الخردة في لبنان.. ضحاياها الاطفال وارباحها للشركات
ازدهرت مهنة تجميع الخردة في لبنان بشكل غير مسبوق وأصبحت مهنة الذين لا مهنة لهم مع استفحال الأزمة الاقتصادية في لبنان وانعدام فرص العمل. تجميع التنك والحديد والبلاستيك وغيرها أصبحت مهنة يلجأ إليها كل من عاقبته ظروف الحياة.
رجال ونساء ومراهقون وأطفال وطلاب جامعات، أقبلوا على تجميع الخردة التي أصبحت “كنزًا” في ظلّ الأزمة. الملفت في المشهد، اجتذاب هذه المهنة الزهيدة الدخل، اعداداً كبيرة من الاطفال وخصوصا النازحين السوريين. وقد جاءت سوق العمل الجديدة فرصة سهلة لتحصيل رزقهم. حيث لا تتطلب كفاءات واختصاصات. هي سوق مفتوحة لكل محتاج، وكل من دفعه العوز إلى ارتضاء البحث في المزابل وأكوام النفايات عن قوت عيشه.
حكاية أطفال بين حاويات القمامة
“هذا على مقاسك” يصرخ منهل ابن الـ ١٣ عاماً لابن اخته حاتم وهو يحمل بنطال “الجينز” الذي عثر عليه في إحدى حاويات النفايات التي يعملون طوال النهار فيها بحثًا عن أي شيء صالح للبيع. لم تسع الفرحة منهل الذي لم يرَ منذ مدة طويلة سوى الخردة الملطّخة بغبار الشوارع وبقايا الطعام. بدءاً من الـ 6 صباحًا وحتى الساعة الـ 11 ليلا يعمل منهل ومعه 7 أطفال آخرين من أقاربه يعيشون جميعًا في منزل واحد يدفعون إيجاره بالتساوي فيما بينهم.
50 ألف ليرة لبنانية هو الحدّ الأقصى الذي يمكن أن يجمعه منهل وأقاربه بعد نقل الخردة وبيعها إلى بورة في برج البراجنة، واذا لم يكن هناك “بحبوحة” في الكمية يمكن أن يكون مردود سبعة عشر ساعة من العمل 30 ألف ليرة فقط. يشرح منهل “نبيع كيلو التنك أو الحديد بسعر يتراوح ما بين 3000 و3500 ليرة والبلاستيك بين 2000 و3000 ليرة، أما تنك البيبسي فالكيلو منها يباع بحوالى 13 ألف ليرة”.
تهافت هؤلاء الأطفال على دفتر كنت أحمله، وأخذوا يتسابقون على كتابة أسمائهم على الورق، ليثبتوا أنهم يتذكرون كتابتها بطربقة صحيحة، ويتمنون لو أنهم لا زالوا يتابعون دراستهم ليصبحوا أطباء أو مهندسين وبعضهم يرغب في أن يصبح طيّارًا ليلتقط أحلامه التي تناثرت في الهواء مع هبوب رياح الأزمة في لبنان. التسرُّب المدرسي كانت نتيجته الطبيعية حيث هم حالياً. يقول منهل “تركنا المدرسة في سوريا لمعاونة أهلنا، هم لا زالوا هناك ونحن جئنا للعمل في الخردة في لبنان”.
يختلف الأمر بالنسبة لـ فهد ابن الأربعة عشر عامًا الذي لا يرغب في تغيير عمله بعد أن فقد أحلامه التي تركها بين جدران مدرسته في سوريا، فمع سوء الأوضاع المعيشية اضطر للعمل في تجميع الخردة التي فقد معها شغفه وأمله بالعودة لمتابعة دراسته. يعمل فهد مع أخيه ماجد في منطقة صبرا بدون معدات ولا يملكون سوى كيس نايلون كبير يتناوبون على حمله في حال كان ثقيلًا، فهم لا يستطيعون استئجار عربة مصنوعة من الحديد مجددًا بعد أن سُرقت منهم مراراً من قبل شبان في المنطقة.
الخردة في لبنان.. تجارة من ذهب
على مرّ الأوقات قلة كانت تعمل في مهنة جمع الخردة في لبنان وهي ليست بمهنة، وهي إن صحّت فهي “مهنة المنسيين”. مؤخراً تنامت الشريحة التي تعمل بها وازداد الإقبال عليها بشكل ملحوظ. عن ذلك يقول أحد أصحاب محال تجميع الخردة في منطقة صبرا إن “الإقبال على المصلحة كبير جداً، إذ لم يبقَ أحد لم ينخرط بها أو يرغب بذلك في الفترة الأخيرة، الأمر الذي أدى لازدهار الأعمال بنسبة تصل إلى 30 % مقارنة بالعام الماضي، فسعر طن الحديد وصل إلى 700 دولار وطن التنك إلى حوالى 400 بينما وصل سعر طن النحاس إلى حوالى 6000 دولار”.
أضاف أن تجارة الخردة أصبحت كنزًا بعد أن كانت مهملة لسنوات، إلا أنّه حذّر من السرقات التي انتشرت مؤخرًا فيما يتعلق بالألمنيوم والنحاس وأغطية الريغارات بسبب سعرها المرتفع وعدم وجود تاريخ لانتهاء صلاحيتها، الأمر الذي دفعه إلى الامتناع عن شرائها وبيعها في متجره تفاديًا للمشاكل.
الخردة في لبنان بالأرقام
شكّلت تجارة الخردة في لبنان على مرّ السنوات الأخيرة مورداً مهمًا لناحية إدخال العملة الصعبة إليه، إذ بلغ حجم صادراتها نحو 300 ألف طن، تمّ تصدير 70 % منها عبر مرفأ طرابلس والباقي تم تصديره عبر مرفأي بيروت وصيدا. تساهم مهنة تجميع الخردة في تشغيل آلاف العائلات أغلبها في منطقة الشمال، وتحديداً النازحين السوريين. بلغت إيرادات لبنان جراء تصديره الخردة في السنوات العشرة الأخيرة نحو 2.3 مليار دولار، وكان على رأس تلك المواد الحديد والنحاس. في العام 2020 ارتفعت صادرات الخردة بشكل كبير مقارنة بالعام 2019، حيث بلغت 350 مليون دولار وسجلت خردة الحديد وحدها ارتفاعًا مقداره نحو 16 مليون دولار.
تهيمن على هذه التجارة شركات كبيرة تمتلك مستودعات ضخمة ومعدات حديثة ولها صلات قوية مع مستوردين في الخارج. تحصل هذه الشركات على الخردة من مؤسسات رسمية وخاصة، إضافة إلى مئات البُوَر التي تنتشر في مختلف المناطق اللبنانية. العمل في البُوَر يتم بأدوات بدائية وبعمّال من فئات عمرية مختلفة منهم أطفالًا يفتقدون لأي نوع من الحماية رغم المخاطر التي قد يتعرضون لها في عملهم.
بعد تجميع الخردة يتم فرزها حسب النوع في باحات مستودعات الخردة تمهيدًا لتصديرها بحرًا، وعلى وجه الخصوص إلى تركيا حيث يُعاد تدويرها وتصنيعها. قسم كبير ممن يعملون في جمع الخردة يجوبون الطرقات نهاراً وليلاً بسيارات نصف نقل صغيرة أو دراجات نارية تجر عربات لجمع الخردة، وغالباً ما نشاهدهم يفتشون في حاويات النفايات عن بقايا أدوات أهملها أصحابها ورموها بعيداً لتشكل مادة دسمة لجامعي الخردة الذين يلجأون أحياناً إلى شراء تلك المواد من أصحابها بأسعار بخسة.
شركات وعصابات
في صبرا يمتنع العمّال في البُوَر عن الحديث والإدلاء بأي معلومات تتعلّق بطبيعة عملهم، حيث يكتفي بعضهم بالتوضيح أنهم يوضّبون معادن ويبيعونها إلى مؤسسة كبيرة يملكها رجل يدعى أبو صالح شحرور. ويؤكد أ.ب أنه في ظل الأزمة يُقدم العديد من الناس على شراء قطع سيارات أو أدوات كهربائية من أصحاب البُوَر حيث يعمدون لإصلاحها فيما بعد.
جمع الخردة في لبنان شكل تنافسًا بين العاملين فيه والذي عادة ما يكون حامياً، ووفق المثل القائل ”اللي سبق شم الحبق” تشهد المهنة صراعات في مختلف المناطق غالباً ما تؤدي إلى بروز عصابات تتنافس فيما بينها للاستيلاء على المزابل. أضاف أ.ب “الأرباح لا تقتصر على عمّال الجمع بل إن أصحاب مستودعات التجميع تحقق أيضا أرباحًا طائلة ومعهم أصحاب شركات النقل والمرافئ”.
دائرة الأزمة الاقتصادية تتسع يوماً بعد يوم، ومعها دائرة الفقر والبطالة تتسع أيضاً. بات المواطن يفتّش عن أي شيء ليؤمن لقمة عيشه التي لم تعد متوفرة بسهولة. العديد من الناس كانوا يمتهنون مهنة جمع الخردة ويمارسونها سراً، حيث كانوا يجوبون الأحياء والمزابل ليلاً لجمعها بعيدًا عن أعين الأهل والأصدقاء. الآن أصبحوا غير مبالين يقومون بأعمالهم في عزّ النهار وهمّهم الأوحد تأمين قوت يومهم في بلدٍ يتحول شيئًا فشيئًا إلى أشلاءٍ متناثرة وإلى حطام أحلام غالباً ما يبقى عصياً على التدوير، فيصار لتصديره إلى الخارج.. إلى بلاد تتقن احتضان الأحلام.