“الخطاب الانتخابي” في البقاع .. كسر النمطية السابقة
مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي ربيع العام المقبل، تتركّز الاهتمامات حاليًا على تحضير “الماكينات الانتخابية” ورفع مستوى جهوزيتها بشريًا ولوجيستيًا، رغم البطىء الذي تتسم به حتى اللحظة، بانتظار أن تتوضح الصورة تمامًا وتنجلي غيوم “الارتباك” الذي يعيشه الجميع من دون استثناء، لتحديد معالم الخطوة الأولى..
تقف القوى السياسية اليوم أمام القواعد الشعبية من دون “خطاب سياسي” واضح، وهي تدرك أن خطابات المعارضة والموالاة أصبحت لغة “رثّة” لن تقدم أو تؤخر، فالعلاقة بين المجتمع والعملية الانتخابية تأخذ أوجهًا متعددة، ويجب معرفة تلك الأوجه بطريقة علمية دقيقة مبنية على التطورات التي شهدتها البلاد في السنتين الأخيرتين للوصول إلى فهم المرحلة، ثم افساح المجال لانتاج سياق لحل ما ترتب من مشكلات ..
البقاع (الأوسط والغربي) يقف أمام هذه الصورة بانتظار أن يسمع “الخطاب الانتخابي” الجديد، فحتى الأمس القريب كان من الممكن انتاج خطاب انتخابي تقليدي يرتكز على تسليط الضوء على أخطاء الفريق المقابل أو الفريق الحاكم، وتقديم سلة من الوعود المخملية للكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والإنمائية، أو تقديم برامج وخطط لرفع الغبن والإهمال اللذين ضربا هذه المنطقة من لبنان على مر السنوات والعهود ..
“انثروبولوجيا الانتخابات” أو بمعنى أدق تأثير اللغة على الحياة الاجتماعية، لذلك فإن انتقاء “الخطاب الانتخابي” حاليا يشكل معضلة قاسية لجميع القوى، فالناس حفظت كل العناوين عن ظهر قلب، ولم يعد ينطلِ عليها “البهارات اللغوية” ولا “العبارات الطنانة” ولا حتى أي نوع من التجييش الطائفي أو المذهبي أو حتى “العاطفي”، فما حصل من 17 تشرين الأول 2019 بدّل الكثير من المفاهيم، ووضع القوى السياسية أمام أزمة رسم معالم معاركها الانتخابية ..
لم يعد البقاع يقف الآن أمام المشهد المندثر (8 و 14 آذار)، ولم يعد البقاعيون يستسيغون الخطابات “الشعبوية الفاقعة” التي تنطلق من عملية تضليل الذات، حتى الخطاب “الديماغوجي” أصبح مفضوحًا ولم يعد بمقدوره تضليل الآخرين، لذلك فإن التوجّه للناخب في البقاع يشغل بال القوى السياسية، في مسعىً منهم لكسب تأييدهم في لحظة مفصلية من تاريخ البلاد، عبر تجاوز الصورة النمطية التقليدية لرسم سياسات دعائية واضحة بعيدًا عن اللغة المستهلكة سابقًا ..
وإن كانت محافظة البقاع بدائرتيها مرشحة لتشهد معركة قاسية في ظل الاصطفافات الأحادية حتى اللحظة، فإن التوجّه للناخبين لن يكون تقليديًا هذه المرة أسوة بالانتخابات السابقة، والدراسات التي تقوم بها الماكينات الانتخابية تعمل على تفسير التحولات وربطها بالسياقات السياسية، تحت سؤال جوهري كيف يمكن انتاج خطاب متمايز عند كل جهة مع المحافظة على أطر الثقافة السياسية المتبعة وقراءة الرؤى التي يتطلع إليها المجتمع ؟
فهل ستبقى العناوين التي ولدت من رحم 17 تشرين هي ذاتها؟، وهل بوسع القوى الأساسية اقناع القواعد الشعبية بـ “خطابات مكررة”؟
تعد انتخابات 2022 مختلفة عن أي عملية انتخابية أجراها اللبنانيون قبلًا، نظرًا لوجود تشكيلات سياسية جديدة لم تكن معروفة، فضلًا عن انقسام القوى التقليدية وانفراط عقد الكثير من التحالفات السابقة عدا عن تغيير “جلد” البعض منها، ولا يقف الاختلاف عند هذا الحد، بل إن الدول الكبرى والاقليمية تنظر إلى الانتخابات بعين توجيهية وتحليلية، وهذه العين تريد أن تكون متواجدة الربيع المقبل سواء بالمراقبة أو بالإشراف ..
وفي قراءة سريعة لما يمكن أن يحمله “الخطاب الانتخابي” لبعض القوى، فالعهد وفريقه سيعتمد على فكرة التحقيق الجنائي المالي كركيزة لخطابه، بينما القوات اللبنانية ترى أن تغيير الأكثرية النيابية الحالية هو العنوان الأبرز لخطابها لكسر المنظومة الحاكمة، أما تيار المستقبل فينطلق من قيمة الطائف كضمانة للحياة السياسية والاعتماد على ما تعرّض له مقام الرئاسة الثالثة من انتهاكات، فيما يحافظ حزب الله على ايقاعه السياسي كجزء من محور الممانعة في وجه الغطرسة الأميركية وحصاراتها المتنوعة، بينما الرئيس نبيه بري وحركة أمل يعتمدون على مزيج من رؤيا المحور والانفتاح العربي والتمسك بالطائف، أما الحالة الناجمة عن حراك 17 تشرين فتعتمد على “كلن يعني كلن” ..
يبقى أن الناخب البقاعي هو الوحيد الذي سيكون بمقدوره تحديد بوصلة أي خطاب انتخابي ومدى صوابيته، وعليه وحده تقع خاصية الاختيار، خصوصًا مع التحرك الذي تقوم به النخب الفكرية والثقافية والكفاءات الراغبة في ولوج الميدان السياسي، والتي بدأت تعد برامجها ونوعية خطابها للنهوض بالبلد وحل أزماته، في محاولة بناء غير تقليدي للحركات المطلبية للإنتاج عناوين تتوافق مع رؤى قوى التغيير التي ترى في الانتخابات المقبلة فرصة لإثبات وجودها وفرض مواقع لها في الحياة السياسية اللبنانية ..
ختامًا، معضلة ايجاد “الخطاب الانتخابي” يعاني الجميع منها، لذلك حتى اللحظة يبدو الحراك تحضيريًا فقط بانتظار جلاء الكثير من الأمور ووضوح الصورة لخارطة التحالفات المحتملة، حينها سترتفع الشعارات والتي لن تخلو من شعارات طائفية ومذهبية بالرغم من كل الايحاءات التي يحاولون تعويمها بعدم الاقتراب من هذه اللغة، لذلك فإن تناغم الخطاب لدى الأحزاب التقليدية حكمًا سيكون مغايرًا لخطاباتها القديمة كي يكون بوسعها الوقوف في خانة المتغيرين والتي قد تكون هذه المرة واسعة جدًا ..