العيد ينزح مع أبناء المنطقة الحدوديّة وصور تنشط تجاريًّا
لا فسحة فرح واحدة لعيد الفطر هذا العام، بالنسبة لغالبيّة الجنوبيّين، وبالأخصّ النازحين قسرًا عن دورهم وبيوتهم وأرزاقهم، والمعلّقين على توقيت ساعة الحرب، التي أقفلت شهرها السادس، موغلة في مزيد من الخسائر في الأرواح والبنية التحتيّة.
هذه الحرب “العدوان الإسرائيليّ” وآلة القتل الموزّعة على اللبنانيّين والفلسطينيّين، الذين يزفّون الشهيد تلو الآخر، أدمت قلوب أمّهات وآباء وأخوة وأخوات، والشهداء يستريحون في قبورهم، وفي أمكنة ولاداتهم، في بلداتهم ومساقط رؤوسهم، بينما تستوطن الغصّة قلوب أحبّتهم، غير القادرين بسهولة على زيارة قبور أبنائهم وأحبائهم، لتلاوة الفاتحة وإيقاد البخور والقصعين (المريميّة).
فاتر عيد الفطر هذه السنة في صور ومنطقتها، وقد نزح إليها أكثر من ثلاثين ألف مواطن من المدن والبلدات الحدوديّة، من بنت جبيل وعيترون وبيت ليف وعيتا الشعب وعيناثا والقوزح ويارين والضهيرة وطيرحرفا والجبّين والناقورة ومجدل زون وشيحين وغيرها من بلدات أخرى، فقدت العشرات من أبنائها شهداء وأطفالًا بعمر الورد، ومعهم ذهبت ضحكة العيد المعهودة.
ألم في مخيّمات اللاجئين
وكما اللبنانيّين في منطقة صور، فإنّ العيد يأتي قاسيًا أيضًا على أبناء مخيّمات وتجمّعات اللاجئين الفلسطينيّين في الرشيديّة البرج الشماليّ والبصّ، حيث سقط من أبناء مخيّميّ الرشيديّة والبرج الشماليّ، عدد من الشهداء بعمليّات اغتيال إسرائيليّة وفي المواجهات العسكريّة، ناهيك بإنشداد قلوبهم إلى موطنهم في غزّة، التي تُرتكب فيها المجازر بحقّ أطفالها ونسائها وشيوخها.
أرخت هذه الأجواء والأوضاع جميعها بثقلها على العيد، في مدينة الحرف والتاريخ “صور” التي وعلى رغم الألم الذي يعتصرها، فإنها فتحت كوّة صغيرة للتعويض بعض الشيء عن ظروف معاناة أهالي المنطقة ومنهم النازحون، فشرّعت أسواقها ليلًا في الأسبوع الأخير من شهر رمضان أمام الآلاف، ممّن يتوافدون إليها لكسر حالة الوجع من جهة، والتبضّع بما تيسّر من محالها التجاريّة، وتذوّق مأكولاتها وحلويّاتها مع “نَفَس” النرجيلة.
العيد يوقظ وجع النازحين
أكثر ما يؤلم كثيرين من عوائل الشهداء النازحين، الموزّعين على بيوت مستأجرة وفي مراكز الإيواء، عدم إمكانيّة زيارة قبور أبنائهم، بعدما أصرّوا على دفنهم في تراب بلداتهم وقد سقطوا ذودًا عنها، على الرغم من الاعتداءات الإسرائيليّة التي كانت تطاول المشيّعين، على نحو ما حصل في عيتا الشعب وبليدا وسواهما من القرى الحدوديّة المتاخمة.
أكثر ما يؤلم كثيرين من عوائل الشهداء النازحين، الموزّعين على بيوت مستأجرة وفي مراكز الإيواء، عدم إمكانيّة زيارة قبور أبنائهم، بعدما أصرّوا على دفنهم في تراب بلداتهم وقد سقطوا ذودًا عنها
يؤكّد رئيس بلدية عيتا الشعب المربّي محمد سرور، إحدى أكثر البلدات الحدوديّة التي قدّمت شهداء وحلّ بها دمار هائل، “أنّ كثيرين من الأهالي وعوائل الشهداء حمّلوني رغبتهم القويّة في زيارة أضرحة شهدائهم في البلدة لتلاوة الفاتحة على أرواحهم واشتمام عبق الشهادة والتراب عن قرب”. وأوضح لـ”مناطق نت”، أنّه يتابع هذا الموضوع مع الجهات المعنيّة، ومنها الجيش اللبنانيّ، الذي ينسّق مع قوّات اليونيفيل لتأمين زيارة الأهالي إذا ما سنحت الفرصة الأمنيّة.
دفعت بلدة يارين، في الأيّام القليلة الماضية شهيدين من أبنائها هما: إسماعيل مطلق وعلياء عبد الكريم. يؤكّد الرئيس السابق لبلدية يارين غسان مطلق، “أنّ العيد هذا العام يأتي ثقيلًا جدًّا محمّلًا بالأوجاع والمآسي بفعل العدوان الإسرائيليّ”. وأضاف لـ”مناطق نت”: “إنّ شهر تموز العام 1977 يشهد على همجيّة إسرائيل التي ارتكبت مجزرة في البلدة، سقط بنتيجتها شهيدات وشهداء”. وأضاف “تتمثّل حرقة الأهالي بعدم تمكّنهم من زيارة قبور أحبّتهم، وابتعادهم القسريّ عن منازلهم، وتشتت عائلاتهم وتفرّق شملها”.
أبعدت الحرب “أبو علي” حمزة عن بلدته مجدل زون إلى ضواحي صور مع أفراد عائلته، منذ أكثر من خمسة أشهر. يقول “إنّ بلدتنا البعيدة نسبيًّا عن الخطّ الأماميّ، كانت عرضة للعدوان الإسرائيليّ، فسقط من أبنائها شهداء ونساء وأطفال أبرياء، ودُمرت وتضررت عشرات المنازل”. وأمل حمزة أن ينتهي العدوان، “لكي يتمكّن الأهالي من العودة إلى منازلهم وربوع قريتهم الهادئة، في العيد المقبل”.
نشاط تجاريّ ليلة العيد
يكاد يجمع التجّار وأصحاب المؤسّسات في صور، على أنّ حركة السوق التجاريّة الليليّة، طابعها الأكبر للفرجة والتمتّع بهواء البحر الذي يلفّ المدينة من جوانبها الثلاثة. ولا ينفون تحرّك عجلة الأسواق في المدينة وحتّى في البلدات المجاورة، بمساهمة بسيطة من النازحين أنفسهم، مسجّلين الرقم الأوّل للسوريّين، يليهم الفلسطينيّون ومن ثمّ اللبنانيّين.
يواكب غزوان حلواني، أمين سرّ جمعيّة تجّار صور، نشاط السوق التجاريّة نهارًا وليلًا، بحكم مسؤوليّته وموقع متجره لبيع البنّ. يلفت حلواني أنّ أسواق صور التي تفتح ليلًا بتوجيهات من الجمعيّة، “تأثّرت بشكل كبير جرّاء المواجهات العسكريّة المستمرّة، وفقدت بعضًا من حيويّتها، لكن على أبواب عيد الفطر السعيد، كان لافتًا التغيير في مناخ السوق، وهذا ما بدا من خلال “الزحف” البشريّ بعد الإفطار إلى ساحات المدينة وأسواقها”.
يضيف حلواني لـ”مناطق نت”: “مجرّد هذه النشاطيّة خير دليل على مواجهة الحرب بالفرح، بالرغم من المآسي التي يعانيها النازحون من أهلنا، ممّن فقدوا أغلى ما يملكون فاستشهد المئات من أبنائهم ودمّرت منازلهم وأحرقت مزروعاتهم، والأمر ذاته بالنسبة لإخوتنا الفلسطينيّين في المخيّمات، وهم بدورهم فقدوا خيرة من شبابهم”. ويتابع حلواني: “أملنا كبير برفع المعاناة وعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم، لإنعاش مناطقهم ودبّ الروح فيها من جديد”.
يكاد يجمع التجّار وأصحاب المؤسّسات في صور، على أنّ حركة السوق التجاريّة الليليّة، طابعها الأكبر للفرجة والتمتّع بهواء البحر الذي يلفّ المدينة من جوانبها الثلاثة ولا ينفون تحرّك عجلة الأسواق في المدينة وحتّى في البلدات المجاورة، بمساهمة بسيطة من النازحين أنفسهم
في أحد متفرعات السوق التجاريّة، يمضي عبدالله غسّاني الوقت في متجره لبيع الألبسة، مستقبلًا الزبائن بشكل متقطّع.
ويقول غساني لـ”مناطق نت”: “إنّ حركة السوق عاديّة، وبالتأكيد ليست كما كانت في الأعياد السابقة، بيد أنّها معقولة وخصوصًا في الليل، إذ يأتي إليها الزبائن وغالبيتهم من السوريّين والفلسطينيّين بنسبة أقلّ، إلى جانب الزبائن من أبناء البلدات المجاورة، الذين أصبح في كلّ بلدة من بلداتهم سوق صغير ومتواضع”.
لا يشكو جهاد يزبك، صاحب متجر لبيع الألبسة في وسط السوق التجارية، من برودة الحركة التجاريّة لديه، “كون معظم الزبائن من العائلات يقصدون متاجر بيع الألبسة والأحذية الولّاديّة، التي لا تسري كثيرًا على محلّات بيع الحاجيات الرجّاليّة”.
عجقة نازحين ومهجّرين
وحول نوع الزبائن في السوق، يردّد يزبك كلام غيره من التجار، “إنّ الغالبيّة هم من السوريّين، وأقلّ من الفلسطينيّين، الذين تقلّصت التقديمات لهم من الجهات المانحة وخصوصًا الأنروا”.
يشاطر ياسر حسين، صاحب أحد الدكاكين زميله يزبك، ويلفت حسين الذي يتحدّر من بلدة المالكيّة المحتلّة (إحدى القرى اللبنانيّة السبع)، ويتردّد اسمها يوميًّا في المعارك على الحدود، إلى “أنّ حركة السوق ضعيفة، ولا توجد حيويّة لافتة في النشاط التجاريّ في أسواق صور”، ويرجّح “مردّ ذلك إلى الحرب بشكل رئيس، وأيضًا لقلّة الأموال بين أيدي الناس، في ظلّ غياب فرص العمل وتراجع القدرة الشرائيّة لليرة”.
وتؤكّد اللاجئة الفلسطينيّة مريم إبراهيم، “أنّ عيد الفطر أعاده الله على المسلمين بالبركة، يحلّ هذا العام صعبًا ومؤلمًا على أبناء شعبنا في الداخل والشتات”.
وتقول لـ”مناطق نت”: “إلى جانب أعمال القتل، التي تنفذّها إسرائيل بحقّ أهلنا في غزّة، فإنّ مخيّماتنا في منطقة صور خصوصًا، خسرت أخيارًا من شبابها، الذين قضوا اغتيالًا بواسطة المسيّرات الاسرائيليّة، خصوصًا في الرشيديّة والبرج الشماليّ، وغيرهم من الشهداء الذين سقطوا في مواجهات على الحدود”.
وتضيف إبراهيم: “لذلك فإنّ العيد، الذي يتزامن مع معاناة اقتصاديّة في المخيّمات بفعل تراجع خدمات الأنروا وتداعيات الحرب، لا توجد أيّ بهجة له إطلاقًا، ويقتصر على إرضاء أطفالنا بملابس جديدة، تشعرهم بالعيد”.
مشدود انتباه النازحين خصوصًا، والجنوبيّين عمومًا إلى الأخبار، يتابعونها لحظة بلحظة، لعلّها تحمل جديدًا يعيدهم إلى بلداتهم وقراهم التي نزحوا عنها مرغمين، فالأعياد لا معنى لها خارج الأرض التي انجبلت بعرقهم ودمائهم، وخارج البيوت التي تحمل شذى أحبائهم، إذ هناك يكمن العيد الحقيقيّ والذي وإن طال انتظاره، فإنّه آت لا محال.