“الليدو” و”الأوتوماتيك” و”الشقيف”.. أندية النبطية حيث صار الخمر تمرًا

إذا ما حدّثنا شبّان اليوم عن أجواء النبطية في السبعينيات، سيعتبرون الوصف، ضربًا من المبالغة، أو أن الراوي يقصد جونية لكنه أخطأ فقال النبطية. كيف لا ونحن نتكلم عن مسابقة لملكات الجمال، ونادي “الليدو”، و”الاوتوماتيك”، و”نادي الشقيف”، بالإضافة إلى دور سينما ومطاعم، بل وماكينات ألعاب “فليبرز”، مع توافر المشروبات الروحية في بعض تلك الاماكن.

لا شك بأن طبيب الأشعة “نظام ابراهيم”، هو خير شاهد على ذلك الزمن الذي يحكي بعض تفاصيله بدقة لا تخلو من الوصف المشهدي، وها هو يبدأ بالحديث لـ “مناطق نت” عن آلة “توكا ديسكو” التي كانت صرعة زمانها فيقول: “لا أعتقد أن جيل شباب اليوم يعرف ما هي هذه الماكينة. إنها صندوق الموسيقى toca disco (أو جوك بوكس)”.

صندوق الموسيقى toca disco (أو جوك بوكس)

يتابع طبيب الأشعة “في أوائل السبعينات افتتح صديقنا حسن بارود، نادي “الليدو” في النبطية فوق سينما كابيتول، وأدخل هذه الماكينة لأول مرة إلى المنطقة، وكانت تحوي عددًا كبيرًا من الأسطوانات لأغانٍ عربية وأجنبية، وما عليك سوى أن تُدخل قطعة نقدية من فئة “عشرة قروش” ثم تضغط على أحد الأزرار لتختار أغنية لسماعها”.

يتوقّف ابراهيم ليترحّم على صديقه حسن بارود، مؤسّس ذلك النادي “الثوري”، وكأنه يترحّم على زمن ووري الثرى مثل ذلك الصديق، ويتابع سرده ليتشعّب من دون أن تفقد تلك الشعاب اتصالها بمركزية الفكرة، ألا وهي إعادة استجماع تلك الصورة الكبيرة، وكأنه في كل تفصيل يركّب قطعةً من “البازل” لاتضاح الرؤية: “كان نادي الليدو ملتقى الشباب العاشق والمحب الموسيقى في النبطية، وفي الطابق السفلي من النادي كانت سينما كابيتول وفي مكان آخر كانت سينما ريفولي أيضا”.

عرَق على “شط العرب”

إذا ما تعاملنا بجديّة مع اسم ذلك المطعم، لا بد من أننا سنتخيّله مكانًا واسعًا، متراميًا، ولو أنّ ذلك ليس واقعه البتّة، لذلك يصف لنا الدكتور نظام المكان الّذي لم يُفتح بابه سوى في الليل. هو ذلك المكان الصغير تحت الدرج المؤدي إلى نادي الليدو، وهو مطعم زاوية صغيرة يتسع لأربع طاولات فقط وفيه “تخباية حلوة” يليق بكاس عرق مع صوت أم كلثوم على حدّ تعبيره. نزولًا صوب كاراج الإتحاد، وإلى اليمين كان مقهى “بانكو” فوق مكتبة “هاني الزين”، هناك أيضًا كان مكانًا لتجمع الشباب ولعب الورق، وأيضًا للهروب من الدرك وقت التظاهرات.

يشير الدكتور نظام إلى أنهم في تلك القهوة وضعوا مخططات المظاهرة وكتبوا الشعارات. ويضيف: “كان المرحوم عبد الوهاب السلعاوي “أبو بهيج” الذي كان معنا في الحزب القومي، يؤمّن لنا المخبأ ويحمينا إذا ما لحق بنا الدرك. بقرب المقهى كان ولا يزال مطعم الكومودور، كانت لنا زاوية هناك لم تعد موجودة اليوم. أتذكر المازة التي كانت “عرايس كفتا” مع صحن الحمص والسرفيس وقنينة العرق.. كنا نحضرها من المحل المقابل من عند “الرضي”، مع الفروج المشوي وصحن “السودا” و”لسانات”.

مهرجان الشعر الجنوبي الأول في نادي الشقيف سنة 1973

يتابع الدكتور نظام “كنا نكمل السهرة في “الأوتوماتيك” عند المرحوم “نديم جابر”. وإذا كان الطقس جميلًا كنا نتجه مشيًا إلى “الجزاير” صوب مفرق كفررمان. هناك كان المكان جميلًا أيضًا، قهوة وشاي وأرجيلة وكاس.. طبعًا كلّ ذلك ذكريات ليلة من الليالي التي لم تكن تقصف فيها إسرائيل النبطية. في هذه الحال، كان الوضع مختلفًا، ولكننا كنا ننسى في اليوم التالي وكأنّ شيئًا لم يكن”.

ملكة جمال النبطية

المراقب لتلك الحقبة، سيتنبّه إلى الدور المفصلي الذي قام به “نادي الشقيف” حيث كان يتعاقد مع فرق موسيقية، خصوصًا في فصل الصيف، وفي فترة احتشاد المغتربين. هناك نُظِّمَت مسابقة لملكات الجمال، فازت بها الطالبة “لندا طه”، التي لم تكن قد أنهت دراستها الثانوية، كما جرى انتخاب وصيفات لها، وبقي ذلك الحفل حديث الناس في النبطية وقراها لأيام طويلة.

انتخاب ملكة جمال النبطية في نادي الشقيف خلال شهر تموز سنة 1972 (الصورة من أرشيف علي مزرعاني)

في تلك المرحلة تابع شبّان النبطية آخر صيحات الموضة: القميص الضيّق، ذا الياقة الممتدة مثل جناحين حول الرقبة، أما البنطال فكان “شارل ستون” باتساع 40 سنتم من ناحية القدمين، بينما كانت تسريحات الشعر تلحظ إخفاء الاذن، بالتعاون مع السالفين الطويلين، ولم يكن الأمر لينجح دون “سيشوار” أو “فير”.

العرَق والجلاب

عن ذلك التحوّل بين الأمس واليوم، يتابع الدكتور نظام مشوار الذكريات فيقول لـ “مناطق نت”: “هيك كانت حياتنا بالنبطية من خمسين سنة.. هلّق تغير الجو، بعض الأماكن اختفت والبعض الآخر صامد، وفي ناس بعدها عايشة، إنما الرفاق رحلوا. كنا مجموعة متماسكة نفتش على بعضنا كل يوم لنخترع المشاريع والضهرات، والسهرات. للأسف، الجزء الأكبر من “الشلة” صاروا بالعالم التاني. ما رح أذكر أسماء الأصحاب والرفاق لأن البعض منهم يمكن ما يحبّوا ذكرهم وخاصة إنو الحديث فيه خمر وموسيقى وسينما، وهيدي الأمور بالنسبة للبعض صارت حرام، واستبدلوا الخمر بالتمر، والعرق بالجلاب.. بس بعدنا أصحاب”.

لا نستطيع معالجة ذكريات الدكتور نظام ابراهيم، تحت خانة الشوق إلى زمن مضى والحنين إلى الأماكن التي محتها الأيام، والحزن على رفاق قضوا قسطهم من الحياة وغادروها، كلّ لسبب. إنما في تلك المرويّة ثمّة إحياء للقطات جرى اقتطاعها من ذلك الشريط، بعملية بتر للذاكرة، ولا نقول تلك الكلمة الفنيّة “مونتاج”، ذلك لأن في الأمر افتعالًا لتدوين التاريخ بحبر آخر، كأن “المنتصر” يفرض رؤيته على التاريخ.

الدكتور نظام ابراهيم يقف أمام مدخل نادي الشقيف وكان قيد البناء، وذلك في العام 1971
الدكتور نظام ابراهيم

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى