العمل النسويّ في بعلبك تاريخًا وحاضرًا.. بدّدته السياسة وصادرته الأحزاب

بدأت ملامح العمل النسوي في بعلبك بالظّهور في أواخر الخمسينيّات من القرن المنصرم، في ظلّ وجود مناصرين ومعارضين للأحداث الكبرى التي كانت ترزح تحتها المنطقة، أبرزها حلف بغداد وما نتج عنه من انقسامات وقضية فلسطين. فظهرت سيدات قدّمن السلاح للفدائيّين والثوّار.

من الواضح تمامًا أن هناك التباسًا، بين العمل النسوي كتعريف وكمفهوم، وبين بدايات ذلك العمل في منطقة بعلبك، والذي كان ملحقًا ومكبّلًا بالنضال السياسيّ والمطلبيّ الذي طبع أنشطة نساء بعلبك، اللواتي انخرطنَ باكرًا في مواكبة صعود التيّارات القوميّة واليساريّة وقضيّة فلسطين وغيرها. لكن من الممكن تقسيم مراحل تطوّر العمل النسويّ في بعلبك إلى ثلاثة مراحل: أوّلها مرحلة النشاط السياسي الّذي تأثّر بالأحداث الوطنية- القوميّة الكُبرى، ثم مرحلة التأهيل المهنيّ والتثقيفيّ للمرأة، وصولاً إلى مرحلة الثورة الفكريّة على المفاهيم.

مع الوقت، تغيّر شكل العمل النسويّ في بعلبك ليرتبط لاحقًا بالمشاريع المموّلة دوليًّا بعدما كان محصورًا بأطرٍ حزبيّة، وبالتّالي تغيّرت وتبدّلت مطالب النساء مع تقدّم الوقت وازدياد الوعي النّسويّ الجمعيّ.

قديمًا، كان العمل النّسوي في بعلبك مرتبطًا ومحمَّلًا بأجندات سياسيّة أثّرت فيها عوامل الحروب والإجتياحات والواقع السّياسيّ المهيمن على المنطقة، وبقي الحراك النّسوي البعلبكيّ من دون أيديولوجيا عامّة واضحة المفاهيم والتّوجّهات. اليوم هناك خيط شكليّ يربط بين المجموعات النسوية في بعلبك، إذ بقي العمل النّسوي الجمعي والفردي خجولًا، فلا وجود واضحاً لنضال نسويّ حقيقيّ وفعّال في المنطقة، من دون تدخّل الأحزاب والسّلطة.

بداية العمل النّسوي في بعلبك

تمثّل الراحلة خديجة الرفاعي نموذجاً للمنخرطات باكرًا في العمل النسوي في بعلبك، وقد تحدّثت ابنتها ميادة الرفاعي عن سيرتها مؤكدة لـ “مناطق نت” أنّه على الرغم من معرفة والدتها الخجولة بالقراءة والكتابة، إلاّ أنها كانت تجسّد انتماءً قوميًّا بارزًا.

خديجة الرفاعي التي كانت قد انتسبت هي وزوجها إلى أحد الأحزاب اليساريّة، عادت وانفصلت عن زوجها لاحقاً، لكنها بعد انفصالها أثبتت استقلاليتها من خلال عملها مع الحركة الاجتماعيّة التي كان يترأسّها المطران غريغوار حدّاد، فتعلّمت القراءة والكتابة وتميّزت وباتت معروفة في تلك الحقبة على الرّغم أنّها كانت من بيئة بعلبكيّة محافظة.

قديمًا، كان العمل النّسوي في بعلبك مرتبطًا ومحمَّلًا بأجندات سياسيّة أثّرت فيها عوامل الحروب والإجتياحات والواقع السّياسي المهيمن على المنطقة، وبقي الحراك النّسوي البعلبكيّ دون أيديولوجيا عامّة واضحة المفاهيم والتّوجّهات

في حينه، وُلِد تجمّعٌ ترأسه عبدو الحسيني”صاحب إحدى أكبر المكتبات الشخصيّة في العالم، على مدى عشر سنوات. تقول ابنته ليندا الحسيني لـ “مناطق نت” إنّ “سبب تولّي والدها مهمّات ترؤّس ذلك التجمع، هو عدم وجود امرأة مناسبة لهذا المنصب في حينه”.

كان عبدو الحسيني يستضيف بشكلٍ دائم روّاد الثقافة والأدب في منزله، فكانت تُطرَح قضايا المرأة في النقاشات، ما أوجد مناخاً خلق في داخل ابنته ليندا وعيًا وإرادة للتغيير.

سيسبان رعد
سيسبان رعد

توضّحت ملامح العمل النّسوي أكثر فأكثر في مرحلة لاحقة مع الراحلة سيسبان رعد الّتي انتسبت إلى “لجنة حقوق المرأة” في عمرٍ مبكر. يتحدث نجلها بشار عبد الجليل لـ “مناطق نت” عن والدته فيقول: “إنّها كانت من بين المشاركات في تظاهرات معمل غندور المطلبية، وكانت دائمة السعي لتحفيز الناس على الإنتساب إلى النقابات العمّاليّة لضمان حقوقهم”.

من كان يعرف سيسبان يتحدّث كذلك عن تضحياتها تجاه أسرتها، إذ تحمّلت وحدها مسؤولية تربية أبنائها بعد وفاة زوجها، وقد تخرّجوا بشهادات عليا. وكانت إحدى المحطات التلفزيونية قد منحتها لقب “الأم المثاليّة” التي ضحّت لأجل وطنها من خلال عملها كممرِّضة في بيروت إبان فترة الاجتياح الإسرائيلي.

دلال قانصوه

بدأت دلال قانصوه نشاطها من خلال تظاهرة ضد الغلاء المعيشي بين عامي 1966 و1967، ثم انتسبت إلى لجنة حقوق المرأة مع سيسبان وكثيرات أمثال سلوى خزعل وهالة قاسم. تشير قانصوه إلى “أنّه لا يمكن تقديم طروحات المرأة بمعزل عن الغوص في القضايا السياسيّة غير المنفصلة عن القضايا الاجتماعية، ففي النضال يتساوى الرجل والمرأة معاً”. وتشير قانصوه إلى أنّها تشعر باليأس مما آلت إليه أوضاع المرأة في البلد وخصوصاً في بعلبك، بحيث أثَّرت الأحزاب الدينيّة سلبًا برأيها وتفكيرها وتوجّهاتها.

دلال قانصو
حلقات حوارية في بيروت

في العام 1974 نُظّمَت حلقات حواريّة لمدّة ثلاثة أشهر في بيروت، أدارتها ليندا مطر ولور مغيزل، وشاركت فيها نساء “بعلبكيات” كليندا الحسيني. ناقشت تلك الحلقات كلّ المواضيع المتعلّقة بالمرأة مثل العمل النّقابيّ والتّأسيس العائلي والأعراف والتّقاليد الّتي تتحكّم بمصير المرأة، وغيرها من المواضيع الّتي طُرحَت بحضور شخصيّات سياسيّة وثقافيّة مهمّة.

في ما بعد، كانت الحرب وبدأت التدريبات على الاسعافات الأوّليّة في بعلبك بالتعاون مع الهلال الأحمر الفلسطيني. كذلك انتشرت دورات تدريبيّة للشّباب والشّابات على حمل السّلاح حماية للحيّ المسيحيّ وتجنّبًا لأيّ اقتتال طائفيّ. في خلال التسعينيّات شاركت الحسيني في اتحاد للهيئات النسائيّة في البقاع، وأسّست جمعيّة نسائيّة تُعنى بالشؤون التربوية.

لجنة حقوق المرأة.. أوّل تجمّع نسوي في بعلبك

بعد عبدو الحسيني، تولّت سيسبان رعد مهمّة الإشراف على لجنة حقوق المرأة في بعلبك الّتي تُعدّ نموذجًا بارزًا لأوّل تجمّع نسويّ في بعلبك. كانت سيسبان تتنقّل بين بيروت وبعلبك وتنسّق مع قانصوه وغيرها لإقامة أنشطة في المدارس. وقد تمكنت اللجنة من إشراك مئات النسوة في أعمالها.

تولّت سيسبان رعد مهمة الإشراف على لجنة حقوق المرأة في بعلبك الّتي تُعدّ نموذجًا بارزًا لأوّل تجمّع نسويّ في بعلبك

من هؤلاء المناضلات هالة قاسم التي تتحدث عن أن والديها أصرّا على متابعتها وإخوتها الدراسة، وإنطلاقاً من هذا الوعي كان انتسابها مع شقيقتيها سلوى وشهيرة إلى لجنة حقوق المرأة. تؤكّد قاسم لـ “مناطق نت” أنّ عمل اللجنة كان اجتماعيًّا منفصلًا عن الحزب الشيوعيّ، وأنّ كلّ الأنشطة كانت تصُبّ في إطار توعية المرأة وتثقيفها، مع التشديد على تجنّب العداء مع الرجُل، إذ من غير الممكن مواجهة المجتمع بالقوّة، إنما عبر التثقيف”. وفي هذا الإطار تقول الحسيني: “إن اللجنة لم تطالب بالمساواة بين المرأة والرجُل في كلّ الشؤون الحياتيّة بل كانت تطالب بالعدالة في ظلّ المساواة بين الطّرفين”.

يُسجّل للجنة حقوق المرأة الّتي شاركت بالعمليّة التنمويّة في بعلبك، إنجازُ افتتاح مستشفى “بعلبك الحكومي”، حيث تمّ تحصيل مئات التواقيع من الفاعلين في المدينة من أجل ذلك الحدث. وبما أنّ طبيعة المنطقة زراعيّة، فقد سَعت اللجنة لتأسيس تعاونيّات زراعيّة، وتحدّثت بأهميّة الدولة المدنيّة داعيةً إلى بناء دولة ديمقراطيّة لا طائفيّة، كما طالبت بقانون للأحوال الشخصيّة في الوقت الذي كان خطر العدوان الإسرائيليّ الشبح الدائم. كذلك سَعت اللجنة إلى إنشاء مشغل كبير لحياكة السجّاد في بعلبك، وكان قد تمّ تجهيزه إلاّ أن الظروف حالت دون افتتاحه، ونُقل إلى منطقة عالَيه.

التّجمّع النّسائي الدّيمقراطي
فاطمة غزال

فاطمة غزال
تختلف ظروف تأسيس التجمّع النسائيّ الديمقراطيّ المنبثق عن منظّمة العمل الشّيوعيّ عن تلك الخاصّة بلجنة حقوق المرأة. وتشير فاطمة غزال عن تجربتها كمسؤولة التّجمّع النسائي في البقاع إلى أنّها كانت دائمة التنسيق مع ممثّلات الحركة الإجتماعية، ومع الناصريّين وسواهم.

بدأ العمل من خلال تأسيس حضانة أطفال لتشجيع المرأة على العمل، وتمّ تخصيص أسبوع لتنظيف الطّرقات. بعدها نشطت دورات محو الأمّيّة ومسارح الدّمى ومعارض لأعمال الخياطة، أيضاً شارك التّجمّع النّسائي في تظاهرات رفضًا للغلاء المعيشيّ ودعمًا للقضيّة الفلسطينيّة، في الوقت الّذي كانت فاطمة وغيرها من النّسوة يَسمعن عبارات “هل تتعلم المرأة الكتابة لتراسل حبيبها؟” و”كيف تحضرين الإجتماعات.. هل أنتِ رجُل؟”.

في الثمانينيات، ترأّست التجمٌّع في بعلبك السيدة ليلى مروّة ابنة الجنوب، التي تشير إلى أنّ التجمُّع النّسائيّ واكب كلّ القضايا، رافِداً جميع الفئات الممكنة، لتطوير قدرة السجال والمحاججة لديهن. بدأ التّجمّع من خلال التوعية والتثقيف ومن ثمّ دعم المشاركة السياسيّة للنساء، ومواجهة العنف. وبعد تطوير المشاريع قدّم التجمّع مسودّة قانونيّة للمجلس النيابيّ تنصّ على تحديد سن الزواج بعد 18 عامًا للجنسين.

دلال مروة
المبادرات النّسويّة الفرديّة في بعلبك
أليس فاخوري

لم تنحصر فرص عمل النّساء ضمن الأحزاب العلمانيّة وحدها بل امتدّت إلى أحزاب السُلطة الّتي يختلف العمل ضمنها وتختفي معالم النسويّة بشكل كبير فيها. كما ظهرت سيدات عملن فرديًّا لدعم المرأة انطلاقاً من وظائفهنّ مثل أليس فاخوري مؤسِّسة أوّل حضانة لدعم المطلّقات، وسيدات قمنَ بأعمال تنمويّة سعيًا للتمكين الاقتصادي كداعم أساسيّ للمرأة مثل دُنيا خوري.

بالانتقال إلى الحديث عن “النسويات البعلبكيَّات” اللواتي عمِلنَ في بيروت في أُطُر نسويّة، نذكر منهنّ الدكتورة بتول اليحفوفي التي ناقشت في أطروحتها للدكتوراه “الغُبن والنمطيّة السلبية التي طالت المرأة في الفلسفة الغربية”، كما وصفت تحوُّل العمل النسويّ من عمل رعائيّ قديماً إلى عمل تقدّميّ تغييريّ نتيجة الثّورة الفكريّة الّتي أسّس لها مؤتمر “بيجين” ومن بعده اتفاقيّة “السّيداو”، يليه ظهور مفهوم الجندر.

منظّمات نسائيّة حديثة النّشأة

في بعلبك ثمّة منظّمات حديثة النشأة امتدّت أخيراً لتصل إلى العاصمة بيروت كمنظمة USPEAK. تقول مؤسّسة الجمعيّة روان ياغي لـ”مناطق نت”، “إن أهداف الجمعيّة تؤكّد على المناصرة والتمكين الاقتصادي والسياسي للمرأة”.

ومن النساء البعلبكيّات اللّواتي برزنَ في بيروت ليندا الحسيني الّتي كانت لها أبحاث عديدة مثل “صورة المرأة من خلال كتب القراءة” و”السمات التربوية للحركة النسائية”. أمّا منار زعيتر المتخصصة في القانون الدولي لحقوق الانسان، فقد عملت في وكالات الأُمم المتّحدة على قضايا الأحوال الشخصيّة والمشاركة السياسيّة للمرأة. كذلك”رولا زعيتر الّتي عملت كناشطة في التجمُّع النسائيّ واللجنة الأهليّة لمتابعة قضايا المرأة، وسعدى علوه الصّحافيّة المدرّبة على استقصاء قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي.

تحكم بعلبك عوامل تاريخيّة مفصليّة، بدايةً من إهمال الدولة الّتي حوّلتها إلى مدينة منسيّة تمامًا وصولًا إلى الهيمنة العشائريّة والتشابك بين التركيبة الإجتماعيّة والسياسيّة، كلها عوامل أعاقت نهوض كلّ أفراد المجتمع ولم تعد محصورة بالمرأة فقط.

يبقى العمل النّسوي في بعلبك مجهول الهويّة حتّى اليوم، بالرغم من جهود هؤلاء النّساء اللّواتي حاولنَ تضميد حال البعلبكيّات لسنوات طويلة، إلّا أنّه تُرفَع لهنّ القبّعات، تجاه كلّ ما يعني النّضال في قلب مدينة كبعلبك.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى