نازحو الأرياف ودورهم في صنع المشهد الثقافي لبيروت

تستعاد النهضة الثقافية التي تميزت بها بيروت بين ستينيات وسبعينيات القرن العشرين المنصرم، كإحدى العلامات الفارقة في تاريخ المدينة. وليس عسيراً على المطلعين على الصحف والمجلات والدوريات ومواد النشر الأخرى، أن يتعرفوا على الأسباب والروافد التي ساهمت في تكوين هذه النهضة، فالأسماء التي لمعت وبرزت في الحقبة المذكورة تدلنا الى أن أسباباً داخلية وخارجية أكسبت هذه المدينة هويتها المتميزة ومركزيتها الثقافية ليس بين المدن اللبنانية فحسب، بل بين العربية أيضاً.

يُعد النزوح الريفي فاعلاً في نمو الحياة الثقافية في المدينة المتوسطية، وقد كان عاملاً مساهماً في تعزيز مركزيتها. فوفقاً للمسح الذي اجرته بعثة إرفد في حقبة الرئيس فؤاد شهاب في العام ١٩٦٣ والتي كشفت فيه عن سوء الخدمات الذي كانت تشهده معظم القرى آنذاك (لا طرق ولا مياه ولا كهرباء ولا هاتف ولا مدارس ولا حتى مستشفيات). كانت الأرياف اللبنانية وقتها تخوض معاركها مع بقايا الإقطاع. حدث ذلك بالتوازي مع نشاط الأحزاب اليسارية والقومية التي انخرطت فيها شرائح واسعة من أبناء الأرياف متسلحين بأيديولوجياتها لمواجهة الظلم والقهر والفقر وانعدام العدالة الاجتماعية التي كانت تحيط بنواحي حياتهم.

النزوح إلى بيروت

أما بيروت التي كانت تشهد نمواً في معظم مرافقها السياحية والاقتصادية والخدماتية والثقافية والمؤسساتية، فكانت وجهة لأبناء هذه الأرياف، وقد نزحوا اليها ألوفاً مؤلفة، ووجدوا في مدارسها وجامعاتها ومقاهيها ودور النشر فيها والمسارح والنوادي الثقافية، ما يلبي حبهم وتطلعهم للمعرفة والثقافة والانفتاح، فبرز منهم الأكاديمبون والشعراء والفنانون التشكيليون والروائيون والباحثون والصحافيون في مختلف المجالات.

أبناء الأرياف نزحوا إلى بيروت ألوفاً مؤلفة، ووجدوا في مدارسها وجامعاتها ومقاهيها ودور النشر فيها والمسارح والنوادي الثقافية، ما يلبي حبهم وتطلعهم للمعرفة والثقافة والانفتاح

يضيق المجال هنا للغوص في الدور الذي شغله أبناء الأطراف اللبنانية بالتفصيل، والذي أغنى مدينة بيروت طيلة حقبة السلم الأهلي وما بعدها حتى تسعينيات القرن العشرين، يأتي ذكر عدد منهم حصراً هنا، من باب الإشارة وليس من باب التخصيص وهم كثر:

وجيه كوثراني، منذر جابر، ابراهيم بيضون، علي زيعور، مصطفى حجازي، فهمية شرف الدين، وضاح شرارة، أحمد بيضون، عزة شرارة، أنيسة الأمين، يسرى المقدم، حسين قبيسي، منى فياض، خيرية قدوح، كريم مروة، حسن قبيسي، عبد الله ابراهيم، عادل فاخوري، منى بيومي حجازي، جورج كتورة، حسن حمدان (مهدي عامل)، يمنى العيد، موسى وهبة، جبور الدويهي، جاك قبانجي، نظير جاهل، حسن الضيقة، طراد حمادة، زاهي ناضر، محمد العريبي، عبد المجيد زراقط، خليل أحمد خليل، سعود المولى، عصام خليفة، وغيرهم الكثير مما يضيق المجال لذكرهم هنا.

الفنانون التشكيليون: نزار ضاهر، شربل فارس، إضافة الى بيوتات اشتهرت في مجالها الفني رفيق شرف، محمد شرف، فرقة كركلا، وآل البعلبكي: عبد الحميد بعلبكي وفوزي بعلبكي، وأبناء الأخيرين أيمن وأسامة ولبنان وسمية.
الشعراء: طلال حيدر، شوقي بزيع، عباس بيضون، موسى شعيب، وال العبد الله الذي برز منهم عدد من الشعراء: حسن. خ. عبد الله. حسن م. عبد الله عصام العبد، ومحمد العبد الله، فادي العبد الله، والياس لحود، جودت حيدر، لامع الحر، جوزيف حرب، وجودت فخر الدين.
في المسرح: رفيق علي أحمد، يحي جابر، حنان الحاج علي، نضال الاشقر. روجيه عساف وغيرهم.
روائيون وروائيات: محمد ابي سمرا، حسن داوود، ليلى بعلبكي، علوية صبح، حنان الشيخ، الهام منصور، جواد صيداوي، اميلي نصر الله، لطيفة الحاج، وصحافيون ومن بينهم: رياض طه، طلال سلمان، حازم صاغية وآخرون.

إغناء المشهد الثقافي

وقد ساهم المذكورون وغيرهم في نمو المشهد الثقافي وإغنائه، ووصل الأمر الى حد أن ابناء الأرياف شكلوا مركزية ثقافية أكاديمية فنية متنوعة كان مجالها الجامعة اللبنانية وتحديداً كليتا التربية والآداب اللتان شهدتا سجالات ثقافية وفكرية لا زالت تستعاد حتى يومنا هذا.

أبناء الأرياف شكلوا مركزية ثقافية أكاديمية فنية متنوعة كان مجالها الجامعة اللبنانية وتحديداً كليتا التربية والآداب اللتان شهدتا سجالات ثقافية وفكرية لا زالت تستعاد حتى يومنا هذا

عكس الزخم الثقافي الذي عاشته بيروت، في حقبة السلم الأهلي أثره في الذاكرة الجمعية العربية والعالمية، ففي العام ١٩٩٩، اختارت منظمة اليونسكو بيروت، «عاصمة للثقافة العربية» وقد جاء هذا الإعلان بمثابة اعتراف بالدور المهم الذي تميزت به المدينة في ستينيات القرن العشرين وفي حقبات أخرى تلتها. كما أعلنت منظمة اليونيسكو أيضاً في العام ٢٠٠٩، بيروت عاصمة عالمية للكتاب، بعد أن نافسها على هذا الموقع عدد من الدول مثل تايلاند وافريقيا الجنوبية وبانكوك وكيب تاون وكازان وروسيا.

لم يكن الإعلانان المذكوران ليشكلا دليلاً وحيداً على دور بيروت الثقافي الذي امتد على نحو ثلاثين عاماً، وان كان هذا المناخ قد شهد تقطعاً خلال سنوات الحرب الأهلية، الا أنه حظي باستعادة كثيفة في عدد من الصحف والمجلات والمنتديات التي سلطت الضوء على أهميته وعناصره وروافده، ومن بينها تلك الوافدة من الأرياف.

في نهاية تسعينيات القرن العشرين، شهد المناخ الثقافي في بيروت، تشتتاً بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية التي حلت بلبنان، وقد تلازم هذا الأمر مع انسحاب العدو الاسرائيلي من جنوب لبنان في العام ٢٠٠٠، الا أن ذلك لم يكن حافزاً لتشكيل مناخ ثقافي بديل في الأطراف اللبنانية، وقد بقي معظم القرى يفتقر الى نشاطات تندرج في إطار الفنون مثل المسرح او الشعر او الأدب، ما خلا عدد من المنتديات التي مضى على تأسيسها زمن طويل نسبياً ومن بينها على سبيل المثال، مجلس بعلبك الثقافي والمجلس الثقافي للبناني الجنوبي في مدينة النبطية، أما النشاطات الأخرى المتفرقة، فقد اقتصرت في غالبيتها على مبادرات فردية، وافتقرت الى البرامج المستدامة، ما أدى الى عدم تشكل هوية خاصة لأي منها، ولم يكتب لها الاستمرار.

معمودية الثقافة في بيروت

على ما ذكر، شكلت بيروت في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين مركزيتها الثقافية، بل أصبحت كمعمودية وجب على كل شاعر او كاتب او روائي او باحث او صحافي ان يمر فيها لينال اعتراف الوسط الثقافي العربي آنذاك. الا أن ثمة سؤال ينبري حيال هذه المركزية لبيروت التي كان النازحين من الأرياف فاعلين فيها، وهو هل كانت الشرائح الشبابية لو بقيت في قراها وبلداتها لتؤسس أي مناخ ثقافي فيها؟ أم أن بيروت هي المعمودية التي كان لا بد لهؤلاء أن يمروا فيها ليحققوا ما حققوه من انجازات ثقافية واكاديمية؟ والجواب على هذا السؤال واضح وضوح الوثائق والدراسات التي أنجزتها بعثة إرفد في ستينيات القرن العشرين والتي كشفت عن افتقار معظم قرى الريف آنذاك الى ابسط مقومات العيش والخدمات فكيف بالثقافة التي كانت تعتبر ترفاً في ذلك الزمن؟.

أصبحت شوارع بيروت ومنابرها الثقافية كمعمودية وجب على كل شاعر أو كاتب أو روائي أو باحث أو صحافي أن يمر فيها لينال اعتراف الوسط الثقافي العربي آنذاك

إن ما ذكر، يعكس ما يعكس من أوجه الحرمان الذي عانت منه الأطراف اللبنانية على مستويات عدة، كما يعكس أيضاً عدم التوازن في الإنماء بين المناطق اللبنانية الذي يعود تاريخه إلى زمن بعيد، ما جعل الفروقات بين الريف والمدينة فادحة وشاسعة، الأمر الذي يستبعد معه أيضاً امكانية خلق حياة ثقافية ذات دينامية في تلك الأطراف.

حنين القرى

والحال، بقيت بيروت، رغم انفراط عقد العديد من المؤسساات الثقافية والإعلامية والأكاديمية والفنية، موئلاً لعدد كبير من المثقفين والفنانين والشعراء، فمن بيروت كتب حسن العبد الله الذي فارقنا منذ وقت ليس ببعيد، قصيدته الشهيرة عن محلة الدردارة في بلدته الخيام، كما تغزل شوقي بزيع من بيروت بسحابات الغيم التي ترفرف في سماء قريته زبقين، ولم يكف عصام العبد الله في شعره من ذكر حنينه الى بلدته الخيام، عبر أثير المقاهي البيروتية التي لم ينقطع الشاعر عن التردد اليها ولو ليوم واحد.

بدورها، كتبت علوية صبح في بيروت، روايتها «مريم الحكايا»، التي تذخر بذاكرة معيش أهل الجنوب اللبناني والتحولات التي طرأت على حياتهم، كما فعلت ابنة بلدة ارنون الروائية حنان الشيخ في روايتها «حكاية زهرة».

هكذا خلت قرى الأطراف من نشاط ابنائها المثقفين الذين لم يبخلوا بالكتابة عنها يوماً في أدبياتهم، التي بقيت شريط حنين ممتد بين هذه القرى وبيروت التي بقيت بدورها ملاذاً لهم كما كانت عشية وفودهم اليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى