السلطان يعقوب بلدة معلّقة بين ضريح الموحّدين ولهجة البرازيليّين

إن كانت بابل تُعرف بجنائنها المعلّقة، فإن السلطان يعقوب، تلك البلدة الوادعة في قلب البقاع الغربي، تصلح أن تُسمى بالبلدة المعلّقة. ليست فقط معلّقة جغرافيًا على ارتفاع يفوق 1400 متر، بل معلّقة بين الأزمنة، بين ماضٍ أندلسي يمتدّ من المغرب إلى لبنان، وبين حاضرٍ يتكلم برتغالية سائغة ككأس ماراكوجا.

تشرف السلطان يعقوب ليلاً على السهل كما يشرف ناسك على الأرض من قمة جبل. ضوءها يتسلل كأنفاس صلاة، وهي منقسمة كما الذاكرة: “السلطان يعقوب الفوقا”، حيث الضريح، و”لوسي التحتا”، التي تحمل اسماً رومانيًا كان لإحدى الملكات ذات يوم.

الضريح حيث الزمن لا يُدفن

في قلب البلدة، مقام لا يُشبه سواه: ضريح السلطان يعقوب المنصور، أحد أبرز سلاطين دولة الموحدين، الذي ترك الأندلس ليحضر في البقاع، أو هكذا تقول المخطوطات والروايات الشفهية. قيل إنه هو من حفر قبره بنفسه، لا كفعل موت، بل كطقس عبور، كما يحب ميرسيا إلياد أن يصف الانتقال من الزمن الدنيوي إلى الزمن المقدّس.

مقام مسجد السلطان يعقوب في بلدة السلطان يعقوب البقاعية

الغرف المنحوتة في الصخر، المصلى الضيق، المكتبة الصغيرة في الزاوية، المكان الذي تضاء فيه الشموع وتُدفع فيه النذور… كلها ليست مجرد آثار، بل مسرح شعائري حيّ. لا يقف الزائر أمام ضريح، بل أمام فتحة روحية في التاريخ. مقام يُحجّ إليه، لا لأن السلطان مات فيه، بل لأنه ما زال يتكلم بلغته الخاصة.

لوسي الاسم الذي سبق العروبة

أما “لوسي”، الشطر التحتاني من البلدة، فيحمل اسماً غريباً على الجغرافيا اللبنانية. يُقال إنه يعود لملكة رومانية، ربما سكنت هذا الجبل قبل آلاف السنين. لكنها اليوم تسكن بيوتًا زراعية بسيطة، تطلّ على كامد اللوز من الجنوب، والمنارة وعيتا الفخار من الشرق، وعلى غزة اللبنانية من الغرب. وهي، بعكس الفوقا، مليئة بالحياة اليومية أكثر منها بالرموز. لكنها ليست أقل غموضًا.

حين تنبت القرية في البرازيل

في أوائل القرن العشرين، عندما كانت الطرقات نحو الحلم تمرّ عبر المرافئ، غادرت أولى البواخر مرفأ بيروت محمّلة بأبناء السلطان يعقوب، الذين شدّهم الحنين إلى مستقبل لم يولد بعد، لا هربًا من الأرض بقدر ما هو بحثًا عن أفق لها في قارات بعيدة. حطّت الأقدام الأولى في كوبا والمكسيك، لكن القلب ظلّ يخفق ناحية الجنوب، حيث نمت الجالية الأكبر في البرازيل. ساو باولو، ريو دي جانيرو، وتوباتيه تحوّلت إلى مستعمرات وجدانية موازية للبلدة الأم. أكثر من 1200 عائلة من أصول السلطان يعقوب تقيم اليوم هناك، بعضهم لا يعرف الكثير عن قريته، لكنه يضع صورة ضريح الشيخ يعقوب فوق سريره، ويغلي القهوة كما كان يفعل جدّه قبل الهجرة.

في السلطان يعقوب اليوم، يمكن للزائر أن يسمع جملًا برتغالية مشبعة بصدى لهجة لبنانية، وأن يتذوّق أطباقًا هجينة كأنها طبخت على مرجل الهوية المزدوجة

في توباتيه، تزوج الطبيب البرازيلي جوزيه فالادو من ابنة البلدة، الأمر يتعدى مسألة تقاطع بين حضارتين، بقدر ما هو عودة رمزية للجسد إلى جذره. أبناء هذه الزيجات يتحدثون البرتغالية بلكنة بقاعية غريبة، كأن اللغة عبرت البحار ولم تغتسل من طين السلطان يعقوب.

تلك الهجرة لم تكن انقطاعًا بل امتدادًا عضويًا: لم تهاجر القرية بل تمدّدت. في السلطان يعقوب اليوم، يمكن للزائر أن يسمع جملًا برتغالية مشبعة بصدى لهجة لبنانية، وأن يتذوّق أطباقًا هجينة كأنها طبخت على مرجل الهوية المزدوجة: “فاجوم”، فاصولياء سوداء صغيرة الحجم تُطهى ببطء كأنها تصغي، لا تنضج. “كوشينا”، كبة الدجاج المقليّة، كأنها ابنة محرّفة عن “السمبوسك”، أما عصير “ماراكوجا”، فليس مشروبًا فحسب، بل شربة ذاكرة، يُشرب كما لو أنه ترياق العودة، قطرة تُعيد المنفيّ إلى زقاق الطفولة، ولو لدقيقة.

الهجرة هنا تتخطى فكرة أنها تذكرة ذهاب، لتكون خيطًا طويلًا ربط قلب الجبل البقاعي بسلال القهوة في البرازيل. السلطان يعقوب لم تغادر، بل زرعت نفسها هناك، وها هي اليوم تُثمر لهجات هجينة، وأطعمة بذاكرة مزدوجة، وأسماء أولاد تُلفظ بنَفَسَين: يعقوبي ولاتيني.

العيد: طقس الزيارة والحلوى

بعد صلاة العيد الصباحيّة، تتحوّل السلطان يعقوب من قرية، إلى كائنٍ حيّ يمشي في نفسه. الأبواب تُفتح قبل أن تُقرع، والمنازل تستعد كما لو أنها تستقبل قدّيسين مجهولين. في الأعياد، لا أحد يجلس طويلاً، فالجلوس يتنافى مع فكرة العيد، التي هي في جوهرها رحلة طواف بين البيوت تتخطى في مشهديتها الحجيج إلى مقام، لتشبه الحجيج إلى المعنى.

طبق الفاوجوم انتقل من البرازيل إلى بلدة السطان يعقوب

يبدأ الناس بالسير في شوارع البلدة، مشيًا شعائريًا، كأن كل خطوة تُبارك الطريق. طاولات الحلويات تُمدّ كموائد ذُبِحت لأجل فرح مؤقت، وكل طبق منها يحفظ وصفة أُمّ، وكل قطعة سكاكر تُشبه ابتسامةً مجففة في الشمس.

يزور الناس بعضهم بعضًا وقوفًا، يتذوقون ويغادرون. لا حاجة للكلام الكثير، فالزيارة نفسها تقول كل شيء: _أنا هنا، ما زلت أحبك رغم ما مرّ، رغم ما لم يُقل._ وتكاد القرية تقول بصوت جماعي: نحن مجتمعون هنا وقبل أن نتكلم، نريد أن نتذوق ذاكرتنا، كلٌّ على طريقته.

الاحتفال بالعيد في السلطان يعقوب، هو تجديدٌ للعقد الاجتماعي، حيث قبل أن يُسأل الزائر عن حاله، تُقدَّم له الحلوى وكأنه جواب مسبق على وجعه. العيد هو أن تمشي… أن تزور كل منزل كأنك تعيد كتابة اسمك في دفاتر المحبة، أن تعبر في الأزقة القديمة كأنك تُحييها بقدميك، أن تمدّ يدك لقطعة شوكولا وتُداري بها فُقدًا ما.

هكذا يُحتفل بالعيد في السلطان يعقوب: بقدر ما هو يوم فرح، هو طقس من الحنين، تمرين جماعي على تذكّر من رحلوا، وتثبيت من بقوا، وتوزيع صامت للغفران.

لهجة القرية غريبة، ليست بقاعية تمامًا. القاف تُفخم كما في شمال إفريقيا، والكلمات تُنطق كما لو أنها عبرت المتوسط سباحة

القاف المفخّمة وحُفَر الذاكرة

لهجة القرية غريبة، ليست بقاعية تمامًا. القاف تُفخم كما في شمال إفريقيا، والكلمات تُنطق كما لو أنها عبرت المتوسط سباحة. إنه أثر غير معلن للعلاقة التاريخية مع المغرب، حيث كان الحجيج المغاربة يمرون من السلطان يعقوب في طريقهم إلى مكة، ويمكثون عند ضريحه كما لو أنه إحدى محطات البرَكة.

ما تحت الأرض المياه والمغائر

الماء في السلطان يعقوب ليس ظاهريًا. إنها بلدة عائمة على المياه الجوفية، تكثر فيها الآبار، وتحتوي على مغائر ونواويس قديمة تدل على حضارات سبقت حتى الموحدين. ما تحت الأرض فيها لا يقل غنىً عما فوقها. لذلك الأرض الزراعية في البلدة واسعة وخصبة، وشديدة الخضرة.

قطعة من السلطان يعقوب في أوهايو

المهاجرون لم ينسوا. في توليدو، ولاية أوهايو، اشترت الجالية نادياً على قطعة أرض مساحتها 12 دونمًا. مكان يجتمعون فيه ليُذكّروا أنفسهم بأن جذورهم لا تزال حية. هناك يستعيدون أسماءهم، يتحدثون عن المقام، يتناقشون في خصوصيات المطبخ الشرقي، وأسماء المهاجرين الاوائل، ويعلّمون أطفالهم أن القاف يجب أن تُفخّم.

البلدة التي علّقت نفسها بين السماء والتاريخ

في السلطان يعقوب، لا شيء يُؤخذ كما هو. المقام ليس ضريحًا فحسب، واللغة ليست مجرد لهجة، والطعام ليس وصفة. كل شيء هنا يرمز إلى عبور، إلى ما يسميه “العودة إلى المركز” — مركز الذات، والهوية، والروح. بلدة لا تعرف كيف تسكن التاريخ، فاختارت أن تسكن في حدوده، كأنها بين شاهدين: أحدهما ضريح الموحدين، والآخر عائلة تتكلم البرتغالية في توباتيه.

هنا، التاريخ يتعدّى الزيارة. فهو يُؤكل، يُشرب، يُنذر له، ويُسقى من بئرٍ عميقة تحرسها السماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى