماعيّ، فكان تأسيس الكورس الشعبيّ الذي اقتبس فكرته في أثناء دراسته في بلجيكا، وكان من أعراف المدن أن تنشأ مثل هذه التجربة وتدعمها لإحياء المناسبات والأعياد، عبر المسيرات التي تطوف الشوارع. وكان ريع هذه الأعمال الفنّيّة يعود إلى الجمعيّات والمحتاجين.
يقول غازي مكداشي: “كانت علامات التعجّب واضحة على وجه مدير إحدى المدارس الرسميّة، حين طلبت إليه أن يقدّم التسهيلات للتلامذة الذين يرغبون بالانضمام إلى الكورس الشعبي، وكانت باكورة حفلاته في قبو أحد المستشفيات. وكان الجمهور من الجرحى المدنيّين من جرّاء القصف العشوائيّ الذي كان يطاول المناطق السكنيّة. وكان انتشار الأغاني إلى جانب “سجّل أنا عربي”، “يحكون في بلادنا”، “لن يموت الشهداء”، “عصافير”، “لا تنامي حبيبتي” وغيرها.
تطوّر عمل الكورس بعد اكتشافه أسماء شابّة على نحو احترافي متقن. “ومن هذه الاسماء: خالد الهبر، عبيدو باشا، حسن ضاهر، طوني وهبي وأحمد قعبور. وقدّم الكورس الحفلات مع بروز خالد الهبر وطوني وهبي، قبل أن يبرز أحمد قعبور ويلحّن “أناديكم” ويغنيها مع الكورس”.
استمرّ عمل الكورس حتّى إحدى الحفلات التي كانت مقرّرة، ولم يأتِ عدد من أعضاء الكورس إليها، وعند استفساره عن السبب قال له الناقد الموسيقيّ نزار مروة: “هناك شابّ قادم من باريس يعزف على آلة العود، ونساعده على بناء فرقة موسيقيّة”.
يتابع مكداشي: “علمت في ما بعد أنّ الشاب هو مارسيل خليفة والفرقة التي كانت نواتها الكورس الشعبيّ أصبح اسمها الميادين. تأثّرت كثيرًا بالطعن في تجربة الكورس وأدركت انّني دفعت ثمن استقلاليّتي عن القرارات الحزبيّة التي كانت في تلك الأثناء تحاول استيعاب الطاقات وتبني الأعمال الفنّيّة”.
ويضيف: “بقي معي في الكورس عبيدو باشا وأحمد قعبور وحسن ضاهر. لكنّ هذه الحادثة دفعتني للتفكير بالأطفال الذين يعيشون الحرب، من دون مؤازرة أو مواكبة لأحلامهم المسروقة. فكّرت في تأسيس فرقة مسرحيّة برغم اعتراض أعضاء الكورس وخوفهم من تجربة جديدة لا نملك فيها عامل الخبرة والإمكانات. أصريت على الفرقة وسمّيتها “السنابل” لبساطة هذا الاسم وجمال المعنى بداخله، واستمرّت في أسلوب العمل الجماعيّ، في الكتابة وتصنيع الاكسسوار والتمثيل وتلحين الأغاني. كانت الفكرة مشتركة والسيناريو يكتبه أكثر من شخص”.
فرقة السنابل
عمل غازي مكداشي منذ التأسيس على أن تنطلق إنتاجات فرقة السنابل من ذاكرة المجتمع العربيّ والإسلاميّ، على اعتبار أن الحداثة والإبداع يتحقّقان من خلال التعبير الصادق والنابع من الذات. لذلك لم تلجأ الفرقة إلى الترجمة والاقتباس، بل سعت إلى بناء مؤلّفات خاصّة أساسها مشاكل وهموم وأحلام الاطفال. وقد ابتعدت عن الاسقاطات التربويّة المباشرة واعتمدت الأسلوب المنفتح على الطفل، والذي يدعوه للتأمّل والتخيّل.
قدمت الفرقة مسرحيّات غنائيّة عدّة ابتداء من العام 1977 في المدارس والمراكز الثقافيّة وساحات الأحياء الشعبية في بيروت ومعظم المناطق اللبنانيّة. ومن المسارح التي قدّمت عليها هذه المسرحيّات: قصر الأونيسكو، مسرح جان دارك، البيكاديللي، مسرح بيروت، مسرح فرساي، مسرح برودواي، مسرح طبّارة.
كما قدّمت الفرقة أعمالها في بعض البلدان العربية مثل ليبيا، اليمن، الكويت، الأردن. وقدّرت عروض الفرقة في لبنان والعالم العربي بنحو ألف عرض مسرحيّ، وسجّلت أعمالها على أشرطة كاسيت وأصبحت على مدى عشرين سنة في وجدان الأجيال، واستعانت الكثير من المدارس والمؤسّسات التربويّة بتلك الأشرطة في خلال عمليات التعليم.
سؤال: “كلّ هذا التاريخ الحافل من الإنتاج الموسيقيّ والمسرحيّ، ما زلت تتحدّث بشغف الهاوي ولم تطمح يوما بتكريس اسمك كفنّان يعيش من فنّه برغم ريادتك للأغنية السياسيّة منذ ستين عاما؟
يردّ: “توازن المضمون والشكل والإتقان هو هاجسي الوحيد، الأمر ينسحب على مهنتي في الهندسة المعماريّة. نلت جوائز عن مشاريع محلّيّة وعربيّة. لم أنجز الاعمال المعماريّة التجاريّة، وأعمالي قليلة نسبيًّا قياسا بسنوات الخبرة. إنّ هاجسي هو الإتقان، بدءًا من أعمال تخطيطيّة كبيرة إلى مشروع بناء صغير إلى زخارف مثل محراب عملت عليه في جامع الصنائع على مساحة لا تتعدّى المترين. أنا أفكّر في أنّ الفنّ والعمارة مسؤوليّة تتعدّى مسؤوليّة الفنّان التشكيليّ على سبيل المثال. اللوحة تأثيرها يقتصر على غرفة في داخل منزل. أما العمارة فهي في شارع عامّ ويمرّ أمامها الناس بالآلاف، إنّها مسؤوليّة جماليّة تجاه المجتمع وأهله.
روابط موسيقية:
سجل انا عربي
https://www.youtube.com/watch?v=D_BcUDr1YaU
لا تنامي حبيبتي
https://www.youtube.com/watch?v=yDOncGMJpzE
يحكون في بلدنا
https://www.youtube.com/watch?v=IwEp4oVJN7U
الأسلحة والأطفال