حكايات المسحّر.. رشق حجارة وتجوال بالحمار ورنّ الجرس

لم يعرف الجنوبيين ذلك المسحّر المرسوم في الاعلانات الرمضانية، بشاربيه المعقوفين، وطربوشه الأحمر، وعبائته الطويلة المذهّبة، وطبلته التي يثبتها حول خاصرته، ليطرق عليها بعود صغير. كانت هذه شخصيّة أقرب ما تكون إلى الواقع البيروتي، حيث كانت تقوم دار الفتوى، بتوظيف هؤلاء الاشخاص، وتقسيم نطاق عملهم الليلي وفق برنامج مرسوم هندسياً.

المسحر الصيداوي محمد موفق محمود فنّاس، مواليد عكا ١٩٤٥ (الصورة في صيدا العام ٢٠٠٨، تصوير كامل جابر)

لقد شاهدتُ هذه النماذج من المسحّرين بأمّ العين في منطقة الحمرا، حين كنّا نفرّ من القصف في الشياح، لاجئين إلى منزل شقيقي الأكبر، في هذا المكان البرجوازي من رأس بيروت.
 في الشياح لم نعرف المسحّر الواحد، بل فرقة من المسحّرين، وكانوا من الرفقة المشاكسين المعروفين في الحيّ بصفتهم زعران المنطقة، فيتجوّلون ليلاً ليقوموا بأداء دور دينيّ، لا يخلوا من بصماتهم الخاصّة، إذ يحملون آلات عديدة، مثل الأكورديون، والطبلة، والدف، والصنوج! كانت نداءاتهم تشبههم أيضاً، فيطلقونها هازئين: “قوم يا أبو غازي عن المخدّة، حتى ما نطلعلك بالمهدّة”.

بعدها عرفنا ان عيون الشبيبة مصوّبة على العيديّة صبيحة العيد، حيث يحملون الطبلة بشكل مقلوب، لترتفع فوهتها نحو الأعلى، فيفهم سكان البيوت مرادهم، ليسقطوا النقود في قعر الطبلة.

بعيداً عن الضباع

قبل أربعين، أو خمسين سنة، أي قبل التسحير بالميكروفونات، ومنبهات التليفونات، كان لكل قرية مسحّرها الخاص، لباسه يشبه باقي السكّان، ولا يميّزه إلّا تلك التنكة التي يضرب عليها بقضيب خشبيّ نحيل، مردّداً الهتاف عينه: “يا نايم وحّد الدايم. قوموا على سحوركم، إجا رمضان يزوركم”. وبين البيت والآخر، كان يقف منادياً ربّ الأسرة باسمه، وفي أحيان، لا يبرح مكانه حتى يُشعَل قنديل الكاز، أو الشمعة، فيعرف أن الجماعة قد استيقظوا.

كانت القرى صغيرة، وبيوتها قليلة، وكلّها محتشدة في أماكن متشابكة، تكاد جدرانها تتكئ على بعضها. لهذا لم يكن المسحّر يخاف من أي خطر قد يداهمه، والأمر كان يستحق الخوف إذا ما كانت حركته أبعد عن تلك البيوت، حيث الضباع، والذئاب، والكلاب.

كان المسحّر في القرى يقف منادياً ربّ الأسرة باسمه، وفي أحيان، لا يبرح مكانه حتى يُشعَل صاحب البيت قنديل الكاز، أو الشمعة، فيعرف أن الجماعة قد استيقظوا




جرس سانتا كلوز

بالاضافة إلى التنكة التي كان يطرق عليها، يستعين مسحّر طيرفلسيه بالحجارة التي يرشقها على بعض الابواب ليتيقّن ان سكّان بعض البيوت قد غادروا فراشهم، وغالباً ما يكون الأمر نتيجة توصية خاصة، يطلبها صاحب البيت من المسحر، في أول الشهر.

في بلدة ميس، شذّ المسحّر أحمد عسّاف عن المعتاد، ليحمل في يده جرس، لينبّه فيه الناس، مثل ذلك الذي يحمله سانتا كلوز، حين توزيعه للهدايا. كان عسّاف حلّاقاً في الايام العاديّة، كما كان يقدّم القهوة للمعزّين في الحسينية. فغالباً ما يكون المسحّر ذو شخصية مرنة، متفاعلة مع أنشطة البلدة، لتتعدّد أدواره على حسب المناسبات، مثل مسحّر بلدة أنصار داوود نوفل، الذي ينصب الأراجيح في الأعياد، ويصبح دلّالاً للسائلين الزائرين للنبطيّة.

أبو حلاوة وحماره

للنبطيّة مسحّرها الخاص، هو أبو حلاوة، الذي يطرق على التنكة، ويجوب الشوارع والحواري، قبل أن تتمدّد، فتتشعب البيوت، وترتفع الأبنية. مع الوقت، كبُر أبو حلاوة في السن، وصار يركب حماره للتنقل عبره، والمناداة بأعلى صوته، دون أن يتخلّى عن تلك التنكة. لكن هذا الرجل استطاع تكريس جملته الخاصة، التي ينطقها بتنغيم خاص: “أبو حلاوة ينادي، في كل دارِ دار. قوموا على سحوركم…”، وهي من الحالات النادرة التي يعرّف فيها المسحّر عن اسمه، ليصنع شهرته، ويرسّخ حضوره في الأذهان، وهو ما كان يزيد الهالة السحرية حول شخصيّة المسحّر، خاصة عند الأطفال الذين يستيقظون بعد منتصف الليل، ليسمعوا الصوت، ولا يشاهدون صاحبه، لتبدأ المخيّلات بنسج صورة ذلك الكائن الأسطوري، بل في مرّة، قام أحد المهندسين القاطنين في بلدة البيسارية، بتهيئة أولاده الصغار، عبر إلباسهم ثياب الخروج، ليصطحبهم، حتى يعاينوا المسحّر، ويتأكدوا من حقيقته البشريّة!

مدينة النبطية في الليل (تصوير علي مزرعاني)
بلدة بلا مسحّر

في تلك الأيام لم تكن زوطر الغربيّة بحاجة إلى مسحّر، كونها بلدة صغيرة جدّاً، فيقوم بالدور شيخ الجامع، الذي يعتلي السطح، ويدور حول القبّة، منادياً للاستيقاظ للسحور، في أكثر من جهة. هكذا بلا ميكروفون، أو أي وسيلة مساعدة، وكان على المستيقظ أولاً، بالنقر على زجاج بيت جاره، فإلى هذا الحد كانت المنازل متجاورة.

هذا على عكس مدينة جنوبية مثل صور، حيث كان لها مسحّرها “الرسمي” الذي يشبه ذلك البيروتي، والصيداوي، وصولاً إلى باقي مسحري الساحل الفلسطيني. من بعد ذلك المسحّر، تضافر مجموعة من الرفاق الصوريين، من سنّة المدينة، وشيعتها، وراحوا يسحّرون باسلوب احترافي، ومنتظم، فيردّدون المدائح، والأناشيد الدينية، ثم اضطرّوا لأن يتفرّقوا مع الزحف الاسمنتي المتسارع، ليغطّي كل مسحّر منهم، ناحية من صور.

المسحّر السكران

ما مِن قانون يفرض دفع الأجر للمسحّر على جولته الليلية التي تستمر بلا انقطاع لأربعة أسابيع. غير ان العرف يقتضي تقديم هدية امتنان للمسحّر، عند مساء آخر ليلة صيام، أو صبيحة العيد، وكانت في السابق العيديّة متنوّعة بين النقدي والعينيّ، إذ يجود البعض بحفنة من الحبوب، أو ما شابه من مزروعات الأرض، وهذه لم تكن آلية خاصة، بل نمطاً شائعاً ضمن يوميات البيع والشراء في القرى.

مع ذلك، في بعض البلدات، مثل طيرفلسيه، لم يكن المسحّر يتقاضى أجراً، فالكل يعلم انه يقوم بذلك تقرّباً لله. لكن الأمر لا يخلو من بعض الطرائف والمفارقات، حيث ان المسحّر في إحدى البلدات كان من السكارى المعروفين، فيجمع العيديّة التي يتلقاها على جهده، ليعود ويشتري فيها بطحات من العرق البلدي!

المسحّر في إحدى البلدات كان من السكارى المعروفين، فيجمع العيديّة التي يتلقاها على جهده، ليعود ويشتري فيها بطحات من العرق البلدي

إشارات

في التراث الديني، يقال ان المؤذن الأول في الاسلام، بلال بن رباح، هو أيضاً أول من أيقظ الناس للسحور، بينما أوّل من نادى بالتسحير هو عنبسة بن اسحاق، أمّا أهل مصر فهُم أول من سحّر بالطبلة، في حين اعتمد أهل اليمن والمغرب العصي الطويلة ليطرقوا الابواب من خلالها، بينما تميّز أهل الشام بالتسحير بواسطة العزف على المزامير، والطنابير، يرافقها الانشاد. هذا وكان الفانوس، رفيق المسحّر حتى وقت قريب، حيث كان الظلام حالك، وما من إمكانية للرؤية، لتفادي الحفر أو المطبات، إلّا اذا كانت ليلة مقمرة.

في ايامنا هذه، تحوّلت ميكروفونات المساجد، والسيارات، أدوات تسحير، ليصبح الأمر ضوضاء بلا حنين، ولا خيال يرسم ملامح صاحب الصوت القادم من حلكة الليل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى