الإيقاع بالحجل في البقاع الشمالي.. “تحريم” إطلاق النار عليه وحملات لحمايته

“يا حجل صنّين  بالعلالي
يا حجل صنين بالجبل
خبّر الحلوين على حالي
خبر الحلوين يا حجل”

بصوتها الماسيّ الدافئ، بسحره الذي يتسلّل إلى أرواحنا كشعاع الشمس عقب ليلة ماطرة، غنّت الكبيرة فيروز “يا حجل صنين” من كلمات وألحان الأخوين رحباني. والحجل هو ذاك الطائر الجبليّ الجميل، ذو اللون البنّيّ المائل إلى الرمادي، منقاره أحمر كما رجليه، صاحب الأجنحة القويّة والطيران المفاجئ، يمشي برشاقة وسرعة فائقة، صيده بات قصّة ممتعة، هواية يتعلق بها كثيرون حد الهوس، فما حكاية صيد الحجل؟

هواية كالسوسة في الدمّ

عن رحلات الصيد الكثيرة والمثيرة يقول محمود الحجيري لـ”مناطق نت”: قصّتي مع صيد الحجل بدأت باكرًا، كنت طفلًا في الرابعة عشرة يوم اشترى لي والدي أوّل فرخ حجل، ولكيّ يحفزني على الدرس والنجاح بتفوّق وعدني بشراء طير حجل آخر (يضحك). أمّا أوّل رحلة صيد كانت مع قريب لي، لكنّها لم تتكلّل بالنجاح، لكّنه علمني كيفيّة نصب الشرك والاختباء، بانتظار وصول الحجلان”.

محمود الحجيري وطيور الحجل بين يديه

وعن شعوره بإمساك أوّل طائر حجل يقول الحجيري: “كنت قد بلغت السادسة عشرة، وفي جرود عرسال، نصبت الشرك واختبأت في الستارة (مكان يبنيه الصيّاد بالحجارة للإختباء)، وبعد قليل حطّ رفّ الحجلان، وحصلت معركتها واشتباكها مع حجلي، على إثرها علق أحدها بالشرك، وكان شعوري في حينه، وأذكره حتّى الآن، لا يوصف وصل الأدرينالين للسما وصرت إمشي عروس صابيعي، وبات هذا الشعور قرافقني بالوتيرة نفسها، فالآن وبعد أكثر من25  عامًا لي في (صيد الدكر) أسمع دقّات قلبي عند اقتراب رفّ الحجلان من قفص حجلي”.

بعدما بات الحجيريّ من كبار الصيّادين (وقد أمسك في آخر رحلة صيد 16 حجلًا) يعلّق: “كان الصيد هواية جميلة، رحلة ممتعة مع الأصدقاء، لكنّ ظروف البلد للأسف أوصلتنا إلى حدّ بيع الطرائد لتأمين مستلزمات الصيد، إذ إنّ بعض الصيادين بات يستند إليه في جزء من معيشته”.

يختم الحجيري مجيبًا على سؤالنا حول إمكانيّة التخلّي عن الصيد: “هذا من المستحيل، غير ممكن، إنّها سوسة بالدم، لا تقاعد في “صيد الدكر” فقط الموت أو العجز يمنعان الصيّاد عن الصيد”.

رياضة ويوغا روحيّة

تعتمد رحلات الصيد في الجبال على المشي مسافات طويلة صعودًا وهبوطًا، وتتضمّن أحيانا مشقات ومعاناة يسردها الصياد بفرح وسرور يملآن عينيه.

في حديث مع “أبو علي” قاسم  بحلق، المعروف بـ”شيخ الصيادين” يقول لـ”مناطق نت”: “صيد الحجل ليس مجرّد هواية فحسب، بل هو كذلك رحلة جميلة مع الأصدقاء، وسهرات ليالي الصيد لا تنسى، كما أنّه رياضة مفيدة للجسد. كنا نمشي ساعات طويلة بين مكان المبيت ومنطقة الصيد، صباحًا (المصباح بلغة الصيادين) في الوادي، ومساءً (المغربيّة) عند رؤوس الجبال، حتّى أنّ نصب الشرك ثمّ جمعه فيه حركات تنشّط الجسم”.

يتابع أبو علي: “مجرّد الحديث عن الصيد يفرحني ويذكّرني بأحداث وروايات حصلت، ناهيك عن أنّه يعلّمنا الصبر والهدوء وطول البال، والترقّب من داخل “الستارة” ممنوع فيه أدنى حركة، كي لا تهرب الحجلان، كما يعلّمنا الإصغاء والإنصات والتأمّل، وهذه التي لها أسم لا أعرفه (يقصد اليوغا)”.

قاسم بحلق

ويخبرنا أبو علي بحلق: “إنّ شغف الصيد ليس مرتبطًا بمناطق محدّدة أو جيل بعينه، ففي طفولتنا كنّا نسمع أنّ الرئيس كميل شمعون كان يأتي ومعه وزراء ونوّاب وضبّاط في القوى الأمنيّة إلى جرودنا وجرود القاع كي يصطادوا”.

يختم شيخ الصيادين مع “مناطق نت”: “أترحّم على بعض الأصدقاء من رفاق الصيد الذين غادروا دنيانا ولهم في البال ذكريات جميلة ومواقف لا تفارقني ما حييت”.

هواية وباب رزق

برغم أنّ صيد الحجل هواية جميلة ورياضة روحيّة، بيد أنّها باتت تشكّل مصدر رزق لبعض الصيّادين، سواء عبر بيع طرائده أو عبر صناعة الأقفاص وحاجيّات الصيد وطعام الحجلان.

يعمل عبد العزيز الحجيري أحد الصيّادين البارزين، في نحت حجر الزينة وتركيبه، بعد تفاقم الأزمة المعيشية لجأ اليوم في دكّانه الصغير إلى صناعة الأقفاص كي يبيعها إلى زملائه.

عبد العزيز الحجيري

عن حرفته الجديدة يقول لـ”مناطق نت”: “لم تكن صناعة الأقفاص والشرك (المصيدة) في بالي، صنعت بعضها سابقًا لأضع صيدي فيها، لكن ما نعيشه من أزمات جعلتني أبادر إلى فتح دكّاني هذا لصناعة حاجيّات ولوازم الصيادين، خصوصًا مع ازدياد عدد الصيادين الشباب بنسبة عالية”. ويردف: “أحببتها جدًّا وأصنّعها بدقّة وحبّ، لأنّها تتكامل مع هوايتي المفضلة”.

أمّا أسعار الأقفاص فهي بحسب نوعيّة العيدان المستخدمة، تبدأ من عشرين دولارًا للقفص (عيدان لوز، وبلاستيك، وعيدان الشيش)، أمّا أقفاص الخيزران فسعر القفص المفرد 55 دولارًا  وتسعون دولارًا القفص المزدوج”.

رفد البراري بالحجل

طير الحجل متوسّط طوله نحو 30 سنتيمترًا ووزنه نحو 450 غرامًا، يعيش في مجموعات صغيرة، يتكاثر بواسطة البيض، فتضع أنثاه قرابة عشرين بيضة، في النصف الثاني من نيسان/ أبريل وحتى أواخر أيار/ مايو، تخفيها في حفرة صغيرة مموّهة بين الأشجار وقرب النباتات البرّيّة، تحتضنها من عشرين إلى خمسة وعشرين يومًا، وبعدها تفقس وتخرج صيصانها. بعد أسبوعين من التفقيس تبدأ الفراخ بالطيران والاعتماد على نفسها في غذائها، وتشكل الجنادب والديدان البرّيّة طعامها المفضّل، كذلك الخسّ والقمح في القفص.

طير الحجل متوسّط طوله نحو 30 سنتيمترًا ووزنه نحو 450 غرامًا، يعيش في مجموعات صغيرة، يتكاثر بواسطة البيض، فتضع أنثاه قرابة عشرين بيضة، في النصف الثاني من نيسان/ أبريل وحتى أواخر أيار/ مايو.

حفاظًا على الحجل كطير مقيم في جبالنا، ومنع انقراضه وفنائه، يقوم الصيّادون سنويًّا بحملات إطلاق أعداد من طيورهم، خصوصًا مع اقتراب موسم التزاوج والتكاثر. يقول الصيّاد جمال الددة لـ”مناطق نت”: “أوّلًا الحمد الله أنّ في مجتمعنا ثقافة “شبه تحريم” تجاه إطلاق النار على الحجل، وكلّ الصيادين يلتزمون بعدم الصيد بعد منتصف نيسان/ أبريل في فترة وضع البيض، لأنّ فقدان الأمّ يعرّضها للتلف”.

ويضيف: “أمّا فكرة إطلاق الطيور فهدفها الحفاظ على وجود الحجل في جرودنا، بدأت في العام 2009  بالتعاون مع البلديّة ووزارة البيئة (الريّس وقتها كان صيّاد)، أطلقنا في حينه أكثر من400  حجل، وصرنا نطلق الحجلان سنويًّا إلى أن توقفت بسبب مشاكل الجرود. حاليًّا، نتشاور للعودة إلى هذه المبادرة حفاظًا على هذا الطير الجميل الدائم الإقامة، وليس مهاجرًا مثل البجع والسمّن والمطوق”.

كرامة الصيّاد من كرامة حجلو

دائما كانت تسعى الجمعيّات والجهات المتخصّصة بالبيئة وحماية الحيوانات والطيور البرّيّة إلى إقرار قوانين تنظّم هواية الصيد وتمنع الصيد الجائر.

طائر الحجل

وقد أقرّ مجلس النوّاب اللبنانيّ تنظيم الصيد البرّيّ تحت القانون الرقم580  الصادر في 25  شباط/ فبراير2004 ، للحفاظ على الطيور وتحديد الأنواع المسموح صيدها وكمّيّاتها والممنوعة منها، لكن وزارتي الزراعة والبيئة (للأسف) مثل كلّ مؤسّسات الدولة حاليًّا، لا تمتلكان وسائل تطبيق هذا القانون نصًّا وروحًا، وكذلك الكثير من البلديات التي لا تولي الموضوع أهمّيّة فعليّة.

ينقسم صيد الجحل إلى شقّين: الأوّل هو صيده بالبنادق بهدف قتله مثل أنواع الطيور الأخرى. والشقّ الآخر يتمثّل في صيده حيًّا عن طريق الأشراك والأفخاخ، وهو ما يعرف بـ”صيد الدَكر”، ومن يصطاد بهذه الطريقة يعرف بـ”صيّاد الدكر”.

إنّ سهرات “صيد الدكر” ممتعة وجميلة، مليئة بالتفاخر والتباهي و”التزريك” والمهاترات، وكلّ صيّاد يجعل من حجله أسطورة تاريخيّة، لكن الويل والثبور لمن يقتني حجلًا لا يصطاد، فيقولون عنه “فلان خرق حجلو. أمّا الطامّة الكبرى فتقع عندما تسأل صاحب حجل صيد قويّ بارع: صحيح خرق حجلك؟ عندها غضب الله سينزل عليك. وقد قال أحد الصيّادين القدامى: “كرامة الصيّاد من كرامة حجلو”.

بين الهوايات الجميلة وواقع البلد القاسي، تبقى أرياف لبنان وقراه تصنع بدائل حياتّية يوميّة تقاوم بها مكائد الحياة، عسى أن يكون الفرج قريبًا والقادم أجمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى