قاضي “عشرة عبيد زغار” أنطوان مُلتقى وذاكرة الأبيض والأسود

تتوالى الخسارات الفنّيّة والإعلاميّة في لبنان والعالم العربي، إذ لا يكاد يمرّ أسبوع إلّا وتنعى النقابات والهيئات الثقافيّة والفنّيّة رائدًا من روّاد الفنّ التشكيليّ أو المسرح والتلفزيون أو أديبًا أو شاعرًا. كان آخرها أمس الأربعاء، رحيل الإعلاميّ اللبنانيّ المخضرم كميل منسّى والفنّانة السوريّة القديرة ثناء دبسي (زوجة الفنان القدير سليم صبري) وبعدهما بقليل نعت نقابة ممثّلي المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون في لبنان، الممثل والمسرحيّ القدير أنطوان ملتقى، الذي تُوفي، عن عمر ناهز 91 عامًا.

يُعدّ أنطوان ملتقى من كبار أساتذة “كلّيّة الفنون الجميلة” في الجامعة اللبنانيّة، وواحدًا من عمالقة العصر الذهبيّ للفنّ والمسرح والتلفزيون في لبنان.

أنطوان ملتقى
من السيرة الذاتية

وُلد ملتقى في 9 حزيران 1933، في بلدة وادي شحرور (قضاء بعبدا)، زوجته الفنّانة القديرة لطيفة شمعون ملتقى، ولهما ابنان هما جيلبير والمؤلف الموسيقي زاد وإبنة جيهان. صَعد ملتقى إلى الخشبة لأوّل مرةٍ في سنة 1937، في دور مُزارعٍ صغيرٍ. ولمّا كبر أكثر بدأ يخلق المشاهد مع أولاد الحيّ. وكانت أوّل مسرحيةٍّ مُتكاملة أخرجها ومثّل فيها هي مسرحية: “الزّير” لفولتير، كان ذلك في العام 1950 في وادي شحرور، وكان قد حصل على شهادة البكالوريا، القسم الأول.

في الجامعة كانت هناك رابطة، وكان أعضاؤها يعرفون حبّه للمسرح، فطالبوه بتقديم مسرحيّة “ماكبث” لشكسبير، فقدّمها مع المخرج منير أبو دبس وكان في السابق زميلًا له في مدرسة الحكمة، بعدها  شكّلا ثنائيًّا مميّزًا لكنّهما سرعان ما انفصلا سنة 1961 ليعمل كلّ منهما بشكل فرديّ. ثمّ توالت أعماله المسرحيّة وأبرزها: “ضاعت الطاسة”، “سمسم”، “الإزميل”، “صعود أرنوه آوي”، “كاليغولا في دير القمر” وغيرها.

لعلّ أشهر أدواره التلفزيونيّة التي لا تزال راسخة في ذاكرة المشاهد اللبنانيّ والذاكرة الفنّيّة والدراميّة اللبنانيّة، الشخصية التي لعبها في مسلسل “10 عبيد زغار” العام 1974 إلى جانب زوجته لطيفة شمعون. علمًا أنّهما كان قد قدّما القصّة كمسرحيّة على خشبة مسرحهما الاختباري، في العام 1973 وبفضل نجاحها اللافت نقلاها إلى شاشة التلفزيون.

عشرة عبيد زغار وذاكرة الطفولة

من منّا لا يتذكّر مسلسل “عشرة عبيد زغار” الذي حفر عميقًا في ذاكرة تلفزيون الأبيض والأسود، حيث كنّا صغارًا وكان الخوف عاريًا طبيعيًّا بدون مؤثّرات حديثة وتكنولوجيّة. رحيل ملتقى يعديني إلى نصّ كتبته منذ أكثر من أحد عشر عامًا، وذلك بالتزامن مع إعادة محطّة “أم تي في” MTV إنتاجه بالألوان مع نخبة من الممثلين، ما أثار نقاشًا واسعًا حينها، بين من شاهده في زمن الأبيض والأسود وبين من عاد وحضره بالألوان، حيث كان الفرق شاسعًا جدًّا.

من منّا لا يتذكّر مسلسل “عشرة عبيد زغار” الذي حفر عميقًا في ذاكرة تلفزيون الأبيض والأسود، حيث كنّا صغارًا وكان الخوف عاريًا طبيعيًّا بدون مؤثّرات حديثة وتكنولوجيّة.

لأبناء جيلي ذكريات خاصّة مع “عشرة عبيد زغار” زمن الأبيض والأسود، والتلفزيون الذي كان يقتصر بثّه على الفترة المسائيّة فقط، تلك الذاكرة تزداد إثارة خصوصًا أنّنا كنّا نمضي فترة الصيف في مسقط رأسنا أنصار، والتي ترافقت إقامتنا مع بث المسلسل. والإثارة موصولة إلى عدم وجود تلفزيون في بيتنا الريفيّ، ما يستدعي حضور المسلسل عند بيت عمّي.

لم تكن المسافة طويلة بين منزلنا ومنزل بيت عمّي حسن حيث كنّا نذهب لـ”نحضر” مسلسل “عشرة عبيد زغار”، بل كانت عبارة عن “ممشى” صغير يفصل بين المنزلَين ولا يزال، لكنّ قطعها كان يتطلّب جهدًا كبيرًا وحبس أنفاس، خوفًا من أن يكون أنطوان ملتقى وزوجته لطيفة اللذان كانت شخصيّتهما ووجهاهما الأكثر تأثيرًا ورعبًا بين الشخصيّات الأخرى من شخصيّات المسلسل يتربّصان بنا.

لم يكن مسلسل الخوف ينتهي بقطع مسافة قصيرة جدًّا والوصول إلى البيت والإيواء إلى الفراش، بل يستمرّ أحلامًا وكوابيس طيلة الليل. لكن لم يكن ذلك ليمنعنا من المثابرة على مشاهدة المسلسل، بل كان يعزّز الشوق لدينا لمشاهدته أكثر، فننتظر بفارغ الصبر الأسبوع ليأتي ويحين معه الموعد، فنتجمّع من جديد ونتحلّق أمام شاشة التلفزيون الذي كان يقف على قوائم خشبيّة أربع ويغلّفه بيت خشبي أيضًا، وكانت تصنع له زوجة عمّي قماشًا مزخرفًا يليق به وبمكانته التي كانت تتوسّط غرفة الجلوس، حيث كانت تضع على سقفه (ظهره) التحف والمزهريّات تقديرًا واهتمامًا.

الممثل غسان سلامة مع أنطوان ملتقى في مسلسل “عشرة عبيد زغار”

أمام إلحاحنا بتشغيل التلفزيون، يتقدّم عمّي فيزيح القماش عنه ويسحب جرّاره الخشبيّ، وما إن يكبس على زرّ التشغيل حتّى تنفرج أساريرنا وتبان ضحكاتنا فرحًا بمشاهدة البرامج التي كان يبدأ بثّها في المساء فقط.

لم يكن هناك من لوحات تحكّم (ريموت كونترول) تتنقّل بين المحطّات، بل كانت يد عمّي الخشنة التي لوّحتها الشمس وشقّقها تراب الأرض هي التي تدير ذلك المفتاح السحريّ الذي كان صوت تكتكته يُدخل الفرح إلى قلوبنا، متنقّلة بين قنوات تلفزيون لبنان 5 و11 اللتَين لم يكن من محطّات تلفزيونيّة غيرهما، فتتمايل الصورة يمينًا ويسارًا، ويخشخش صوت التلفزيون، وعلى وقعهما كنّا نحبس أنفاسنا، لتعود الصورة ويستقرّ الصوت فنتنفّس الصعداء. ويبدأ الهرج والمرج وتتعالى الصيحات، ليقطعه صوت عمّي المرتفع بنبرته الحازمة “سمّعونا ياه”! فيبدأ المسلسل وتبدأ القلوب بالخفقان ويعمّ الصمت المكان، إلّا من أصوات الممثّلين.

عشرة عبيد زغار بالألوان

لا أدري لماذا احتلّ “عشرة عبيد زغار” هذا الحيّز من الذّاكرة وارتبط عرضه بحقبة زمنيّة كاملة. ولا أدري لماذا إعادة عرضه بالألوان مذيّلًا بعبارة “من أجواء أغاتا كريستي” أثار هذا الجدل الواسع والنقد بين مَن شاهده بالأبيض والأسود بالأمس البعيد وعاد وشاهده بالألوان وبنسخته الجديدة.

البعض رفض مشاهدته بنسخته الجديدة بالرّغم من الأداء العالي لبعض الممثّلين مخافة أن تخدش هذه المشاهدة ذلك الحيّز الذي احتلّه المسلسل من الذاكرة.

لا أدري لماذا يصبح الخوف جميلًا عندما يرتبط بالذّاكرة ويحتلّ حيّزًا منها. الخوف بالأبيض والأسود يختلف عنه بالألوان، الخوف بالألوان لا لون له… كلّ شيء يختلف في الأبيض والأسود. أغاتا كريستي، العدالة، المجرمون، الوجوه، الديكور، نحن، خوفنا وكلّ شيء… إنّها النوستالجيا التي تحتضن كلّ شيء وتحوّله “جميلًا”.

“عشرة عبيد زغار” أغاتا كريستي بالأبيض والأسود، أبقى الذاكرة مكانها وثبّتها هناك عصيّة على اللون، ثبّتها هناك ونحن جزء منها بلا ألوان.. وجوهنا، ضحكاتنا وخوفنا بلا لون، سوى تلك الفكرة التي أرادت أغاتا كريستي أن تقنعنا بها وأن نذهب معها في تلك الرحلة المحفوفة بإشكاليّة معقّدة تحمل عناوين الجريمة والعقاب والعدالة الحتميّة التي لا مفرّ منها…

عدالة أغاتا كريستي والمجرمين الذين كنّا نتعاطف معهم أحيانًا ويمتدّ خوفهم إلينا لم تستمرّ طويلًا، فأتت الحرب وأطاحت بكلّ شيء، وحوّلت معها كلّ شيء إلى مسرح كبير، يُعرض عليه مسلسل مستمرّ من الجرائم المختلفة. مسرح لا يحتاج إلّا إلى جزيرة ومركب ودعوات أنطوان ملتقى، وإلى صوت عمّي حسن صارخًا: “سمّعونا ياه”!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى