المتقاعدون أعمارهم ضاعت ورواتبهم هزيلة بلا جدوى
سعوا للوظيفة العامّة شابات وشبّانًا يافعين، والأحلام كانت كبيرة، بيت هانئ مع الحبيب، عائلة سعيدة، أطفال يولدون يكبرون ويتعلّمون ويتخرّجون، ثم يأتي الأحفاد فيذكّرونهم بربيع العمر، هكذا تتوالى الأجيال ليبقى الإنسان سيّد المعمورة.
هذه ليست مقدّمة رواية خياليّة تُلقى على مسامع الأطفال، ولا “سيناريو” دراميًّا لمسلسل رمضانيّ قيد الإنتاج، بل حال اللبنانيّ في الوظيفة العامّة قبل التقاعد، قبل رثائه سنوات عمره الضائع، قبل سرقة ما جناه طوالها في تعاميم المصارف، وقبل أن يقضي انهيار البلد سياسيًّا اقتصاديًّا وأمنيًّا على ما تبقّى حتّى على الأمل.
“كنت أعيش سلطان زماني”
متّكئًا على عكازه المعدنيّ وهو على أبواب الثمانين من عمره، في بلدته رأس بعلبك، يقول رئيس المصلحة الإداريّة والماليّة لإهراءات مرفأ بيروت سابقًا فواز الغضبان لـ”مناطق نت”: “عملت في مرفأ بيروت 40 عامًا من سنة 1970 حتى الـ2009، أجمل سنوات العمر قضيتها في المرفأ، كبرنا سويًّا حتّى غدا المرفأ عنوان وواجهة لبنان البحريّة على العالم”.
ويضيف: “مرّت علينا الحرب الأهليّة وكلّ المشاكل، وبقينا نعمل برغم الصعاب، الهدف كان العيش الكريم و”ضمان كبرتنا” لكن للأسف زعماء هذا البلد لم يقبلوا لنا “كبرة محترمة فبهدلونا بكبرتنا” تقاعدت من وظيفتي على السنّ القانونيّة، أمنيتي كانت أن أعيش ما تبقّى لي من العمر بين أهلي وأصدقائي في منطقتي وبلدتي التي غبت عنها سنوات كثيرة بسبب العمل، لكن النتيجة معروفة للجميع، تقاعد بلا رواتب ولا تعويضات، المتقاعد اليوم يعيش معاناة قاسية إذا كان أولاده من ذوي الدخل المحدود. كنت أعيش حياة مرفّهة “سلطان زماني راتبي كان جيّدًا جدًّا” لكنّهم بالمختصر: سرقوا عمرنا وتعبنا وبهدلونا بكبرتنا حتّى صرنا نشحد حقنا من البنوك”.
يتابع الغضبان: لم يكتفوا بسرقة جنى أعمارنا، حتّى ذكرياتنا الجميلة سرقوها بتفجير المرفأ، في 4 آب 2020. عندما رأيت المرفأ يحترق بقيت أيّامًا عديدة حتى أستوعبت ماذا حصل، معظم من استشهدوا أعرفهم مثل أولادي، لماذا ماتوا؟ في سبيل من؟ شابّات وشبّان بعمر الورد صاروا تحت التراب؛ مئات الأشخاص خربت بيوتهم، أهراءات الحبوب كانت تتّسع لـ120 ألف طنّ، اليوم صارت كومة ردم، حتّى الآن تقرير التأمين لم يصدر بعد، فمن يعوّض على الناس؟ كذلك القرار الظنّيّ لم يصدر لأنّ القضاء مسيّس، من يواسي أهالي من ماتوا بلا سبب، شهداء لقمة العيش؟”.
يختم الغضبان بانفعال وحرقة ودمعة تنسكب لا إراديًّا على وجنته: “عندما أمرّ أمام المرفأ أشعر بغصّة كبيرة، تركض أمامي سنوات عمري الذي سرقوه منّي وأعمار الكثيرين من الموظّفين والعمّال، أرى شبابي الذي أفنيته في خدمة بلدي كي أعيش مستورًا إلى آخر حياتي، حقّنا عند الله لأنّنا شعب لا يحاسب ولا يثور لحقوقه وقضاياه، فقط نصفّق غرائزيًّا لمن سرقنا وخرب حياتنا”.
أفق مسدود وما ادّخرناه تبخّر
متقاعدو سلك التعليم حالهم ليس بأفضل، سنواتهم كثيرة على مقاعد الدراسة والتدريس، تلاميذ ومعلمين غدت كأنّها لم تكن.
المربّي فضل الله الفليطي أمضى زهاء 36 عامًا من عمره متنقّلًا بين مدارس بلدته عرسال وجوارها، بدأها في مدارس جمعيّة المقاصد الخيريّة ثم دار المعلّمين، فالتعليم الرسمي العام 1984. يعيش اليوم بين بستانه وبيته رحلة تقاعد كان يتمنّاها على غير ما هي عليه.
يقول الفليطي لـ”مناطق نت”: “كانت خططي للتقاعد مثاليّة، أريد أن أعيش ما لم أعشه، تعويضًا لما فاتني قرابة نصف عمري في الوظيفة، اجتماعيًّا وعائليًّا وفي الحياة العامّة، لكنّ النتيجة للأسف كانت صدمة ومعاناة، مأساة بكلّ معنى الكلمة، أيّ إنسان مهما وصلت بلاغته لا يستطيع وصفها بغير ذلك، كلّ الأحلام تكسّرت، الصور الجميلة باتت ضبابية سوداء، حتّى الأمل الذي يعيش عليه الإنسان بات أفقه مسدودًا”.
يتابع الفليطي: على هامش عملي بدأت منذ سنوات أنشئ حصّالة (قجّة) بهدف تأمين التعليم الجامعي لأبنائي الثلاثة، الهدف كان الجامعات الكبرى، الأميركيّة أو اليسوعيّة أو البلمند، لكن النتيجة اليوم غير ما تمنّيت، اثنان منهم في الجامعة اللبنانيّة، اختصاصات غير التي أرادوها، إلى أين يذهبون إذا كان الراتب التقاعديّ لا يكفي أقلّ احتياجات البقاء؟ وما جمعته لأجل تعليمهم تبخّر في المصارف، لذلك أنصح الزملاء بالانتباه والحذر قبل الوصول للتقاعد”.
انحدار سلّم القيم
بسؤالنا عن رؤيته للحلول يجيب الأستاذ فضل الله: “حلول ماذا؟ حلّ الأزمة الاقتصادية مرتبط كليًّا بالأزمة السياسيّة، والأخيرة حلّها يقرب من الاستحالة، نحن محكومون بطبقة سياسيّة مخادعة، شعارهم جميعًا العيش المشترك والعدالة والأمان، لكن في الحقيقة كلّ طرف منهم يحاول بكلّ قوته أخذ البلد إلى أقصى مدى في خياره السياسيّ الطائفيّ المذهبيّ، كلّ فريق يريد البلد على قياس مشروعه، بالتالي كيف يمكن جمع هذه التناقضات الجوهريّة في بوتقة وطنيّة واحدة إذا كان أغلبهم لا يؤمنون بالتنوع والتعددية؟”.
ينهي الفليطي كلامه بخشية وخوف كبيرين قائلًا: “إنّ سرقة ودائع الناس وتبخُّر رواتبهم جعل سلّم القيم الأخلاقيّة يشهد انحدارًا مخيفًا، في ظلّ أوضاع اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة مهترئة وكارثيّة، باتت الجريمة مبرّرة، والسرقة والتعدّي على أملاك الناس مسألة عادية. اليوم كلّ رب أسرة حلمه ألّا يعود إليه ابنه مقتولًا برصاصة طائشة، ليس لديّ أدنى أمل بمستقبل لهذا البلد، الجوع آت وسيطرق الأبواب لا محالة”.
محزنة ومؤلمة جدًّا مشاهد الهراوات والقنابل الدخانيّة المسيّلة للدموع تنهال على أجساد المتقاعدين في الأسلاك الأمنيّة والعسكرّية، خصوصًا أنّه بين الطرفين أبناء وأخوة وأقرباء، لكن في لبنان يحصل كلّ شيء.
التعويض يتبخّر سكّرًا وشايًا وزيتًا
يبلغ ياسر عزّ الدين 55 عامًا، أمضى 27 منها في سلك قوى الأمن الداخليّ، يقول لـ”مناطق نت”: “رحلة الظلم معنا لم تبدأ في التقاعد بل بعد التخرج من مدرسة الرتباء في العام 1994، فقد تمّ منعنا من الحصول على رتبة إضافيّة في حال نيلنا إجازة جامعيّة أسوة بكلّ الأسلاك الأمنيّة الباقية، الحجّة وقتها أنّه لا يوجد قانون يسمح”.
ويضيف: “كان راتبي في الخدمة قبل الأزمة 1500 دولار، وتعويضي يفترض أنّه سيبلغ 160 ألف دولار. كنت أخطّط لاقتطاع مبلغ منه لإنشاء مصلحة تعوّض عليّ فارق الراتب بعد التقاعد، وبعدها أضع رجلًا فوق رجل وأنصرف إلى تربية أبنائي على مهل، لكن بعدما داهمتنا الأزمة، أضحى راتبي التقاعديّ 150 دولارًا، وتعويضي قبضته خمسة آلاف دولار، عبارة عن بطاقة شراء من التعاونيّات: سكّر وشاي وزيت، يعني تبخّر”.
يتابع عز الدين: “عندي ابنان طالبان في الجامعة والثالث في المرحلة الثانويّة، حاليًّا أعمل في الجمعيّات وفي مدرسة للاجئين السوريّين كي أستطيع كفاية بيتي، لست مسرورًا أو سعيدًا في عملي، لكن مجبر أخاك لا بطلا”.
يؤكّد عز الدين تحسّره على واقع البلد: “لذلك نحن نتظاهر باستمرار مطالبين بحقوقنا الطبيعيّة، لا نطالب بحلول خياليّة، نعرف الواقع، نراه ونعيشه، فقط نطالب بالعدالة مثل كلّ موظّفي الدولة. أكثر ما يحزّ في النفس، أنّ أبناءنا وأخوتنا وزملاءً لنا هم من يلقي علينا القنابل الدخانيّة والماء، ومن بينهم من سيصبح معنا قريبّا”.
مستقبل مأساوي
تتسابق معظم دول العالم لسنّ قوانين رعاية المسنّين وضمان الشيخوخة، تضع أفضل خطط الضمان الصحّيّ والاجتماعيّ لمواطنيها، تشرّع أكثرها حرصًا على اختتام حياتهم بعيدًا عن ألم العوز والفاقة، تنشئ لهم دور الرعاية والعناية، كي لا يموتوا على أبواب المشافي.
أمّا في لبنان بلد الإشعاع والنور، لا قوانين يتمّ تطبيقها، ولا تشريعات قديمة يتمّ تعديلها، الخوف على الغد هو القاسم المشترك بين اللبنانيّين جميعهم، كبيرهم بلا حاضر، وصغيرهم بلا مستقبل، بعد فقدانهم أيّ أمل بدولتهم وسياسيّيها، ولسان حالهم بات يردّد: “الشكوى لغير الله مذلّة”.