تردّي الأوضاع المعيشيّة والاقتصاديّة في البقاع يرفع أسهم أدوية الأعصاب

لم تعُد الضغوط اليوميّة الكبيرة، التي يعاني منها المواطن اللبنانيّ عمومًا والبقاعيّ خصوصًا، نتيجةً الأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة والحياتيّة التي يرزح تحتها الجميع، مجرّد حالةٍ روتينيّةٍ اعتاد عليها وألِفها، بل باتت تُلقي بثقلها الصحيّ على جسده وأحاسيسه، مسبّبةً له أمراضًا عصبيّة ونفسيّة، تجاوزت الحدود الطبيعيّة، بعد أن تحوّلت إلى أمراضٍ عصبيّةٍ، وبالتالي عضويّةٍ مزمنة.

وبحسب مصادر صيدلانيّة، فإنّ الطلب على أدوية الأعصاب والمهدّئات والموثّقة بوصفاتٍ طبّيّةٍ، آخذٌ في الازدياد، وأصبح يوازي الطلب على الأدوية العاديّة التي تتنوّع وتكثر.

وتفيد المصادر الطبّيّة لـ”مناطق نت” إلى أنّه في الآونة الأخيرة، ارتفعت نسبة متناولي أدوية الأعصاب والمهدئات، إلى أكثر من خمسٍ وستّين بالمئة، وهي نسبةٌ تعدّ مرتفعةً جدًّا في نطاقٍ سكّانيّ محدّد. وتؤكّد أنّ أدوية الأعصاب أسعارها مرتفعة، لأنّ غالبيتها مستوردة من الخارج، خصوصًا في هذه الظروف الصّعبة، حيث لا رقيب ولا حسيب على أسعارها، وهذا ما ينعكس عبئًا ثقيلًا على كاهل المواطن الذي لا يستطيع تأمين ثمنها في كثيرٍ من الأوقات.

وتلفت المصادر عينها، إلى أنّ لأدوية الأعصاب مضاعفاتٍ سلبيّةً على المدى البعيد، وقد تظهر في خلال سنواتٍ قليلةٍ، إلاّ أنّ التخلّي عنها في ظروفٍ وضغوط نفسيّةٍ سيّئةٍ يعيشها المواطن بشكلٍ يوميّ، ربّما يكون أمرًا مستحيلًا.

تفيد المصادر الطبّيّة إلى أنّه في الآونة الأخيرة، ارتفعت نسبة متناولي أدوية الأعصاب والمهدئات، إلى أكثر من 65 بالمئة، وهي نسبةٌ تعدّ مرتفعةً جدًّا في نطاقٍ سكّانيّ محدّد

جهلٌ بالمرض

التقت “مناطق نت” عددًا ممّن يتجرّعون أدوية أعصاب ومهدئات، وجاءت شهاداتهم على النحو الآتي:
يقول سامر وهو ربّ أسرةٍ من خمسة أفرادٍ إنّه بدأ يتناول أدوية الأعصاب منذ ثلاث سنواتٍ، بسب تعرّضه لأزمةٍ نفسيّةٍ أقعدته الفراش مدّة خمسة أشهرٍ، “حيث كنت أجهل في البداية مرضي المتّمثّل بأعراضٍ ظنّها الأطبّاء أنّها عضويّةٌ فوصفوا لي أدويةً علاجيّةً تناولتها أشهر من دون أن أشعر بتحسّن، إلى أن أشار عليّ أحد الأصدقاء بزيارة طبيبٍ نفسيّ، فلم أتقبّل ذلك في البداية إلى أن اقتنعت بعدها، وذهبت إلى طبيب أمراض عصبيّة في منطقتنا”.

ويضيف: “لقد بذل الطبيب جهودًا كبيرةً، حتّى استطاع إقناعي بأنّني أعاني من مرضٍ نفسيّ وليس من مرضٍ عضويّ، شأني شأن كثيرين في المنطقة، وأنّ الأمر بات يحتاج إلى دواءٍ مدّةً طويلةً، وأنّه ليس عيبًا، كون الضغوط النفسيّة تؤثّر في أعصاب الجسم مولّدة أعراضًا عديدةً تشبه أعراض الأمراض الحيويّة”.

ويختم بالقول: “أدرك أنّني سأبقى أتناول دوائي الجديد سنواتٍ طويلة وليس أشهر، لأنّ الأوضاع الصعبة التي نعيشها تأخذنا إلى الموت وليس إلى الأمراض النفسيّة فحسب”.

ضغوط واكتئاب

يشرح محمّد معاناته الطويلة مع مرض الاكتئاب الذي ألمّ به منذ سنتين، بعد أن عجز عن دفع أقساط أولاده الخمسة في مدرسةٍ خاصّةٍ ويقول: “لم أكُن مقتنعًا سابقًا بأنّ هناك أمراضًا نفسيّةً قد تصيبنا إلى أن أُصبت أنا بذلك، حيث تخطّت حالتي الأعراض التدريجيّة للمرض النفسيّ بالوصول مباشرةً إلى حالة الاكتئاب. وبدأت أتناول ثلاث أدويةٍ خاصّةٍ بالمرض يوميًّا، مع رجفةٍ باليدين تنتابني بين الحين والآخر، وطبيبي يؤكّد لي بأنّ وضعي يحتاج إلى علاج سنتين في المرحلة الأولى على أن نبني بعدها على النتيجة، المتَابَعة أو التوقّف عن تناول الأدويّة”.

ارتفاع الطلب على أدوية الأعصاب والمهدئات

ويضيف:”بعد إصابتي بالاكتئاب قلّت حيلتي وضعُفت قوّتي، علمًا أنّني لم أزل في الخامسة والأربعين من عمري، لكنّ مرض الأعصاب هدّني من الداخل، ولو كان عضويًّا لعالجْته بسرعة. وما يزيد من تطوّر حالتي هي الضّغوط المادّيّة اليوميّة التي أعاني منها من دون أن أجد مخرجًا لها”.

الضّغوط والقلب المفتوح

أمّا ياسر الذي لم يستطع استرجاع أمواله من أحد المصارف، فقد أجرى عملية قلبٍ مفتوحٍ منذ سنةٍ جرّاء الحالة النفسيّة السيّئة التي عاشها لأشهر عديدة، وهو بحاجةٍ للمال كي يجري عمليّةٍ جراحيّةٍ لابنه. “كنت أدرك أنّي قد اتعرّض لجلطةٍ دماغيّةٍ أو قلبيّةٍ في أيّ وقتٍ، وقد حصل بالفعل ما تطلّب إجراء عمليّة قلبٍ مفتوحٍ بعد نوبة قلبيّة بساعاتٍ قليلةٍ. وقد قال طبيبي لي بعد أن تحسّن وضعي الصحيّ أنّ مرضي سببه الضغط النفسيّ الكبير، وأنّني بحاجةٍ لتناول مهدّئاتٍ لأعصاب على الدوام، تخفيفًا للضغط على الشرايين الدمويّة وبالتاليّ إراحة الأعضاء الحيويّة”.

ويختم متسائلًا: “كيف لي أن أبقى سليمًا صحّيًّا وأنا لا أزال أعاني من السبب الصحّيّ نفسه؟! ثمّ، إنّ المصاريف زادت عليّ بين أدويةٍ خاصّةٍ بالقلب وأخرى للأعصاب وبأسعارٍ مرتفعةٍ تفوق الخيال”.

رأي الطّبّ

للأطباء آراؤهم حول أسباب ارتفاع عدد المصابين بالأمراض العصبيّة والنفسيّة في المنطقة. يقول الدكتور علي القاق المتخصّص بالأمراض العصبيّة والنفسيّة لـ”مناطق نت”: “إنّ أعداد المصابين بالأمراض العصبيّة والنفسيّة في لبنان عامّةً وفي البقاع بشكل خاصّ كبيرةٌ ومرتفعةٌ، وهي في ازديادٍ مضطّرد، وهذا مردّه إلى الأوضاع الصعبة التي يعيشها المواطن على كلّ المستويات، فالجسم البشريّ يتأثّر بالظروف المحيطة به ويتفاعل معها سلبًا أو إيجابًا”.

يتابع القاق: “إنّ الأعضاء الداخليّة للإنسان حسّاسة جدّا وأيّ عاملٍ خارجيّ ينعكس عليها يتبدّى بأعراضٍ وأوجاعٍ مختلفةٍ وهو أمرٌ يصيب، اليوم، ناسنا في المنطقة بسبب ما نمرّ به من مشكلات وأزمات متعدّدة لها علاقة مباشرةً بحياة المواطن”.

الطبيب علي القاق: أعداد المصابين بالأمراض العصبيّة والنفسيّة في لبنان عامّةً وفي البقاع بشكل خاصّ كبيرةٌ ومرتفعةٌ، وهي في ازديادٍ مضطّرد، وهذا مردّه إلى الأوضاع الصعبة التي يعيشها المواطن على كلّ المستويات

ويؤكّد القاق أنّه لا يكاد يمرّ يومٌ واحدٌ إلاّ ويستقبل حالةً أو حالتيْن، منشأها نفسيّ “فأضّطرّ لوصف أدوية نفسيّة إلى جانب الأدوية العصبيّة كون الحالة النفسيّة السليمة تلعب دورًا مهمًّا في استرخاء العضلات وبالتالي الأعصاب، وهذا ما يؤدّي إلى إعادة التوازن للجملة العصبيّة الكاملة في الجسم”.

ويرى القاق “أنّه وفي ظلّ الظروف والأوضاع القاسية والمتردّية التي تخيّم على منطقتنا وأحوال أبنائها فإنّ الأمراض النفسيّة والعصبيّة ستزداد، وقد تؤدّي إلى مخاطر كبيرةٍ وتؤثّر في استقرار الأسر وديمومتها”.

من ناحيته يلفت الدكتور علي العزير وهو متخصّص بأمراض الجهاز الهضميّ في حديث لـ”مناطق نت” إلى أنه غالبًا ما يستقبل مرضى مصابين بأمراضٍ في المعِدة والجهاز الهضميّ “سببها حالةٌ نفسيّةٌ سيّئةٌ وعلاجها لا يتمّ إلاّ بمعالجة الضغط النفسيّ أولًا، كونه المسؤول عن تشنّج والتهاب الأمعاء وذلك بوصف أدوية أعصابٍ ومهدّئات لمدّةٍ لا تقلّ عن ستّة أشهرٍ كمرحلةٍ أولى”.

ليتنا نستطيع تجنّبها

ويؤكّد العزيز “أنّ عدد الحالات التي تعاني من مشاكل نفسيةٍ كثيرةٌ، حتّى أنّها تفوّقت على عدد المصابين بأمراضٍ عضويّةٍ. وأنا كنت قد حذّرت سابقًا من مغبّة الوصول إلى ما نحن عليه بسبب ما يعانيه المواطن البقاعيّ من مشكلاتٍ مادّيّةٍ واقتصاديّةٍ ومعيشيّةٍ عديدة”.

ويخلص إلى “أنّ الوصفات الطبّيّة الخاصّة بتهدئة الأعصاب وإن كانت علاجًا لا مفرّ منها في بعض الحالات الصحّيّة، إلاّ أنّ لها مضاعفاتٍ سيّئةً على المدى الطويل؛ وليتنا نستطيع تجنّبها”.

ويبقى السؤال: إلى متى سيبقى المواطن البقاعيّ يعاني ويتحمّل في ظلّ أوضاع اقتصاديّة واجتماعيّة وأمنيّة صعبة، في ظلّ غياب المسؤوليّات والمسؤولين على مختلف الصعد. وهل ستصبح المهدّئات النفسيّة والعصبيّة علاجًا دائمًا له بدل الحلول الحقيقيّة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى