اللاجئون السوريون في لبنان… وحكايات مريرة عن تـأمين قبور لموتاهم
تقول الحكمة المعروفة “إكرام الميت دفنه”. أما النازح السوري (أو اللاجىء) في لبنان فيقول حكمة خاصة به “إكرام الميت ايجاد قبر له”..
لم تكن محنة النزوح والتشرد فقط هي التي يعيشها النازحون السوريون في مشارق الأرض ومغاربها، مع ما فيها من معاناة قاسية لتأمين أبسط مقومات الحياة من مسكن وملبس ومأكل ومشرب إلى الطبابة والاستشفاء والتعليم. بل تعدّت إلى ما هو أبعد من تفاصيل الحياة الطبيعية إلى الذل في الموت.
ولم يشكل الهروب واللجوء للكثير من السوريين في لبنان نهاية فصل مؤلم من حياتهم تمثل بخسارتهم لجنى أعمارهم. ولكن المعاناة امتدت لتشمل مماتهم أيضاً. فإذا ما مات أحد اللاجئين في لبنان، لا يملك ذووه رغد العيش مع الخسارة والفقدان. إذ ثمة واجبات عليهم القيام بها تكون أشد قسوة من الحزن على الميت نفسه، كتأمين قبر ودفع تكاليف الطبيب الشرعي وإحضار سيارة النقل والاستحصال على شهادة الوفاة، وفي كثير من الأوقات تأمين مبالغ طائلة لإخراج الجثة من المستشفى.
لافتات عنصرية ضد الموتى
شكلت قضية “دفن” النازح السوري الذي توافيه المنية في لبنان مسألة شائكة لأهله قاسوا منها الكثير من القهر. إذ ليس من السهل أن تجد للفقيد “قبرًا” لاسيما أن المخيمات المنتشرة بقاعًا وشمالًا أقيمت في خراج بلدات صغيرة تضم مقابر بالكاد تكفي أهاليها، خصوصًا أن هناك بلدات تجاوز عدد النازحين المقيمين فيها عدد أهاليها مرتين وثلاث.
في البقاع تنتشر مخيمات النازحين حول القرى لتشكل “حزامًا” من البؤس يلفّها من كل جانب. صحيح أن المنظمات الانسانية المحلية والأجنبية تهتمّ بالكثير من متطلباتهم الحياتية، لكن مسألة العثور على “قبر” في هذه القرى بات يتطلب جهودًا كبيرة للاستحصال على إذن بالدفن في مقابر هذه القرى. وفي كثير من الأحيان يبقى الجثمان في براد المستشفى لأيام قبل الوصول إلى حل.
وسط هذا الكم الكبير من الألم طفا على السطح ألم التعامل غير الإنساني مع هذا الموضوع. إذ أن التعاطي بلغ مرحلة “العنصرية” حين رفعت على مداخل بعض المقابر لافتات تنبه بعدم استقبال جثامين النازحين. وبالرغم من استحداث عدة “مقابر” في خراج “الجراحية-المرج” ومجدل عنجر والفاعور لكن المسألة تفاقمت كثيراً ولم تعد القضية مسألة دفن من عدمه، بل مسألة وجود المساحات الكافية لهذا الأمر.
وفق الأرقام التقريبية يوجد في لبنان ما يزيد عن مليون ونصف المليون نازح. تشكل نسبة المسجلين منهم بصورة شرعية تقريبًا 40% بينما النسبة الباقية تفتقر إلى الإقامة القانونية. هذا الأمر وضع الكثير من العقبات في طرائق التعامل المباشر مع هذا العدد الهائل، وتسبب في إرباك الادارات المحلية للقرى والبلدات التي يوجد في نطاقها مخيمات للنازحين، خصوصاً في مسألة الوفيات وعمليات الدفن.
تشكّل أزمة الدفن
أمين سر دار الإفتاء في البقاع فضيلة الشيخ عاصم الجراح أوضح لـ “مناطق نت” أن أزمة دفن النازحين السوريين بدأت منذ قرابة الخمس سنوات. فقبل هذه الفترة لم تشكل عملية الدفن أي عائق، لكن امتلاء المدافن وضيق مساحتها الجغرافية جعل المشرفين على البلدات يمتنعون عن استقبال أي جثمان. لذلك وببادرة من بعض السوريين واللبنانيين تم شراء قطعة أرض في منطقة حوش الحريمة وتسجيلها في دائرة الأوقاف كـ “مقبرة” بحيث يتم دفن الحالات من غالبية المخيمات المنتشرة وليس فقط من المخيمات القريبة منها. وقد امتلأت اليوم بما يقارب الـ 950 قبرًا وبات من الضروري البحث عن قطعة أرض إضافية لهذه الغاية.
وأشار الشيخ الجراح إلى أن هذا الواقع لم يفرضه التمايز بين اللبناني والسوري على الاطلاق. فبعض القرى حتى اليوم ما تزال تستقبل جثامين النازحين المتوفين فيها شريطة أن يكون من المسجلين في نطاق بلدتهم. لأن مقابرهم واسعة جغرافياً ولا ضير من دفن السوري فيها. والبلدات التي امتنعت لم تمتنع إلا لسبب ضيق المقابر، ففي بلدة سعدنايل على سبيل المثال ضاقت جداً حتى بلغ الأمر أن يدفن في القبر الواحد أكثر من متوفى.
رئيس بلدية سعدنايل السيد حسين الشوباصي شرح لـ “مناطق نت” أسباب عدم السماح للنازحين بدفن موتاهم في مقبرة البلدة لضيق مساحتها الجغرافية. ولم يسجل حالات دفن في البلدة منذ سنوات خصوصاً بعد إنشاء مدافن خاصة للنازحين في منطقة القادرية- حوش الحريمة، بالاضافة إلى مدافن آل الشقيف في تعلبايا وهي مدافن عائلية خاصة سمحوا لبعض الحالات بالدفن فيها. وهذا ما رتب أعباء إضافية على النازحين. لكن ما باليد حيلة كي لا نضطر لإقفال المقبرة في وجه أهالي البلدة أيضاً، خصوصًا بعد الواقع الصعب الذي عايشناه خلال السنتين الأخيرتين مع تفشي جائحة كورونا ونتائجها المخيفة.
ضغوط على مقابر المقيمين
لا إحصاء دقيقًا لعدد الوفيات لدى النازحين السوريين في لبنان، لكن وفق تصريحات لرؤساء بلديات حاليين وسابقين تسجل حالة وفاة واحدة كل اسبوع في أكثر من مخيم. الأمر الذي شكل ضغطًا كبيراً على مقابر هذه القرى، فاتخذت إجراءات مشددة تمنع دفن النازحين فيها والسبب ضيق المقابر وليس أمرًا آخر. في خطوة وصفها البعض بـ “العنصرية” لكنها حقيقة قائمة وموجعة، إذ أن أعداد النازحين في بعض القرى تجاوز أعداد الأهالي بضعفين أو ثلاثة.
بدوره رئيس بلدية مجدل عنجر السيد سعيد ياسين قال لـ “مناطق نت” أنه منذ وصوله إلى موقعه في العام 2016 اكتشف هذه الأزمة. لاسيما أن عدد النازحين السوريين المقيمين في النطاق الإداري لبلدة مجدل عنجر كبير جدًا. وقد تسبب في ضغط كبير على “المقبرة” الأمر الذي كان سيؤدي إلى إقفالها أمام اللبنانيين والسوريين على السواء. لذلك استحدثنا قطعة أرض وجعلناها “مقبرة” لحالات الوفاة التي تصيب النازحين المقيمين في نطاق بلديتنا حصرًا. وفيها حتى اللحظة ما يزيد عن 200 قبر، وقد ضبطناها بالأطر الدقيقة لمنع وقوع أي تجاوزات في هذه الناحية.
من بلدتي المرج وبر الياس المتداخلتين جنوباً حتى بلدة القرعون وشمالا حتى بلدة رياق وشرقاً وصولاً إلى مجدل عنجر وكفرزبد وغرباً حتى قب الياس وأعالي بلدة بوارج، تنتشر مخيمات اللاجئين ذات الأعداد الضخمة. وتشير دراسات لمنظمات دولية أن نسب الوفيات لدى النازحين تفوق تلك المسجلة في صفوف اللبنانيين. (حالة وفاة واحدة على الأقل أسبوعياً في أكثر من مخيم). ومرد هذا الأمر إلى خطورة البيئة التي يعيشون فيها، وفقدان الكثير من مقومات الحماية الصحية، لاسيما خلال جائحة كورونا وما خلفته من ضحايا في صفوف اللبنانيين والسوريين على السواء.
بائعو القبور
“بخلانين علينا بشقفة قبر”.. بكثير من المرارة والألم والقهر تروي “نجاة م.” الزوجة الثكلى لـ “مناطق نت” معاناتها بعد وفاة زوجها. فتقول “تعرّض زوجي إلى عارض قلبي خطير. ولم يسعفنا الوقت لبلوغ المستشفى في الوقت المناسب ففارق الحياة. لم تكن مصيبة الموت هي الوحيدة التي نزلت علينا، بل تبعتها إجراءات الدفن. والمأساة الحقيقية أن البلدة التي نسكن في أحد مخيماتها رفضت دفنه في مقابرها. وبقي الجثمان في براد المستشفى ثلاثة أيام حتى استطعنا الحصول على إذن الدفن في “مقابر” بلدة مجاورة. الأمر الذي دفعني لترك المخيم والانتقال إلى مخيم قريب من المدافن لأتمكن من زيارة قبره وقت أشاء.
“إبراهيم ب.” وهو يقيم في مخيم فقد ولده نتيجة حادث دراجة نارية. رأى أن الموت وحده لم يعد هو الوجع الحقيقي. أصبح النازح يقاسي وجعًا أكبر وهو يلتمس الرجاء من القيمين على القرى من إدارات محلية للسماح لهم بإتمام عملية الدفن. ويقول “فقد تعاملت الشرطة البلدية معي بطريقة انتهازية طالبين مني تسديد مبلغ مليون ليرة لبنانية لاعطائي الإذن بالدفن من دون الالتفات للمصاب الذي أنا فيه”.
لم يترك اللبناني النازح السوري لتصاريف الزمن، لكن “العين بصيرة واليد قصيرة”. ففي كثير من الأحيان يتشارك المقيم مع النازح المأساة ذاتها، ويقف بجانبه حتى من دون “معرفة” خصوصاً في مراسم الدفن. ويؤكد حسين (المشرف على مقبرة بقاعية) أن الأهالي لدى علمهم بحالة وفاة يسارعون للمشاركة في مراسم الجنازة ويؤدون الصلاة عليها كما تندرج العادة في الساحات المخصصة لهذا الأمر في المقابر. إذ ليس من عادات البقاعيين الصلاة على الميت في الجوامع أو الحسينيات، ويؤم المصلين أئمة القرى المجاورة.
عقبات عودة جثامين إلى سوريا
“اسماعيل ح. ع.” قال إن المعاناة التي عاشها جراء وفاة زوجته كانت لا تطاق. وبعد العجز عن تأمين إذن لدفنها في مقبرة البلدة التي يقيم فيها، “اضطررت لشراء القبر سرًا (مليوني ليرة) من حارس المقبرة”. ويضيف “قمت بدفنها ليلاً، بمشاركة عدد محدود جداً من الأقارب وقمت بالصلاة عليها بنفسي. إذ أنه من المستحيل أن أفكر بنقل الجثمان إلى سوريا لأسباب تتعلق بأنني مطلوب ومطارد من النظام”.
العقبات التي تواجه نقل “الجثمان” من لبنان إلى سوريا كثيرة، إدارياً ولوجستيًا، فالتواصل مع “السفارة السورية” في لبنان دونه عقبات، يأتي في مقدمها الواقع السياسي للنازح تحديدًا الذي قد يكون من المعارضين للنظام. بينما تنفي السفارة السورية وجود أية عراقيل أمام هذا الأمر وجل ما تطلبه هو تقرير طبي من المستشفى يوضح أسباب الوفاة وبعض التفاصيل الطبية إضافة إلى أوراقه الثبوتية والتي اعتمدتها مفوضية اللاجئين. أما في حال عدم توافرها، فإن السفارة تراعي هذا الأمر وتقدم التسهيلات اللازمة لاتمام عملية نقل الجثمان بالتنسيق مع الصليب الأحمر الدولي.
“مصطفى م.” مواطن بقاعي يملك أراض كثيرة وبعضها يبعد عن بلدته رفض بيع قطعة أرض يملكها لانشاء مقبرة. إذ اعتبر أن وجود مقبرة بجوار أراضيه الباقية سيقلل من قيمتها مستقبلاً عندما يقوم بفرزها للبيع. وهذا الأمر شكل عائقا كبيرًا أمام اللجان والهيئات المحلية التي تبحث باستمرار عن حلول لهذا الواقع الأليم.
مختار بلدة المرج صلاح صالح والذي يتابع الكثير من المعاملات المتعلقة بهذا الشأن أوضح أن هذه الأزمة تعاني منها غالبية القرى والبلدات البقاعية التي تتواجد فيها مخيمات النازحين. وتسهيلاً لهذه المعاناة وبالتنسيق مع بعض المنظمات الدولية تم إنشاء مقبرة خاصة في منطقة “القادرية-حوش الحريمة” لحالات الوفاة عند النازحين فقط والذين لا يملكون القدرة المالية لإرسال المتوفى إلى سوريا أو لدفع تكاليف القبر في بعض القرى.
مستندات الدفن
وعن المستندات المطلوبة لترحيل الجثمان إلى سوريا، يقول المختار صالح أننا ننظم “وثيقة وفاة” حسب الأصول بالاستناد إلى تقرير طبي صادر عن المستشفى يوضح فيها أسباب الوفاة وطبيعتها، ونرفقها بالأوراق الثبوتية اللازمة ونرفعها للسفارة السورية التي تقدم التسهيلات المطلوبة لعملية الترحيل.
معاناة الموت والفقد ليست الوحيدة التي يعاني منها النازح السوري في فقدان عزيز له. بل تمتدّ لناحية إنسانية أخرى ستؤرقه مستقبلًا عند عودته إلى سوريا، ماذا سيفعل بفقيده المدفون في لبنان؟، يقول “مهند ش.” ” دفنت والدي ووالدتي وأخي هنا، في لبنان صار لي ثلاثة قبور، ومن واجبي الديني والأخلاقي أن أزورهم باستمرار. وبقاء الجثامين هنا سيشكل عبئًا كبيرًا علي مستقبلاً. أما محاولة نقل الجثامين فدونها عقبات دينية وإدارية ولوجيستية، إذ ليس من عاداتنا نبش قبور أحبتنا ولو بعد حين ولا نفكر في هذا الأمر على الإطلاق” .
رغم كل شيء ورغم التسهيلات والمساعدات التي تقدم للنازحين السوريين في لبنان، تظل قضية “دفن” أمواتهم مسألة تشوبها الكثير من النزعات الانسانية، خصوصًا عندما يقف النازح حائرًا أمام وجعه المزدوج. الموت وعدم القدرة على “إكرام فقيده” على الأقل “بدفنه”، وكأنهم يقتاتون الموت كالخبز اليومي.