الحمرا: تعقيم السهر بال”pub” الثقافي..فن وشعر وخمر – زهير دبس
مع تزايد ظاهرة انتشارها وتكاثرها وتعدُّد أسباب ذلك الانتشار، يبقى للمقاهي وجهة واحدة تندرج تحت عنوان الاجتماع العام مع كل ما يحمله هذا الاجتماع من تنوع تفرضه طبيعة الناس واهتماماتها، وإذا كان البعض يعزي سبب انتشار المقاهي إلى تفشي البطالة واستفحالها حيث تشكل المقاهي مكاناً مثالياً لتمضية الوقت، يعزي آخرون السبب إلى أن المقاهي تتبلور هوياتها تبعاً لأهواء الناس ومتطلباتها. وإذا كانت الصورة النمطية الأكثر رواجاً للمقاهي التي تفتتح أبوابها تباعاً هي صورة المقهى الذي يقدّم النرجيلة ولعب الورق والسهر ومتابعة مباريات كرة القدم، فإن ظاهرة استقطاب بعض المقاهي المحدودة للأنشطة الثقافية والفنية الهادفة يؤشر إلى تعطش شريحة معينة من الناس إلى أنواع أخرى من الاهتمامات وتمضية الوقت، مع التذكير أن الظاهرة الأخيرة ليست جديدة بل مستعادة وهي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بهوية المقاهي التي شكّل شارع الحمرا تحديداً نموذجاً لها، فالعديد من الأعمال الأدبية والفنية والثقافية على أنواعها وُلدت من رحم طاولات وكراسي مقاهي ذلك الشارع ومنذ عشرات السنين، ولتلك الأعمال حكايا لا زالت تلك الكراسي والطاولت تحفظها جيداً. ومن النادر بمكان أن تجد شاعراً أو مثقفاً أو أديباً أو صحافياً لم يتعمّد بأجواء تلك المقاهي أو لم يمرّ بها، وإذا بالغنا القول فإن مقاهي الحمرا شكّلت على الدوام ممراً إلزامياً لأولئك الشعراء والصحافيين والكتاب.
تبدّلت صورة المقهى بين الأمس واليوم حيث فقدت الكثير من هويتها وصورتها النمطية التي كانت سائدة سواء كمكان لتمضية الوقت أو كمكان للثقافة والفن. جاء ذلك تلبية لمتطلبات ولأذواق جديدة نسفت كلياً ما كان قائماً وأعادت بَلوَرة فكرة المقهى بشكل آخر من حيث الوجهة والاستقطاب والخدمات. التبدُّل أصاب شارع الحمرا ومقاهيه لكنه حافظ على خصوصية لا زالت تشكل بيئة حاضنة للمقاهي التي تحمل بعداً ثقافياً، لكن في الوقت نفسه لم يعد الشارع ولا مقاهيه أمكنة وحيدة يتعمّد بها المثقفون على اختلاف أنواعهم ومشاربهم.
وعلى الرغم من «مرثية المقاهي» التي تتكرّر من وقت لآخر عند إقفال مقهى ما يحمل طابعاً ثقافياً، لا يزال شارع الحمرا كمكان وكنموذج ملاذاً لشريحة كبيرة من الناس تجد فيه واحة ثقافية وفسحة حرية غير متاحة في شوارع وأماكن أخرى في لبنان، إذ لم يستطع ذلك التبدّل الكبير الذي طرأ على طابع الشارع من التأثير أو الانتقاص من صورته ومكانته لدى تلك الشريحة، وبالرغم من أفول نجم جزء كبير من مقاهيه وتحولها إلى محلات تجارية ووجهات أخرى إلا أن هناك العديد من المقاهي لا يزال يحتفظ بخاصيّة ثقافية تستقطب بعض محبي الثقافة والفن، ولا يزال الشارع أيضاً يشكل وجهة لمن يريد افتتاح مقاهي لها طابع ثقافي، فهو كما يردّد البعض بأنه مربعاً علمانياً قل نظيره في الشرق! ومكاناً مثالياً لمحبي الحياة والسهر.
بين المقاهي المتنوعة والمتعددة الألوان والهويات والتي تتوزع بين شرقي وغربي يحاول مقهى «أصحاب» الذي افتتح مؤخراً في شارع الحمرا تقديم إضافة جديدة لفكرة المقهى كمكان وكهوية، وذلك من خلال إحياء السهرات الثقافية والفنية التي تستقطب شريحة واسعة من الشباب الذين يحملون «هماً ثقافياً» ويفتشون عن فسحة تتيح لهم التعبير عن ذلك.
صاحب المقهى حيدر حيدر اليساري العتيق يقول «لشارع الحمرا بالنسبة لي ولجيلي مكانة خاصة، فهو يحمل طابعاً مميزاً على الصعد كافة، ومن النادر أن تجد مثيلاً له في لبنان، وهذا لم يأتِ من فراغ بل من مجموعة عوامل أهمها الصروح الكبرى التي نشأت فيه وفي شتى المجالات، والتي يسّرت للشارع سهولة صنع تلك الحيثية». يضيف: «أحاول من خلال المقهى إيجاد مساحة ثقافية تتضمن أنشطة فنية منوعة نسلط الضوء فيها على فنانين كبار تركوا بصمة في حياتنا. وإحياء هذه السهرات يكون في الغالب بالاشتراك مع الزبائن وهم بمعظمهم أصدقاء يحملون هذا الهم».
تتقلّص المسافة في مقهى «أصحاب» بين صاحب المقهى ورواده، من حيث المشاركة في إحياء الأنشطة وإبداء الرأي ونقاش الأفكار، وغالباً ما يتخلل تلك السهرات نقاشات ومداخلات ومشاركات فنية تؤدي إلى إغناء السهرات وإعطاء المقهى بعداً ثقافياً تفتقده مقاهٍ أخرى، وهو ما يعكس الحاجة الملحة لتلك الأماكن التي تتقلص يوماً بعد يوم.
يحاول حيدر من خلال مقهاه إعادة الاعتبار للمقهى الثقافي والارتقاء به ليتحول إلى « تفاعلي» مع كل ما تحمله تلك العبارة من غنىً يعتبرها حيدر حاجة ملحة لشريحة واسعة من الناس تبحث بلا هوادة عن أماكن تشبهها وغالباً ما تجد صعوبة في إيجادها. المقهى الذي أحيا سهرة فنية تكريماً للفنانة الراحلة صباح وتخللها كلمات ومداخلات واستعادة لأغاني صباح، عاد وأحيا أمسية فنية مع الفنان منير كسرواني الذي عزف على نايه وغنى فأبدع وأطرب الحضور. السهرة كانت تفاعلية بامتياز من حيث المشاركات إحداها للشاعر مصطفى سبيتي الذي أدهش الحضور بقصائده الرائعة وأخرى للشاعر سليم علاء الدين التي كانت مميزة أيضاً. السهرة الفنية تخللها شهادات بالفنان كسرواني من صديق عمره الصحافي هنري الكك الذي استعاد أبرز محطات رحلته مع كسرواني التي تعود لأكثر من أربعين عاماً وأيضاً لصديقه الفنان جورج دياب الذي تحدث بدوره عن طرائف ونهفات جمعتهما معاً أثناء رحلتهما الفنية.
«أصحاب» يستعد للمزيد من الأنشطة الفنية كما يقول حيدر، وهو يدعو إلى تضافر جهود أوسع من أجل تعزيز تلك المساحة الثقافية التي تزداد حاجتنا إليها يوماً بعد يوم، وهي كما يقول تنقلنا من الواقع الافتراضي الذي طغى بشكل كبير من خلال مواقع التواصل، إلى الواقع الحقيقي والذي يعتبره حيدر أكثر قرباً وجمالاً.
بين «ستاربكس» و«ة مربوطة» يتموضع حيدر في «أصحاب» وبالرغم من المسافة الجغرافية الملتصقة مكانياً بين الثلاثة، إلا أن تجربة «أصحاب» يعتبرها حيدر مختلفة شكلاً ومضموناً من خلال تقديم مساحة مميزة متخففة من أحمال وقيود ما تقدمه المقاهي الأخرى.