التحريض على اللاجئين السوريين.. الوقائع تدحض الذرائع
لليوم، لا يزال اسم محافظ بعلبك – الهرمل بشير خضر في صدارة الأسماء والأخبار المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي والصحف والمواقع الإخبارية. ذلك منذ نحو الأسبوع على نشره تغريدة على تويتر مذيلةً بفيديو له يردّ فيه على منسق مخيمات “اللاجئين” السوريين في عرسال الذي طالب بزيادة التقديمات لهم محمّلاً المحافظ مسؤولية أوضاعهم الصعبة، مطالبًا إياه بالعمل على تحسينها.. فما كان من المحافظ سوى أن رفض تسميتهم باللاجئين مصرّا على تسميتهم بـ”النازحين”، مستطردًا في حديثه بجملة “أنا محافظ وظيفتي هي أعلى وظيفة إدارية بالدولة، إلا أن راتبي أقلّ مما يحصل عليه النازح السّوري في لبنان”..
بعد نشره الفيديو المذكور، حدث ما رغب به المحافظ ضمنا، فانهالت على مواقع التواصل الاجتماعي التعليقات والآراء المؤيدة لكلامه متخذة منحىً تحريضيًا على اللاجئين، في حين لم يتردد المعارضون له، باتهامه بالعنصرية الفجة والوقحة، آخذين عليه مبالغاته الخرافية في تصوير “النعيم” الذي “ينعم” به اللاجئون من حفنة الدولارات التي تقدمها لهم الأمم المتحدة، وتغافله عن ظروفهم الحياتية القاسية بعيشهم في خيام وبيوت مسقوفة بالتنك، بعضها لا يصلح أن يكون زرائب للحيوانات والبهائم.
وهذا السّجال وما أعقبه من ضجة إعلامية واسعة وتململ في أوساط الرأي العام، وتصريحات الحقوقيين والسّاسة التّي تضاربت فيما بينها. أعاد فتح الحديث عن مأزق اللجوء السّوري في لبنان عمومًا وفي بعلبك – الهرمل على وجه الخصوص. هذا المأزق كان ولا يزال عرضةً للتجاذبات السّياسيّة والحقوقية وشماعة لتبرير الأزمات الطاحنة التّي يقاسيها لبنان منذ ثلاث سنوات ونيف.
المحافظ بشير خضر رفض تسميتهم باللاجئين وأصرّ على تسميتهم بـ”النازحين: “أنا محافظ وظيفتي هي أعلى وظيفة إدارية بالدولة، إلا أن راتبي أقلّ مما يحصل عليه النازح السّوري في لبنان”..
إذ وعلى امتداد سهل البقاع وصولاً للقرى والأرياف البعلبكية، تنتشر مخيمات اللاجئين وتنتشر معها مظاهر البؤس والفاقة الاقتصادية والاجتماعية، وفيما لا يزال المعنيون يتقاذفون الاتهامات والمسؤوليات، ومع تعذّر سياقات الإصلاح المعيشي، وبعد كلام المحافظ، وجد سكان البقاع الشمالي المنكوب، أن اللجوء السّوري هو السبب لمأزوميتهم، فباتت مظاهر العنف العنصري أكان بالسّياق السّياسيّ الدبلوماسي أو في الشارع مظهرًا اعتياديًا ودوريًا.
مخيمات اللاجئين في البقاع الشمالي
يحرص خضر في حديثه على إشراك اللاجئين قسرًا في صنع الكارثة التي يرزح تحتها اللبنانيون، باعتبارهم أحد عوامل “الانهيار”. ومع رداءة الخدمات التي تؤديها دولته وإداراتها لمواطنيها وليس لضيوفها، وأحيانًا انعدام هذه الخدمات بالمطلق، يصر خضر على القول في تغريدات عدة نشرها عقب الفيديو السابق، أن “كلفة النزوح على اقتصادنا هي أكثر من 3 مليارات دولار سنوياً، على سبيل المثال لا الحصر، حين كانت التغذية بالتيار الكهربائي 12 ساعة، كان الإنتاج 1800 ميغاوات، 500 ميغا يستفيد منها النازحون دون دفع أي بدل، ما يوازي 330 مليون دولار سنوياً.” كما إن سعر صرف الليرة قبل العام 2020 المدعوم من أموال المودعين، كان بحسب خضر “لخدمة الشعب اللبناني، بغض النظر عن صوابية هذا القرار، لكن هناك أكثر من مليوني نازح استفادوا منه ما سرّع بتبخّر الودائع، أضف الى ذلك، إن استهلاكهم للبنية التحتية، والخدمات العامة (نفايات، صرف صحي، مياه) قد ساهم أيضاً بالانهيار”.
وتصريح المحافظ ليس الأول من نوعه، فقد سبق وعُرف بمثل هذه التصريحات، القائمة على قناعة بأن أزمة اللجوء مقرونة بالأزمات التّي يعيشها اللبنانيون اليوم. وفيما يتشارك سواد البقاعيين هذه القناعة، تبذل المنظمات المعنية محاولات شتى لتخفيف وطأة هذا اللجوء عن كواهل سكان البقاع الشمالي.
وبينما تقدر الحكومة اللبنانية عدد من تستضيفهم من اللاجئين بحوالي مليون ونصف المليون لاجئ من سوريا، ويمثل هذا ربع إجمالي عدد سكان لبنان. فإن عدد اللاجئين المسجلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين هو أقل من مليون لاجئ، فبات لوم اللاجئين والأجانب والكراهية والعنصرية، منهجًا يعتمده سواد الناس لتبرير أزماتهم.
تقدر الحكومة اللبنانية عدد اللاجئين بحوالي مليون ونصف المليون لاجئ، بينما عدد اللاجئين المسجلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ليس سوى أقل من مليون لاجئ
اعتداءات عنصرية
وقد سجلت في خضم أزمة الخبز في بعلبك عشرات الاعتداءات العنصرية على اللاجئين السّوريين، بحجة أنهم يقاسمون المواطنين حقهم في ربطة الخبز. الأمر الذي تطور إلى اعتداءات لفظية وجسدية تصل إلى الضرب والطرد من الطوابير. وانتشرت دعوات وحملات على وسائل التواصل تدعو إلى طرد اللاجئين من مساكنهم المؤجرة، ومنعهم من التّسوق في المحال التجارية وترحيلهم من البلدات والقرى. وتفيد الأقاويل أن اللاجئين السوريين يعمدون لشراء الخبز وبيعه في السّوق السّوداء، أو على بسطات جانبية بسعر أعلى من السّعر الرسمي.
تغرق القرى والبلدات البقاعية كافة بالظلمة الشاملة منذ ما يقارب السّنتين، ناهيك عن شح المياه والعطب بالاتصالات والمواصلات العامة، بالمقابل رميّ اللوم على اللاجئ السّوري الذي يتقاسم واللبناني النصف الحصة من البنى التحتية، فيما يعود المسبب الحقيقي لهذا الوضع المأزوم، الحكومات المتعاقبة التّي اعتمدت سياسة الإقصاء والتهميش للمنطقة برمتها، متنصلة عن أداء مهامها بالشكل المطلوب. أما انقطاع الكهرباء الدائم فسببه ربط محطة تحويل بعلبك الرئيسية بمعمل الزهراني الحراري، الذي انخفض إنتاجه إلى حوالي 35 ميغاوات. وهذا بعدما عزلت منطقة بعلبك ما يقارب السنتين عن معمل دير عمار، عقب إسقاط الرياح العاتية عمود التوتر في محلة دير نبوح بين منطقتي القبيات والهرمل. فيما تستمر النزاعات من حينها على تكليف متعهد لتركيب عمود توتر في دير نبوح.
اللجوء السّوري في لبنان
منذ بداية الأحداث السّورية مطلع عام 2011 والتحولات على الصعيدين اللبناني والإقليمي وما تبعها من موجة لجوء قسريّ للسكان السّوريين إلى الأراضي اللبنانية بحكم القرابة الجغرافية والسّياسيّة والدبلوماسية بين البلدين، أدّى إلى تناحر طويل بين الطرفين، أسفر عنه تدفق الآلاف من السوريين المنكوبين إلى لبنان في الفترات اللاحقة، غالبهم استقر في الأرياف والأطراف اللبنانية وضواحي المدن بخاصةٍ بيروت، وذلك بالرغم من كل محاولات الأطراف والأحزاب السّياسيّة اللبنانية المؤيدة للجوء فضلاً عن الجمعيات والمنظمات الدوليّة التّي تكفلت بتوليّ شؤونهم، أكان بالمخيمات أو مراكز الإيواء، والتجهيزات والمستلزمات اللوجستية كافة، فترة بقائهم في دول اللجوء.
وفيما أُسست العشرات من الجمعيات والمنظمات الحقوقية والإنسانية والتّي تلقت التّمويل على مدى السنوات الإثنتي عشرة الأخيرة، وتدخل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ودعمها الموصول، لم تحرك السّلطة اللبنانية ساكنًا (السّلطة ذاتها التّي لم تعترف باللجوء السّوري ولم توقع أي اتفاقية بهذا الإطار) بل تركت الملف فريسةً للتجاذبات والتناحر السّياسيّ، وفيما استغلت بعض الفرق السّياسيّة اللجوء السّوري كورقة ضغط على خصومها، وفيما لم تفضِ محاولاتها المستمرة سوى لخسارتها مع استفحال الأزمات أواخر سنة 2019، برز خيار التجييش الوطني وشحن “العنصريّة” الفضائحية ضدّ اللاجئين كشماعة لتبرير الأزمات.
مع استفحال الأزمات أواخر سنة 2019، برز خيار التجييش الوطني وشحن “العنصريّة” الفضائحية ضدّ اللاجئين كشماعة لتبرير الأزمات
وهذه الادعاءات قابلتها الآراء القانونية والسّياسيّة والحقوقية والتحقيقات الإعلامية التّي دحضت مساعي السّلطة اللبنانية بشقيها السّياسيّ والمصرفيّ، إذ اتهم تحقيق أجرته وكالة “رويترز” البنوك اللبنانية بابتلاع ما لا يقل عن 250 مليون دولار من أموال المساعدات الإنسانية الأممية المخصصة للاجئين في البلاد، منذ قرابة العامين, فيما أكدّ في التحقيق, مسؤول عن المساعدات الأممية، ودبلوماسيان أن ما يتراوح بين ثلث إلى نصف المساعدات المالية التي قدمتها الأمم المتحدة إلى لبنان “ابتلعتها البنوك منذ بدء الأزمة في 2019″. وأضاف المسؤول عن المساعدات الأممية أن البنوك اللبنانية صرّفت الدولار بسعر أقل بأربعين بالمئة من سعر السوق السوداء خلال 2020 والشهور الأربعة الأولى من العام الحالي، وورد في وثيقة اطلعت عليها “رويترز” أنه بحلول يوليو/ تموز 2020، فقدت نسبة تبلغ 50% من المساعدات المخصصة للبنان في البنوك خلال عمليات التصريف من الدولار إلى الليرة اللبنانية.”
عبرت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تقاريرها السّابقة عن قلقها إزاء الممارسات التقييدية والتدابير التمييزية التي يجرى تفعيلها على أساس الجنسية، هذا القلق الذي بدأت أسبابه تظهر تباعًا في المشهد اللبناني اليوم. أما في المشهد البقاعي حيث احتوت منطقة بعلبك – الهرمل العدد الأكبر من اللاجئين السّوريين، فينسحق سكانها تحت عجلة السّلطة الفاسدة التّي لم تعبأ قط بمطالبهم، بل همشت ميزات منطقتهم الطبيعية والزراعية لصالح تحاملها وفسادها الفضائحي، بإقصائها المتعمد للمنطقة وسكانها وارتهانها لسلطة الأمر الواقع. وباتت معالجة شؤون البقاعيين بحلول سطحية وترقيعية مصدرًا لتبرم السكان، فضلًا عن إهمالها اللاجئين السّوريين، الذين استفادت من أزمتهم على كل الصعد، وجعلتهم رهينة عنصرية المقيمين.