الفوسفور الأبيض يهدّد صحّة الجنوبيّين وزراعاتهم
أثارت مسألة تداعيات انتشار الفوسفور الأبيض في مواقع جنوبيّة عدّة، مخاوف الناس في المناطق التي يطالها القصف الإسرائيليّ يوميًّا منذ بدء العدوان على غزّة في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، لما سيكون لهذا الأمر من تداعيات سلبيّة على التربة والمياه والمحاصيل الزراعيّة وبالتالي على السلسلة الغذائيّة مستقبلًا، التي قد تؤثّر على صحّة الناس.
وهذا ما عبّر عنه صراحة جميع من التقاهم موقع “مناطق نت” في المنطقة، برغم انشغالهم راهنًا بكيفيّة النجاة من الموت جرّاء القصف اليوميّ المباشر عليهم.
النتائج الأوّلية
أظهرت نتائج فحوص أجريت على عيّنات من التربة أخذت من ثمانية مواقع جنوبيّة قصفتها إسرائيل بالقذائف الفوسفوريّة، وجود أربعين ألف جزيئيّة في المليون، وهي نسبة كبيرة جدًّا مقارنة مع النسبة الطبيعيّة التي تبلغ نحو مئة جزيئيّة في المليون، أيّ بزيادة 400 ضعف تقريبًا، وفق ما أعلنته وزارة البيئة أخيرًا، وأتت هذه الفحوص نتاج تعاون بينها وبين مختبر البيئة والزراعة والغذاء في الجامعة الأميركيّة في بيروت.
كذلك بيّنت الفحوص المخبريّة وجود أنواع أخرى من المعادن الثقيلة، كالأنتيمون والباريوم والرصاص، ما قد يؤدّي إلى تداعيات سلبيّة ستصيب المزروعات والأشجار في هذه التربة. وفي هذا السياق، أعلنت وزارة البيئة أنّها ستضمّ هذه النتائج إلى ملف الشكوى الذي تجهّزه الدولة اللبنانيّة، ضدّ إسرائيل أمام مجلس الأمن بتهمة استخدام القذائف الفوسفوريّة المحرّمة دوليًّا.
وكانت هيومن رايتس ووتش قد وثّقت في تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي استعمال القوات الإسرائيليّة الفسفور الأبيض، في عمليّات عسكرية نفّذتها في جنوب لبنان كما في غزّة، مستهدفة مناطق مدنيّة وحرجيّة وزراعيّة ما يعدّ انتهاكًا للقوانين الدوليّة التي تحظر استخدام مثل هذه الأسلحة.
فما هو الفسفور الأبيض؟
هو مادّة كيميائيّة منتشرة في القذائف المدفعيّة والقنابل والصواريخ، تشتعل عند تعرّضها للأوكسجين، تسبب حروقًا شديدةً للإنسان، غالبًا ما تصل إلى العظام، وتكون بطيئة في الشفاء أو قاتلة، لذا فهي محرّمة فوق المناطق المأهولة بالسكّان، وزيادة مستوياتها قد تؤدّي إلى تأثيرات سلبيّة كثيرة على التربة والمياه والهواء.
يتّفق الجميع في المرحلة الراهنة، على صعوبة تحديد حجم الضرر البيئيّ الذي سبّبه قصف مناطق جنوبيّة بالفوسفور، منذ بدء الحرب على غزّة، ثمّ إنّ تقدير الضرر نفسه، أمر قابل للتبدّل طالما الحرب لا تزال مفتوحة هناك، وطالما أنّ المواقع التي أخذت منها العيّنات ليست في الخطوط الأماميّة حيث القصف هناك أكثر حدّةً، علمًا أنّ نتائج الفحوص نفسها ستكون مختلفة لو أنّها أخذت بعد العاصفة الشتويّة التي اجتاحت البلاد.
أظهرت نتائج فحوص أجريت على عيّنات من التربة أخذت من ثمانية مواقع جنوبيّة قصفتها إسرائيل بالقذائف الفوسفوريّة، وجود أربعين ألف جزيئيّة في المليون، وهي نسبة كبيرة جدًّا مقارنة مع النسبة الطبيعيّة التي تبلغ نحو مئة جزيئيّة في المليون، أيّ بزيادة 400 ضعف تقريبًا.
لكن من حيث المبدأ، توجد عوامل كثيرة تلعب دورًا أساسيًّا في تحديد تأثيرات الفوسفور الأبيض على التربة والهواء والمياه الجوفيّة، بحسب ما تؤكّده النائب والخبيرة في التلوّث البيئيّ، البروفّسور نجاة صليبا لـ”مناطق نت” قائلة: “لا يوجد جواب واحد حيال الأثر المتوقّع، هناك عوامل كثيرة تؤثّر في تقدير الضرر، لجهة تفاعل الفوسفور أو عدمه، مدى تلوّث المياه، هطول الأمطار وانجراف التربة وسرعة تدفّق المياه في الأنهر وغيرها الكثير من الأمور التي تؤخذ في الاعتبار لمعرفة حجم الضرر”.
تشرح صليبا كيف يمكن للفوسفور الأبيض “أن يتفاعل مع الأوكسجين، وينتج عنه غازات حارقة تصل حرارتها إلى 800 درجة مئويّة، لكنّه في بعض الأحيان لا يتفاعل ويتبعثر في الهواء عدّة ساعات”. وتعتبر “أنّ الأخطر في مسألة تلوّث المياه بكمّيّات كبيرة من الفوسفور، أن يتناوله الإنسان عبر الأسماك”، لافتة إلى “إمكانية تجمّع الفوسفور في قعر الأنهر لفترات طويلة (سنوات) قبل أن يتفاعل. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى التربة، وقدرة تأثير الفوسفور الأبيض في الأشجار والنباتات”.
وتقول صليبا” “من المهمّ جدًّا معرفة المعطيات المتوافرة، لجهة مواقع العيّنات وهل تمّت مقارنتها بأماكن أخرى أو بنسب الفوسفور السابقة للقصف الإسرائيّليّ، توقيتها، كي نبني آراءنا العلمية”.
تربة ملوثة وأرقام
من جهته يؤكّد خبير التربة، الدكتور طلال درويش في حديث مع “مناطق نت” أنّ “عنصر الفوسفور في الأرض يتحوّل إلى عنصر كيميائيّ ويدخل في السلسلة الغذائية”، ويضيف: “عادة ما يستخدم المزارعون الأسمدة الفوسفوريّة لتسميد المزروعات، لكنّ الخوف يكون من احتواء المادّة العسكريّة على موادّ مشعّة، وبالتالي إذا كانت خالية منها فمخاطر القنابل الفوسفوريّة تنحصر في مفعولها الحارق على الكائنات الحيّة والحرائق، أمّا إذا تراكم الفوسفور بكمّيّات كبيرة في التربة فيسبّب ذلك تسمّم التربة وعدم صلاحيّتها للزراعة إلى حين إزالة الفائض من الفوسفور”. لافتًا إلى “أنّ الكالسيوم والحديد المتوافران في التربة يثبّتان الفوسفور في أشكال غير متحرّكة”.
وهكذا، لا أرقام دقيقة يمكن تأكيدها أو حتّى تقديرها عن حجم المساحات التي قصفت بالفوسفور جنوبًا. الأرقام الوحيدة المتوافرة حتّى الساعة، هي أنّ إسرائيل قصفت ما يزيد على 54 موقعًا جنوبيًّا بالفوسفور، وفق ما نشرته الحركة البيئيّة على صفحتها الرسميّة في “إنستغرام”، وهذه الأرقام قابلة للارتفاع أكثر طالما أنّ الحرب قائمة هناك.
وتشير الأرقام المتوافرة، إلى أنّ إسرائيل حرقت أكثر من خمسة ملايين متر مكعّب من الأحراج والأراضي الزراعيّة في الجنوب، مستخدمة قذائف الفوسفور أكثر من سبعين مرّة حتّى منتصف شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، من بينها ما يزيد على أربعين ألف شجرة زيتون.
الناس متخوّفون
تروي الشابّة مريم علي (22 سنة)، من قرية بليدا الجنوبيّة، حكاية قلقها من تلوّث التربة والزرع وتضرّر الناس وتقول: “الكل يحذّر من تنشّق أو تناول ما قد تلوّث بالفوسفور، يقولون إن الزرع يحتاج إلى شتاء غزير حتّى يذوب التلوث”، وتضيف “لكن حتّى نعود، فرجًا ورحمة”، فهي، قبل أيّام نزحت مع عائلتها إلى بيروت، هربًا من القصف المستمّر على القرية (وبليدا من البلدات الحدوديّة التي تشهد قصفًا مستمرًّا وعنيفًا منذ بداية الحرب على الحدود الجنوبيّة).
تروي الشابّة مريم علي (22 سنة)، من قرية بليدا الجنوبيّة، حكاية قلقها من تلوّث التربة والزرع وتضرّر الناس وتقول: “الكل يحذّر من تنشّق أو تناول ما قد تلوّث بالفوسفور، يقولون إن الزرع يحتاج إلى شتاء غزير حتّى يذوب التلوث”.
ومخاوف مريم مضاعفة، كونها معرّضة لخطر تناول المزروعات الملوّثة بعد عودتها إلى قريتها، ولأنّها تزرع بمشاركة عائلتها أنواع الزرع المختلفة، مثل القمح والبازيلّاء والفول والترمس والحمّص، وكلّ ما يُعدّ للمؤونة في فصل الشتاء، كما تزرع في الربيع، الخيار والبندورة والمقتى والكوسا واللوبياء والبامية وغيرها الكثير، وهي قد تخسر مصدر رزقها الأساسيّ بسبب التلوّث المتوقّع، كما أنّها لن تتمكّن راهنًا من زراعة مواسمها كما اعتادت في كلّ عام، إذا ما استمرّ الحال على ما هو عليه.
ومثل جنوبيّين كثر، لم تتمكّن مريم من قطاف موسم الزيتون هذا العام لأنّه تلوث بالفوسفور واحترقت بعض أشجاره، وهي لن تتمكّن كذلك من حصاد موسم الصعتر (الزعتر) إذا ما استمرّت الحرب “ولا نعلم إن كنّا سنتمكّن من قطافه أم لا” حسب ما تقول.
المزارعون أيضًا..
لا ينفي نقيب مزارعي الجنوب محمد الحسينيّ، في حديث لـ “مناطق نت” مخاوف المزارعين في الجنوب “من تعميم فكرة أن إنتاج الجنوب من المزروعات بات ملوّثًا، وهو أمر غير صحيح، ووزارة البيئة لم تتمكّن من زيارة المواقع كافة. والعيّنات التي أخذت لا تكفي من أجل إيضاح الصورة بالكامل. لذا لا بدّ من التنبّه إلى هذا الامر، لأنّ آلاف العائلات تعتاش من الزراعة في الجنوب شأنها شأن غالبيّة العائلات في الأطراف في مناطق البقاع والشمال”.
ويقول: “القصف الإسرائيليّ بالفوسفور استهدف المناطق الحدوديّة على عمق يتراوح بين أربعة وسبعة كيلومترات، وقد وأصاب حقول الزيتون والأشجار المثمرة والفواكه وبعض الأحراج. لذا ينتظر المزارعون أن تهدأ الأوضاع ويتمّ مسح كلّ المناطق التي أصيبت بالفوسفور الأبيض وعندها نبني على دراسات علميّة وواقعيّة”.
ويضيف الحسينيّ: “عادة ما نستخدم مادّة الفوسفور في الزراعة كمخصّب زراعيّ، ولكن بصيغة مختلفة عن استخدامات الحروب، وهو قد يتفكّك مع مرور الوقت. وبطبيعة الحال، نتوقّع أن تنخفض النسب التي ظهرت في نتائج فحوص الوزارة حينما ينتهي فصل الشتاء، كون جزء كبير من الفوسفور يتحلّل ويتبخّر”.
بانتظار انتهاء الحرب
ومن أجل معرفة حجم الأضرار، التي يصعب تحديدها في ظلّ الأوضاع الراهنة، تقترح البرفسور صليبا “إجراء مسح شامل للأراضي الحدوديّة، والأنهار التي تحيطها وكذلك إجراء رقابة مستدامة على الزراعة والتأكّد من مدى تأثّرها في ظلّ وجود الفوسفور في التربة والهواء والمياه، لكي يتمّ بعدها تحديد كيفيّة معالجة هذا التلوّث وبأيّ طريقة”.
يحدث ذلك، وسط تساؤلات كثيرة حول مدى جهوزيّة الوزارات المعنيّة (البيئة والزراعة) لمواجهة أثار وتداعيات هذا التلوّث الخطير بعد انتهاء الحرب المفتوحة على الحدود الجنوبيّة، وهنا يلفت خبراء البيئة إلى حساسيّة هذه المرحلة التي تتطلّب الكثير من الدقّة وأن تترافق مع إدارة رشيدة لمعالجة هذا الملف.
إلى ذلك، يلفت الخبير الزراعيّ من كلّيّة الزراعة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، الدكتور عصام بشّور، في حديثه لـ “مناطق نت” إلى “أنّ المدّة الزمنيّة المطلوبة لتعافي الأرض والنباتات والأشجار من الآثار المدمّرة للفوسفور، قد تتراوح بين 5 إلى 25 سنة، وفق الضرر الأساسيّ والموقع بحدّ ذاته، وأحيانًا، قد يكون الضرر أبديًّا، بعد احتراق النباتات وجرف التربة”.
وفي هذا السياق، يقترح بشّور على المزارعين ممّن لا يزالون متواجدين في قراهم الجنوبيّة التعامل مع مسألة تلوث التربة بحذر، “خصوصًا في حال كانت نسب الفوسفور الأبيض عالية. وذلك بالابتعاد عن مكان وقوع القنابل في أراضيهم، حوالي أسبوع، كي لا يتنشّقوا الأبخرة الضارّة الناتجة عنها، وبعد ذلك بفترة وجيزة، أخذ عيّنات تربة ممثّلة للحقل بغية تقدير نسبة الفوسفور المتاح للامتصاص بواسطة جذور النبات، ومن ثمّ حرث الأرض عن طريق خلط التربة وتمديد نسبة الفوسفور المتركز بالطبقة السطحيّة للتربة”.