الغازية تحتفل باليوم العالمي للنحل: “نحّالون لا عسّالون”

في “ثانوية السفير”، ذلك الصرح التعليميّ الواقع على بعد خطوات من موج المتوسط، وبين أشجار الموز والليمون في بلدة الغازيّة، حيث بدايات احتشاد القرى نحو جنوب لبنان، كان الحدث مؤتمرًا علميًّا واحتفالًا بالحياة كما تحفظها النحلة، هذا الكائن الصغير الذي يقف في وجه خراب كوكب بكامله.

أكثر من 800 زائر وخبير اجتمعوا من لبنان ومصر وسوريّا والأردنّ وفلسطين، بدعوة من “اتّحاد النحّالين العرب” و”ثانوية السفير”، وبرعاية “الجامعة العربيّة المفتوحة”، كي يرسموا معًا خارطة طريق من أجل تربية نحل مستدامة، تحت شعار: حياة النحل… حياة الأرض.

“نحّالون لا عسّالون”

النحّال الحقيقيّ يُقيم علاقة وجوديّة مع النحلة، كمن يصغي إلى همسات الطبيعة وهي تكتب رسائلها بأجنحة شفّافة. هكذا يتخطّى دوره كعسّال يجني ما تفرزه الخليّة وحسب، بل ليصبح “نحّالًا” يمارس فعلًا تأمّليًّا متشابكًا، يتقاطع فيه علم السلوك الحيوانيّ، بعلم المناخ، بعلم النفس، وحتّى بالفنّ والحدس.

أكثر من 800 زائر وخبير اجتمعوا من لبنان ومصر وسوريّا والأردنّ وفلسطين، تحت شعار: “حياة النحل… حياة الأرض” في ثانوية السفير في الغازية

في هذا المؤتمر، كانت الإضاءة على النحل بصفته حشرة منتجة، كذلك النحل كائن مركّب، ولغز بيئيّ يحتاج إلى قراءة لا تقلّ تعقيدًا عن قراءة المخطوطات القديمة. من هنا، جاء الخبراء من مصر ولبنان وسوريّا وفلسطين والأردنّ ليتداولوا وصفات وخبرات وليفتحوا صفحات من علم جديد يتعامل مع النحلة بوصفها مرآة للتغيّر المناخيّ، وحسّاسًا طبيعيًّا لاضطرابات الكوكب.

“نحّالون لا عسّالون” كانت العبارة التي تحوّلت إلى شيفرة أخلاقيّة بين الحاضرين. في طيّاتها، دعوة إلى أن نخرج من منطق الاستهلاك إلى منطق الرعاية، من فكرة الإنتاج السريع إلى إدراك القيمة المعرفيّة لكائن صغير قادر على كشف اختلالات العالم قبل أن ندركها نحن.

وفي عمق هذا التنوّع (من علماء في الذكاء الاصطناعيّ، إلى مربّي نحل تقليديّين، إلى فنّانين وأطبّاء وباحثين في النفس الحيوانيّ) برزت صورة النحّال كلوحة فسيفسائيّة حيّة. كلّ نحّال هو رواية مختلفة، و”مختبر بيولوجيّ” خاصّ به، فيه طقوس ومراقبة وعلم وتأمّل وارتباط بالأرض، وحنين إلى المستقبل كما لو أنّه ماضٍ لم نصل إليه بعد.

النحل جسر للحوار

في باحات “ثانوية السفير” بدا الحضور مزيجَ وجوه وسحنات عربيّة متجاورة تفيض بالتنوّع وتتّحد بالمعنى. لهجات من مصر وسوريّا ولبنان والأردنّ وفلسطين، تداخلت في الحوارات والندوات مثلما تتداخل رقصات النحل حول الخليّة، كلّ صوت يحمل نبرة أرضه، وكلّ فكرة تشعّ من طقس تربويّ، أو تجربة مناخيّة، أو حكمة رعويّة.

“نحّالون لا عسّالون” كانت العبارة التي تحوّلت إلى شيفرة أخلاقيّة بين الحاضرين. في طيّاتها، دعوة إلى أن نخرج من منطق الاستهلاك إلى منطق الرعاية

في هذا المهرجان البيئيّ، رأينا راهبة من الشمال وشيخًا من الجبل يجلسان إلى جانب فنّان يرسم، وشاعر يصدح، ومهندس يشرح. رأينا الحكواتيّ سليم علاء الدين، يؤدّي شخصيّة “أبو خطّار”، في سرديّة تربط الحكاية بالمناخ، والخيال بالرحيق. ورأينا الشاعر الدكتور داوود مهنّا، يقف كمنشد قديم في معبد الطبيعة، ليُمجّد رقصة النحلة بين الزهرات كما لو أنّه يوثّق نشيد الحياة ذاته.

أمّا اللوحة التي رُسمت مباشرة أمام الجمهور، فقد اختصرت الإشكاليّة: نحلة ترسم الكرة الأرضيّة، بينما يد الإنسان تمحوها بممحاة. كأنّ الفنّ نفسه صار إنذارًا أخيرًا، وكأنّ النحلة رفعت يدها الصغيرة لتقول للعالم: “أنا الجسر، لا تقطعوني”.

 خريطة طريق عربيّة

في ندوة حملت عنوانًا استراتيجيًّا: “نحو خريطة طريق عربيّة لتربية نحل مستدامة، أدارتها الأستاذة ناهدة رسلان، تلاقت الرؤى البحثيّة والميدانيّة والتربويّة لتشكّل ملامح مشروع بيئي- عربيّ جامع. الدكتور عبدو تنّوري قدّم مداخلة بعنوان مراكز الأبحاث: منهل العلم لحماية النحل، مشدّدًا على دور المختبرات كبوصلة علميّة ضروريّة لتطوير سلالات مقاومة وتوفير بيانات مناخيّة دقيقة.

تناول الأستاذ حسين جرادي تحدّيات مكافحة الفاروا والنوزيما في ظلّ التغيّرات المناخيّة المتسارعة. مشيرًا إلى فجوة كبيرة في التوعية والإمكانات على مستوى لبنان والعالم العربيّ. أمّا الأستاذة غادة غزال، فقد فتحت نافذة على بعدٍ تكامليّ بطرحها دور المدارس والجامعات والبلديّات والجمعيّات: توعيةً وسلوكًا، مؤكّدة أنّ تربية النحل ليست مسألة تقنيّة وحسب، بل ثقافة مدنيّة وسلوك بيئيّ يتكوّن منذ الصغر.

من المعرض
من خيرات الخليّة

وفي موازاة الندوات، امتدّت الأجنحة الجانبيّة للمؤتمر إلى معرض “من خيرات الخليّة”، حيث تنوّعت المعروضات من العقبر والبروبّوليس، إلى العسل الخام والشهد والصابون ومساحيق التجميل الطبيعيّة.
بدا المعرض لوحة تجسّد قدرات النحلة العلاجيّة والتجميليّة والوقائيّة، وكأنّها تقول لنا: “لستُ صانعة عسل فقط ، بل صيدليّة الطبيعة وصندوق أسرارها”.

وتُوّج الجانب العمليّ بورشة عمل متخصّصة تحت عنوان صناعة مواد تجميليّة آمنة ومراهم من منتجات النحل، درّبت فيها الأستاذة ناهدة رسلان الحاضرين على أسس الجمع بين المعرفة البيئيّة وسلامة المنتجات، وقدّمتها الأستاذة أمل تقي بروح تشاركيّة مرنة، جعلت من خلايا النحل حقلًا للجمال كما للعلاج.

جينوم وفيزياء وذكاء اصطناعيّ

في سلسلة ندوات علميّة مكثّفة، تحوّلت خليّة النحل إلى مرآة عاكسة للتحدّيات المناخيّة، ومختبر مفتوح لإمكانات الشفاء والتطوّر البيولوجيّ، حيث تلاقى الطبّ والتكنولوجيا والاقتصاد البيئيّ في مقاربة شاملة لوظيفة النحلة في زمن الاضطراب البيئيّ. ففي ندوة بعنوان منتجات النحل نعمة للبشريّة، أدارتها الدكتورة فادية بيطار، عرضت الدكتورة سارة صيداني معايير الانتقال بمنتجات الخليّة من الإنتاج المحلّيّ إلى التصدير العالميّ، فيما قدّمت الأستاذة آمنة علّوش دليلًا تجريبيًّا على فعاليّة البروبّوليس في مواجهة البكتيريا، كاشفة عن كنوز علاجيّة في داخل الخليّة.

أمّا في ندوة دور العلم والتكنولوجيا في حماية النحل من اضطرابات المناخ، التي أدارها الأستاذ علي ياسين، فقد توزعت المداخلات بين علم الجينوم والذكاء الاصطناعيّ. تحدث الدكتور شادي الحصري عن سلالات نحل مقاومة للحرّ والجفاف عبر الهندسة الوراثيّة، وتناول الدكتور داني عبيد سبل تعزيز المناعة الطبيعيّة للنحل باستخدام التكنولوجيا الحيويّة. واختتم الدكتور ياسر يحي محمّد إبراهيم بتطبيقات الذكاء الاصطناعيّ في مراقبة صحّة النحل والتدخّل المبكّر لإنقاذ الخلايا من الانهيار. وتوّجت هذه السلسلة بمحاضرة نوعيّة بعنوان سمّ النحل إكسير شفاء” أدارها الأستاذ محمّد الشامي، وقدّم الدكتور أحمد الصبّاغ عرضًا غنيًّا عن الاستخدامات الطبّيّة لسمّ النحل، كعلاج فعّال في أمراض المناعة والالتهابات المزمنة.

لمّا يصبح التنظيم علمًا وفنًّا

في حديثه إلى “مناطق نت”، كشف رئيس المؤتمر الدكتور سلطان ناصرالدين عن جانبٍ آخر من هذا الحدث، لا يظهر في الصور ولا يُلتقط في التغطيات: التحضيرات التي امتدت أشهرًا عدّة، والعصف الفكريّ الذي لم يتوقّف من أجل هندسة كلّ فقرة، وصياغة كلّ عنوان، وانتخاب كلّ شخصيّة مشاركة بدقّة الباحث وذوق الفنّان.

يقول ناصرالدين إنّ العمل على هذا المؤتمر كان “صياغة لتجربة معرفيّة كاملة، تتدرّج من المعلومة العلميّة الدقيقة إلى الشعور الجماليّ الذي يرافق الزائر وهو يتذوّق استراحة بين ندوتين. حتّى تلك التفاصيل الصغيرة مثل اختيار تقديم السمسم بالعسل أو الشاي بالنعناع جاءت ضمن تصوّر متكامل يحتفي بالنحلة في فكرها، وفي نكهتها، وفي دورها الرّمزي”.

كلّ لحظة في المؤتمر، كما يشير التربوّي ناصرالدين، كانت محسوبة بمنطق الخليّة” التناسق والانسجام والفعالية الصامتة. ومثلما تُنتج النحلة الشهد من طيرانها بين الزهرات، كذلك أنتجت هذه التحضيرات خلاصة مؤتمر متكامل، يتنقّل بسلاسة بين المختبر والمسرح، وبين اللوحة البحثيّة ودفء الضيافة.

توصيات علميّة من قلب الخليّة

على مدى يومين، ناقش أكثر من 34 خبيرًا عناوين حيويّة هي:

  • تأثير التغيّرات المناخيّة على سلوك النحل.
  • الذكاء الاصطناعيّ في مراقبة الخلايا.
  • الأمراض والأوبئة: من التشخيص إلى الوقاية.
  • النباتات الصديقة للنحل، وورش لصناعة مراهم ومواد تجميل من منتجات الخليّة.
  • وأخيرًا، طرح خريطة طريق عربيّة لتشريعات واستراتيجيّات نحل مستدام.

وفي الجلسة الختامية، تلا الدكتور محمّد حبيب التوصيات، مؤكّدًا ضرورة أن نعيد النظر في علاقتنا مع الأرض من خلال رعاية النحلة، لا استغلالها. وأعلن الدكتور فتحي بحيري عن منح “ثانوية السفير” عضويّة شرف في الاتّحاد، تقديرًا لدورها الرياديّ.

ما بدا مؤتمرًا للنحّالين في ظاهره، اتّضح أنّه منصّة لمواجهة أكبر: أزمة المناخ، تخريب النظم البيئيّة، واستهلاك الطبيعة حتّى آخر قطرة رحيق.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى