تصدّعات تصيب الأبنية القديمة في طرابلس وتؤرق قاطنيها

أثقل الزمن كاهل أبنية الأحياء الشعبيّة الطرابلسيّة القديمة، بعدما أثار سقوط إحدى الشرفات في منطقة الزاهريّة المخاوف الجدّيّة من حدوث مزيد من الحوادث التي قد تزهق الأرواح. وقد شهد العامان الأخيران سلسلة حوادث مشابهة أدّت إلى وقوع ضحايا، إذ سقط يوم الأحد في 25 حزيران 2022، مبنى النشار في منطقة ضهر المغر، فأودى بحياة الطفلة جمانة كيدو (ستّ سنوات) فيما نقلت والدتها لينا إلى العناية الفائقة.

في حينه تفتّحت العيون على الوضع المتردّي لأبنية المنطقة، لكن لم تحصل أيّ خطوة جدّيّة لمعالجة الملف. وقد تكرّر المشهد أخيرًا بتاريخ الخامس عشر من كانون الأول/ ديسمبر العام المنصرم 2023، في حيّ ضهر المغر عينه، حيث فارقت فاطمة خالد طالب (ثمانون عامًا وهي معيلة أسرتها) الحياة بفعل سقوط شرفة سطح البناء الذي تقطنه، ووقوعها من أعلى.

بناء متصدّع في طرابلس

وتشير إحصائيّة غير نهائيّة، أعدّتها دائرة الهندسة في بلديّة طرابلس في العام 2021، وقائمة الجرد التي أعدّتها المديريّة العامّة للآثار، إلى وجود ما يزيد على 256 بناءً متصدّعًا معرّضًا للإنهيار بسبب الإهمال وعدم القيام بأعمال الصيانة الدوريّة، أو لأنّها مهجورة وغير مأهولة منذ زمن.

الزلزال حرّك الملف

جاء زلزال 6 شباط/ فبراير 2023، ليعيد الملف إلى الواجهة من جديد، بعد فترة من الركود. وقامت البلدية بوضع إشارات على المباني المعرّضة لخطر الإنهيار، ولكن في غياب التمويل، لا إجراءات جدّيّة في الأفق. في حينه، تطوّع عدد كبير من المهندسين، بالتعاون مع دائرة الأوقاف الإسلاميّة، بمسح ميدانيّ للمباني. ويوضح أحد المهندسين المشرفين أنّ “الفِرَق قامت بمهامها وواجبها كما يجب، وزوّدت الجهات الرسميّة بالتقارير التفصيليّة”.

أخيرًا، وفي 17 كانون الثاني/ يناير المنصرم، سبّب سقوط سقف الطابق الثالث من مدرسة النموذج الرسميّة للصبيان في حيّ المدارس، حالًا من الذعر بين التلامذة، وما زاد الطين بلّة، أنّ الطابق المتضرّر يضمّ صفوف الأطفال الصغار. دفع الإنهيار وزارة التربية الوطنيّة إلى اتخاذ قرار بإخلاء المدرسة مؤقّتًا، ريثما يتوافر تمويل للترميم.

جاء زلزال 6 شباط/فبراير 2023، ليعيد الملف إلى الواجهة من جديد، بعد فترة من الركود. وقامت البلدية بوضع إشارات على المباني المعرّضة لخطر الإنهيار، ولكن في غياب التمويل، لا إجراءات جدّيّة في الأفق.

وتؤكّد مصادر مطّلعة أنّ “الوزارة تدرك وضع صناديق المدارس، لذلك، هي تتوجّه إلى الجهات المانحة من أجل تأمين التمويل، وترميم الأجزاء المتضرّرة من المدرسة التي تعجّ بالتلامذة”. ويكشف أحد تلامذة المدرسة ويدعى هيثم. عن توزيع التلامذة على المدارس المحيطة، ونقلهم إلى مدرسة فرح أنطون لإكمال العام الدراسيّ.

إهمال الترميم بانتظار الفرج

تعكس جولة “مناطق نت” في الأحياء الشعبيّة داخل طرابلس “ضخامة الملف”؛ ففي شارع يزبك المتفرّع عن قصر آل كرامي، تظهر الأضرار الكبيرة في أحد المباني التراثيّة ذات الطبقات الأربع، فيما الشرفات تشي بأوضاع المبنى الداخليّة، حيث تبرز قضبان الحديد من أسفل البناء، وفيه يستمرّ السكّان بممارسة حياتهم اليوميّة، بينما يبدي أصحاب المحال المجاورة خشيتهم من سقوط أجزاء ووقوعها على الرصيف وتعريض حياة المارّة للخطر.

لا تختلف أوضاع الأبنية في محيط ساحة التلّ، حيث المباني الضخمة التي شكّلت في زمن من الأيّام الغابرة رمزًا للغنى والثراء، قبل أن تتحوّل إلى مبانٍ مهجورة.

يتكرّر مشهد الشرفات المنهكة والمتهالكة في منطقة الزاهريّة، حيث بُعثت الحياة في النباتات من بين ثنايا الجدران. في “شارع لطيفة” الواقع ضمن منطقة الزاهريّة، يستعجل عمّال البناء في ترميم الشرفة التي سقطت، والجيران “يحمدون الله” أنّ سقوط الشرفة حدث ليلًا، ولم يؤدِّ إلى سقوط ضحايا، فالشرفة تقع فوق رصيف يزدحم نهارًا بالمارّة، والأطفال العائدين من المدارس.

على حائط في طرابلس

في المقابل، يركن بعض سكّان الزاهريّة التي تعود عمارتها إلى الحقبة “الكولونياليّة” إلى خطورة موضوع الشرفات، لذلك قاموا بعمليّات تدعيم من خلال إضافة جسور حديديّة. وتزدحم الزاهريّة على غرار منطقة القبّة بالأبنية التراثيّة الضخمة، وقد شكّل سقوط مبنى المير خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر 2023 جرس إنذار للمصير الذي قد تتعرّض له باقي المباني المتروكة والمهملة من قبل المالكين والورثة.

ويتبدّى الوضع المزري والاهمال من خلال مظاهر مختلفة، حيث يعمد بعض المالكين الفقراء، أو المستأجرين القدامى إلى مجموعة من الإجراءات المؤقّتة على غرار ربط النوافذ المحطّمة، وتغطية الشبابيك بقطع من النايلون أو الكرتون، أو إضافة قطع إسمنتيّة للحفاظ على ما تبقّى من الأبنية، بالرغم من تشويه الطابع التراثيّ للأبنية العريقة.

مخاطر متعدّدة

تشكّل مجموعة من العوامل المشهد الحالي للأبنية المتصدّعة في طرابلس، إذ لا يتوقّف الأمر عند عامل الزمن، وإنّما يتجاوزه إلى الأثر العميق الذي أحدثته الحرب الأهليّة اللبنانيّة، والقصف الذي تعرّضت له المدينة بالأسلحة الثقيلة في منتصف الثمانينيّات، إبان خروج حركة فتح منها، ومن ثمّ دخول الجيش السوريّ والانتشار في المدينة التي تشكلّ مركز عاصمة الشمال اللبنانيّ.

يرفض خبراء العمارة تحديد عمر زمنيّ للإسمنت (الباطون) أو الحجر، لأنّ العناية والرعاية ترفع من أعمار المباني الإسمنتيّة التي يمكن أن تبقى بخير لأكثر من قرن. كذلك توجد مبانٍ حجريّة بكامل معالمها منذ العصر المملوكيّ، لذا، يتوقّف الأمر على الصيانة، ومنع تسرّب للمياه أو النشّ الذي يشوّه المنظر العام، ويؤدّي إلى خلخلة الأساسات والبنية.

يرجّح المهندس منذر حمزة عدّة أسباب “أدت إلى الوضع السيّء للمباني القديمة الطابع، والمعرّضة للتصدّع والسقوط، منها الكلفة العالية للترميم، ومنها قانون الإيجارات القديم الذي يحول دون ذلك، ناهيك عن الملكيّة الموروثة التي يتشارك فيها عدد كبير من الورثة، فضلًا عن وجود بعض تلك المباني في مناطق ذات معدّل عالٍ للاستثمار، ووجود مبانٍ كثيرة خارج دائرة تصنيف وزارة الثقافة”.

لتسهيلات تشجّع الترميم

يشدّد حمزة على أنّ “المعّدل المرتفع للاستثمار، يثير شهيّة المالكين لتركها تتهدّم أو تتهاوى”، ويضيف لـ”مناطق نت”: “إنّنا أمام عقار ذي قيمة مادّيّة كبيرة جدًّا، لذا يسمح القانون للمالك ببناء عشرة طوابق، موزّعة على ضعف ذلك من الشقق السكنيّة، لتحلّ مكان المبنى القديم المتهالك والمؤلّف من طبقتين أو ثلاث طبقات”.

من هذا المنطلق، يُطالب حمزة “المشرّعين بتخفيض معدّلات الاستثمار في المناطق ذات الطبيعة التراثيّة والتاريخيّة على غرار الزاهريّة، للحؤول دون حلول الأبراج مكان الوسط التاريخيّ القديم الذي يعتبر ثروة حضاريّة وتراثيّة”.

في موازاة ذلك، ينصح حمزة “الدولة بتشجيع المواطنين على الترميم، وتقديم تسهيلات، والعمل على حلّ ملف الإيجارات القديمة التي لا تعيد للمالك أيّ جزء من حقوقه”. ويأسف لأنّ “القيمة الحالية للمباني القديمة والقصور هي أقلّ بكثير من قيمتها الحقيقيّة، بسبب الفوضى التي تحيط بها”.

كما يشير حمزة إلى انصباب أعمال الترميم “على الواجهات الخارجيّة للمباني”، ويعطي مثالًا على ذلك “مباني سلطان وعزّ الدين الواقعة في ساحة التلّ، أعلى مقهى فهيم، ذات الجماليّة العاليّة التي رمّمت من الخارج برعاية الدولة التركيّة، وبأعلى المعايير الممكنة لأنّها تعود إلى الحقبة العثمانيّة، إلّا أنّ أحدًا لم يقطنها، وهذا أدّى إلى نتائج سلبيّة وخسارة بعض العناصر المعماريّة بفعل عوامل الزمن والطقس، ولعدم صيانتها دوريًّا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى