الجنوبي حسن عمّار العازف وصانع الأعواد
دخول المعهد العالي للموسيقا لم يكن مثل خروجه بالنسبة لابن بلدة زوطر الشرقيّة في قضاء النبطية حسن عمّار. فهو التحق بالمعهد بهدف دراسة العزف بعد شراء آلة عود تجاريّة، تخرّج منه عازفًا وملحّنًا ماهرًا، ولكن ممتعضًا بشدّة من نوعيّة الآلات التجاريّة الرديئة التي كان يعزف عليها، وكانت تسبب له عديدًا من المشاكل، لتبدأ قصّة تأسيس مشغله الخاص في إنتاج الآلات ذات الجودة العالية والمتينة.
بات “عمّار لصناعة وصيانة آلة العود والبزق” اليوم وجهة أساسيّة لزبائن آلة العود من الجنوب إلى كل لبنان، ومنه إلى العالم العربي والعالم، على مختلفهم، بدءًا من الهاوي مرورًا بطلّاب المعاهد الموسيقيّة وصولًا إلى المحترفين والفنّانين من كلّ بقاع الأرض. ليكون حلمه الصغير الذي بدأ من حقل الزيتون في الفناء الخلفيّ لمنزله في زوطر الشرقيّة، مكانًا لصناعة الألحان وتصديرها إلى كلّ مكان.
بلد مقبرة المبدعين
يعبّر “حسن عمّار” عن واقع صعب يواجهه في صناعة آلة العود وكذلك الموسيقا بشكل عام في خلال حديثه لـ”مناطق نت” إذ لا يمكن إنكار التأثير السلبي القويّ لأزمات هذا البلد التي تبدو وكأنّها أبديّة، والتي تشبه بشكلها العلائقيّ، علاقة سامّة مع شخص نرجسيّ يمنع الآخرين من النموّ والتطوّر والتقدّم.
يشكو عمّار من التحديات الكثيرة التي تواجه صناعة آلة العود بشكل عام. فلكي تتمّ عمليّة الإنتاج يحتاج إلى استيراد الأخشاب والموادّ الأوّليّة مثل الأوتار ومفاتيح العود، وهي كلّما ارتفعت تكاليف استيرادها ارتفعت معها تكلفة إنتاج عود واحد لدى الحرفيّين أمثاله، هذا الأمر يدفع الناس إلى تجنّب شرائه واعتباره من الكماليّات أمام تأمين أساسيّات الحياة، حتّى لو كان ذلك على حساب موهبة الفرد. يقول عمّار معلقًا على هذا الأمر: “مشاكل البلد وأزماته التي لا تنتهي هي أكبر عائق أمام أيّ إنسان مبدع”. ويضيف: “بلدنا مقبرة المبدعين”.
من جانب آخر، يشكّل تزايد استخدام المكننة والآلات التجاريّة تحدّيًا إضافيًّا، فهذه الآلات قادرة على إنتاج ما بين 100 إلى 200 آلة عود تجاريّة في الشهر، بينما يقوم صانع محترف بصناعة آلة واحدة أو اثنتين فقط في هذه المدّة. هذا الواقع يجعل المنافسة غير عادلة بالنسبة للصانعين التقليديّين، فيكون سعر الآلة لديهم أغلى من تلكم التجاريّة. يعدّ هذا الأمر بالإضافة إلى الظروف الاقتصاديّة الصعبة، سببًا واضحًا للجوء الشباب إلى شراء الآلات التجاريّة التي تتوافر بأسعار متهاودة، ما يؤثّر في سوق العرض والطلب على العود التقليديّ المصنوع يدويًّا.
كذلك، تزايدت صعوبات الإنتاج بشكل كبير منذ بداية أزمة انتشار فيروس كورونا، وتفاقمت المشاكل بسبب الانهيار الاقتصاديّ وأزمة تدهور الليرة اللبنانيّة بشكل خاص. بالإضافة إلى ذلك، تتأثّر العمليّة الإنتاجيّة بشكل سلبيّ جرّاء أزمة الكهرباء التي تعاني منها البلاد.
يشكو عمّار من التحديات الكثيرة التي تواجه صناعة آلة العود بشكل عام. فلكي تتمّ عمليّة الإنتاج يحتاج إلى استيراد الأخشاب والموادّ الأوّليّة، وهي كلّما ارتفعت تكاليف استيرادها ارتفعت معها تكلفة إنتاج عود واحد لدى الحرفيّين
إيه.. في أمل
وبما أنّ الحديث عن الموسيقا، لا يمكن إلّا أنّ نستحضر الجملة الشهيرة من أغنية السيدة فيروز “إيه… في أمل”، التي تقدّم لنا دائمًا رسالة واضحة عن أنّ هناك دائمًا أملًا على رغم كلّ الظروف الصعبة. لذا، وعلى الرغم من الصعاب والأزمات، يعبّر عمّار عن فرحته بالاهتمام المتزايد بآلة العود والموسيقا في الآونة الأخيرة في الجنوب من قبل فئة الشباب، حيث يلاحظ أخيرًا ازديادًا في عدد الأشخاص الذين يقصدونه ويتردّدون إلى مشغله لشراء الآلات الموسيقيّة. هذا الأمر يعطيه أملًا بأن للموسيقا مساحة ومكانة في الجنوب، وأنّ هناك اهتمامًا مرتفعًا بهذا الأمر في المنطقة. حيث يعلّق قائلًا: “باتت الموسيقا اليوم جزءًا من بعض المناهج الدراسيّة، وهذا أمر لم يكن مألوفًا في الماضي”.
مراحل صناعة العود
تعتبر صناعة العود فنًّا قديمًا يتطلّب العديد من المهارات والخبرات، وتختلف تفاصيلها قليلًا بين صانعي العود المختلفين. ربّما تكون هناك اختلافات في العملية الفنّيّة الدقيقة لكل صانع عود، وذلك يتوقف على الأساليب والتقنيّات المستخدمة وتفضيلات الصانع والزبون. يقدم عمّار خطواته التي تتقاطع مع صانعي العود في معظم مراحلها.
“تبدأ العمليّة برسم نموذج مفصّل للعود، حيث يتمّ تحديد الأبعاد والمسافات وفقًا لرغبة الزبون. يلي ذلك تجهيز وصناعة القالب المطلوب. ثم يأتي اختيار الأخشاب، وهي عمليّة مهمّة تتطلّب استخدام أخشاب صلبة متمايزة وخالية من الزيوت والرطوبة” يقول عمّار.
من ثم، يضيف عمّار: “يتمّ تشريح الأضلاع وتشكيلها على نار هادئة، بطول 70 أو 72 سنتيمترًا وعرض 4 سنتيمترات محدّدين وسماكة تتراوح بين 2، 3 أو 4 مليمترات، يتوافق مع نوع العود المصنوع. هذه العملية حسّاسة جدًّا، حيث يلزم أن تكون الأضلاع مقوّسة بالشكل نفسه لتركيبها بشكل صحيح بهدف تكوين الصندوق الرنان”.
وبحسب عمّار “يتبع ذلك عمليّة إزالة الشوائب والتقليل من سماكة الخشب، وهي الخطوة الخامسة. ثمّ تتمّ صناعة وجه العود باستخدام أنواع محدّدة من الخشب، مثل خشب الأرز وخشب الشوح. يليها وضع جسور داخليّة للوجه بغية تثبيته في الصندوق الرنّان وتوزيع الصوت بشكل صحيح، ويتمّ زخرفة الوجه وفقًا لرغبة الزبون وذوقه”.
تأتي بعد ذلك “مرحلة بناء زنذ العود أو Finger Board، ثمّ يتمّ جمع مختلف الأجزاء معًا في العود، لتأتي لاحقًا مرحلة الطلاء، وبعدما يجفّ تمامًا يتمّ تركيب الأوتار، ثمّ ضبط الأوتار وفحص العود بدقّة للتحقّق من عدم وجود أيّ نقص أو عيب يستدعي التصحيح:” يكمل عمّار.
ويؤكّد أنّه في حال اجتياز العود جميع التجارب والفحوصات بنجاح، “يتم عندها تسليمه إلى الزبون في لبنان أو في خارجه، ليستمتع به ويستخدمه للعزف على آلة العود”.
هذه الخطوات الدقيقة والمفصّلة تبيّن أن عمّار يتّبع عملية دقيقة ومتقنة في تصنيع العود، حيث يولي اهتمامًا كبيرًا للتفاصيل وجودة المواد المستخدمة والصوت.
لمسة خاصّة لجودة عالية
تعتبر متانة العود مؤشّرًا مهمًّا لجودته، وتقاس هذه المتانة أيضًا بواسطة زنده، أيّ المكان الذي يضع فيه العازف أصابع يده اليسرى. يمكن أن يتعرض الزند للتلف مع مرور الوقت، ممّا يولّد مشكلة للعازف. لذا، اتّخذ عمّار خطوة جريئة، حسبما صرّح، إذ قام بتثبيت واستخدام برغيّ قطره ثمانية ميلمترات بدلًا من البرغي القياسيّ الذي يبلغ قطره ستّة ميلمترات.
تهدف خطوة الحرفيّ الماهر حسن عمّار إلى تعزيز قدرة العود على تحمّل ضغط أكبر وتحسين جودته. وتأكيدًا لقناعته في خطوته هذه، يقول في نهاية اللقاء: “كانت هذه خطوة جريئة من جانبي، ولست واثقًا إذا كان هناك ثمّة شخص آخر قد سبقني إليها وقام بتنفيذها، لكنّني اتّخذت هذا القرار من جانبي كي أضمن تقديم عود لزبائني يتمتّع بجودة عالية”.