الدمار في قرى قضاء صور الحدودية يحاكي الركام في غزّة

الأعلام الكبيرة لـ “حزب الله” و”حركة أمل” ومعها العلم اللبنانيّ المشدودة جميعها على أعمدة الكهرباء هو ما يرافقك أثناء سيرك على الطريق الممتدّة من صور إلى الناقورة. تبدو الأعلام جديدة والأرجح أنّها عُلّقت بعد سريان وقف إطلاق النار. ما يستوقفك عند حاجز الجيش اللبنانيّ في البيّاضة، هو زحمة السير لجهة الخارجين من البلدات الحدوديّة، حيث كان الجيش يدقّق بهويّات المغادرين من القرى، تحسّبًا لأيّة عمليّات سرقة ربّما تحصل للمنازل والمحال شبه المدمّرة.

الناقورة تدفع فاتورة الهدنة

كانت الناقورة المحطّة الأولى في جولتنا التي قرّرنا في “مناطق نت” القيام بها للقرى التي انسحب منها الاحتلال الإسرائيليّ في قضاء صور. هناك، تشاهد عن كثب حجم الدمار الذي لم يعكسه الإعلام، وهناك تعرف ومن خلال اللقاءات مع أبناء الناقورة أنّ حجم الدمار لم يكن بهذا الكمّ قبل هدنة الـ 60 يومًا، وهو ما استغلّه جيش الاحتلال لنسف جميع منازل البلدة ومحالها ومعالهما، فلم يبقَ فيها “حجر على حجر”. أمّا الطريق الرئيس للبلدة فبات بلا أسفلت، وهي أشبه ما تكون بطريق ترابيّة أكثر من كونها طريقًا تعبرها السيّارات.

تُصادف أمام كلّ منزل مدمّر عائلة تقف على أطلاله، تتفقّد حجم الركام، يجلس أفرادها بقربه يحتسون القهوة أو يدخّنون النرجيلة، يتحدّثون عن صمود البلدة في الحرب، والحقد الإسرائيليّ الذي صمّم على تدميرها إبّان الهدنة.

ما تبقى من منزل عائلة علي طاهر في الناقورة

عند أطراف البلدة، يجلس الشاب علي طاهر أمام ركام منزل أهله، يأخذ فترة استراحة بعد أن كان يبحث بين الأنقاض عن أيّ شيء من مقتنيات البيت. يُشير علي في حديث لـ “مناطق نت”، إلى أنّه يأتي كلّ يوم “لكي أبحث بين الركام عن بقايا صور عائليّة أو آيات قرآنيّة أو أيّ شيء يمكن أن أجده”. ولكن من يرَ هذا المشهد يعلمْ مدى صعوبة هذه المهمّة، فالمنزل بات كومة من ركام، يجاوره كذلك منزل محترق أصابه صاروخ لم ينفجر.

حميع منازل الناقورة مُدمّرة

يأسف طاهر أنّ “البلدة بقيت عصيّة على الاحتلال، ولم يتمكّن من الدخول إليها، ولكن مع دخول مرحلة الـ 60 يومًا من وقف إطلاق النار، وصل الجيش الإسرائيليّ إلى مشارف البلدة من جهة علما الشعب، فاستغلّ الهدنة ليدخل إليها ويجرف الطرقات ويفجّر المنازل ومنها منزل والدي”، مضيفًا “ليس هناك من بيت لم يدخله جيش الاحتلال، والبيت الذي لم يدخلوه هو بحكم الخراب، غير صالح للسكن وبحاجة إلى هدم وإعادة بناء من جديد”. يؤكّد طاهر أن “الحزن يعمّ أهالي البلدة، فهمُ مفجوعون بفقدان أبنائهم أو جيرانهم أو منازلهم، وإسرائيل سعت من خلال هذا التدمير إلى محو ذكرياتنا”.

علي طاهر: ليس هناك من بيت في الناقورة  لم يدخله جيش الاحتلال، والبيت الذي لم يدخلوه هو بحكم الخراب، غير صالح للسكن وبحاجة إلى هدم وإعادة بناء من جديد

يرفض طاهر القول إنّ معظم منازل البلدة مدمرة، مؤكّدًا أنّ “الأصحّ أن نقول إنّ جميع المنازل مدمّرة باستثناء ستّة منها لم تُهدم لكنّها آيلة إلى السقوط”. ويلفت إلى أنّ “كلّ ما أُنجز لغاية اليوم هو فتح الطرقات وتجميع الركام على أطرافها، وأهالي البلدة يزورونها صباحًا ويغادرونها ليلًا، في حين يبقى فيها بعض الشباب لحراستها بعد انتشار ظاهرة السرقات”.

يستعرض طاهر لمسار الحرب التي بدأت في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، حينها كان أهالي البلدة وخلال الأشهر الثلاثة الأولى متأقلمين مع الوضع، إذ لم يتمّ استهداف المدنيّين، ولكن بعد مرور نحو 100 يوم من ذاك التاريخ، بدأ الاستهداف العشوائيّ، ممّا دفع كثيرًا من أبناء البلدة إلى النزوح، وعلى رغم ذلك لم تنقطع زيارات أبناء الناقورة لبلدتهم، بل استمرّت من حين إلى آخر حتّى تاريخ توسّع الحرب في الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي.

علما الشعب تفتقد أهلها

إلى علما الشعب جارة الناقورة، حيث كانت محطّتنا الثانية. الوضع هنا في “علما” يختلف كلّيًّا عن الناقورة لجهة نسبة الدمار، وهذا لا يعني أنّ البلدة سلمت من الحرب، ومن الأضرار الجسيمة التي لحقت بنواحيها، إلّا أنَّ الدمار فيها ليس شاملًا، لكن آثار الآليات العسكريّة الإسرائيليّة على بعض طرقات علما الشعب، تقول “إنّ آلة الموت الإسرائيليّة مرّت من هنا”.

ما تشاهده أثناء الجولة في أحياء “علما” يختلف عمّا هو في الناقورة، إذ يبدو واضحًا أنّ أبناءها لم يعودوا إليها بعد، فلا وجود للسيّارات في طرقاتها، ومن النادر أن تصادف أحدًا في الشارع، لكنّ المشهد تبدّل ما أن اقتربنا من ساحة الكنيسة في وسط البلدة، حيث تجمّع عدد من أبناء البلدة لتبادل الأحاديث وتهنئة بعضهم بعضًا بالسلامة، وأيضًا لتلبيةً دعوة كاهن الرعيّة للمشاركة بحضور قدّاس الأحد.

منزل مهدّم في علما الشعب

بالقرب من الكنيسة نلتقي ابنة البلدة تيريز غفري والتي تقطن في بيروت. تقول غفري إنّها حرصت على زيارة البلدة بين فترة وأخرى، “بدءًا من حرب الإسناد حيث اقتصر القصف الإسرائيليّ حينذاك على استهداف أطراف البلدة، ممّا دفع جزءًا من أهالي علما إلى مغادرتها، لكن مع توسّع الحرب لم يبقَ أحد في البلدة”.

أبناء “علما” لن يعودوا

تتابع غفري لـ “مناطق نت”: “البلدة لم تشهد بعد عودة أبنائها، فمقوّمات الحياة غير موجودة، ووجود بعض الأهالي اليوم جاء تلبيةً لدعوة الكاهن بحضور قدّاس الأحد”. تضيف “ما في شي بيعوّض اللي راح، وبأكّدلك إنّو فيه كتير ناس ما بقى ترجع تعمّر”. وتشير غفري إلى أنّ “معظم أهالي البلدة أسّسوا حياتهم في أماكن النزوح وسجّلوا أبناءهم في المدارس وبات من الصعب عليهم العودة في الوقت الحالي بانتظار انتهاء العام الدراسيّ وعودة مقوّمات الحياة”.

تيريز غفري: معظم أهالي علما الشعب أسّسوا حياتهم في أماكن النزوح وسجّلوا أبناءهم في المدارس وبات من الصعب عليهم العودة في الوقت الحالي

في أثناء اللقاء مع غفري ينضمّ إلياس قنصل من أبناء “علما” ملقيًا السلام ومن ثمّ مشاركًا في الحديث. يُفاخر إلياس الثلاثينيّ بأنّه آخر من غادر البلدة وأوّل من عاد إليها، ويوضح “في الوقت الحالي نتواجد 13 شخصًا فقط في البلدة، في حين أنّ هناك كثيرًا من العائلات تزور البلدة ومن ثمّ تعود أدراجها”. مع الإشارة إلى أنّ عدد الذين كانوا يسكنون “علما” بشكل دائم قبل الحرب نحو 500 شخص، وهذا عدد كان يرتفع خلال فترة الصيف.

عن حجم الدمار، يلفت الياس إلى أنّ هناك 84 منزلًا تهدّم كلّيًّا، و91 منزلًا أصيبت بقذائف أدّت إلى احتراقها، و140 منزلًا أصيبت بأضرار جزئيّة، بينما المنازل الصالحة للسكن لا تتعدّى الـ 30 منزلًا”.

الظهيرة تحت الاعتداءات الإسرائيليّة

من علما الشعب إلى الظهيرة التي تشابه بلدة الناقورة في نسبة الدمار. ينتشر أبناء الظهيرة في الشارع الرئيس وأمام منازلهم المُهدّمة، وعند وصولنا إلى “الحارة الفوقانيّة” نجد ساترًا ترابيًّا فيخبرنا أحد الأشخاص أنّ هذا الساتر كان قد وضعه الاحتلال، ومن يرد عبوره فعلى مسؤوليّته الشخصيّة، وهذا ما يمنع الأهالي من الوصول إلى منازلهم في تلك الجهة من البلدة.

في الجهة المقابلة نلتقي أحمد (اسم مستعار) جالسًا مع زوجته وأولاده الثلاثة أمام أرضه التي يزرعها تبغًا في كلّ عام، وفي حين يدخّن أحمد النرجيلة تنهمك زوجته بإعداد الطعام. يصف أحمد المشهد بالقول “كان يمكننا أن نتناول الطعام في أيّ مطعم بصُور لكنّ الجلوس هنا له أثر خاصّ في نفوسنا”. تقاطع زوجة أحمد زوجها فتقول “هذه الأرض شاهدة على ولادة أبنائي، فحين كان عمر ابنتي شهرين كنت أجلبها معي وأضعها جانبًا في أثناء عملي بالزراعة”.

مشهد الركام في بلدة الظهيرة وهو متشابه في معظم القرى التي جالت فيها “مناطق نت”

انتقل أحمد وعائلته إلى البرج الشماليّ شرقيّ صُور حيث يستأجر منزلًا ريثما يتمكّن من العودة نهائيًّا إلى البلدة، وأكثر ما يُشدّد عليه مطالبته بـ “وضع كونتينرات كي نتمكّن من السكن حتّى تنتهي عمليّة إعادة التعمير”. ويلفت إلى أنّ “حضورنا اليوميّ إلى البلدة يعود إلى أنّنا نريد أن نثبّت وجودنا لأنّنا أهلُ هذه الأرض ومجبولون فيها ومتمسّكون بها مهما بدّلت إسرائيل من معالهما ودمّرت من منازلها”.

“رزقنا ورزق جدودنا”

يُعبّر أحمد عن ألمه من الحال الذي وصلت إليه البلدة فـ “رزقنا ورزق جدودنا وأولادنا ذهب في مهبّ الريح، وهناك شعور بغياب الأمل في إعادة التعمير إذ لم يبقَ شيء من سُبل الحياة، فالموضوع غير مقتصر على خسارة منزل، وإنّما تدمير البلدة بأكملها، من منازل ومدارس ومساجد وطرقات. وخوفنا الأكبر أن نعود ونعمّر منازلنا ليأتي العدوّ بعد 10 سنوات كي يهدمها مجدّدًا”، مضيفًا “ما زال هناك عدوّ إسرائيليّ على حدودنا لا نملك أملًا كي نعيش بسلام”. ويستذكر أحمد أنّ والدته كانت قد استشهدت في حرب تمّوز (يوليو) عام  2006 ليقول “في كلّ حرب لنا فاتورة”.

خسر أحمد منزلين، فإلى جانب منزله المؤلّف من طبقتين كان قد حرص على بناء منزل آخر لابنه الذي لم يتجاوز عمره الـ 16 عامًا. ويُشير إلى أنّ ذلك “من عادتنا إذ نحرص على استثمار ما نجنيه من زراعة التبغ ببناء المنازل لأولادنا”.

في أثناء حديثنا نسمع صوت انفجار ونشاهد دخانًا أسود ارتفع في السماء، فيسارع أحمد إلى طمأنتنا بأنّ “ذلك مجرّد قنبلة صوتيّة من طائرة مسيّرة من دون طيار هدفها فقط إرهاب أهالي البلدة لإبعادهم”.

ويختم أحمد حديثه بأنّ “الاعتداءات الإسرائيليّة على البلدة ما زالت مستمرّة، فقد عمد الجيش الإسرائيليّ، يوم الأحد الماضي، إلى جرف أكثر من 100 دونم من الزيتون في الحارة الفوقانيّة”.

يارين والنزوح الدائم

من الظهيرة نتوجّه نحو يارين محطّتنا التالية، المشهد هنا لا يختلف عمّا شاهدناه في بقيّة البلدات، فالدمار في كلّ مكان. يقول ابن البلدة محمّد طعمة لـ”مناطق نت”، إنّ “أهالي البلدة يزورونها نهارًا ويغادرونها ليلًا، وهذه الزيارة تشكّل متنفّسًا للأهالي المهجّرين منذ أكثر من عام، فالعودة كانت أشبه بحلم بعيد المنال وكان هناك خوف كبير بعدم العودة خصوصًا مع التصريحات الإسرائيليّة حول إقامة منطقة عازلة في القرى الحدوديّة”؛ مشيرًا إلى أنّ “هذا ما يُفسّر تسابق الأهالي على زيارتها فور انسحاب الجيش الإسرائيليّ منها”.

يصف طعمة بلدته بـ”المنكوبة التي يمكن اعتبارها غزّة ثانية، إذ لم يسلم منها أيّ منزل باستثناء أربعة منازل مدمّرة جزئيًّا وغير قابلة للسكن، حتّى البنية التحتيّة جرى تدميرها من مدارس وآبار مياه وأعمدة كهرباء وجزء كبير من الطرقات، ممّا أدى إلى تغيير معالم البلدة”.

الدمار في يارين

ويلفت طعمة إلى أنّ “القاطنين في البلدة بشكل دائم لا يتجاوزون الـ 10 في المئة من أهلها، فالأهالي مهجّرون منذ العام 1974 وأسّسوا حياتهم في أماكن أخرى، وأكبر تجمع لهم هو في بلدة البيساريّة حيثُ يطلق على الحي الذي يقطنون فيه اسم “يارين الجديدة” وفيه أكثر من ألفيّ نسمة”. ويؤكّد أنّه “لا يمكن المقارنة بين الدمار الذي شهدته يارين في حرب العام 2006 والحرب الحاليّة، حتّى إنّه في حرب تمّوز 2006 صمد عدد كبير من أهالي البلدة ممّن رفضوا النزوح منها”.

ركام يُحاكي ركام

في طريق العودة نسلك طريقًا آخر يمرّ في بلدة الجبّين حيث المشهد يتكرّر، لكن مع فارق أنّ العبارات العبريّة تنتشر على كثير من جدران البلدة. هناك، نستوقف أحد المارّة لنسأله عن وجهتنا نحو الطريق العام، فكانت المفاجئة أنّنا نسير عليه بعد أن بات أشبه بحفرة كبيرة. أشار الشاب بيده إلى أحد المنازل الذي كان الجيش الإسرئيليّ اتّخذه مركزًا له خلال الحرب، وأكّد أنّ جميع منازل البلدة باتت “على الأرض وحتّى اللي بتشوفوها بعدها واقفة فصايبها قذيفة مدفعيّة ومحترقة بالكامل”.

مشهد الدمار هو الثابت كيفما توجّهت يرافقك وصولًا إلى البيّاضة التي تحوّلت مطاعمها إلى ركام، فبعد أن عرفت تلك المطاعم شهرة واسعة ليس فقط بين أبناء المنطقة وإنّما لكثير من المغتربين والسائحين إذ تقع على منحدر يسمح لروّاده بمنظر بّانورامي للبحر والساحل وصولًا إلى مدينة صور، أصبحت تلك المعالم في خبر كان، أطلالها تحاكي الذكريات وتخدش العين.

مطاعم البياضة حيث كانت وجهة سياحية تستقط السيّاح والمغتربين تحوّلت إلى خراب
كتابات عبرية تملأ الجدران في بلدة الجبين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى