المرأة غير المتزوّجة بين الوصم وحقّ اختيار المصير

في مجتمع يُلقي على المرأة مسؤوليّة الحفاظ على الصورة الاجتماعيّة “المثاليّة”، لا يُنظر إلى الزواج على أنّه مجرّد خيار شخصيّ أو شراكة إنسانيّة، بل يُحمَّل أبعادًا اجتماعيّة وثقافية. فيعتبر بوّابة العبور إلى “الاكتمال” و”النجاح” و”تحقيق الذات”، ومن لا تعبر فهي تعاني من الوصم الاجتماعيّ وتُعامل على أنّها فارغة وناقصة.
فلطالما شكّل الزواج معيارًا شبه مُطلق للاستقرار الاجتماعيّ والاعتراف المجتمعيّ بالنسبة إلى النساء. لذا، فأن تكوني امرأة غير متزوّجة في لبنان فلا يعني فقط أنّك اخترتِ طريقًا مغايرًا، بل يعني أنّك أصبحتِ هدفًا لنظراتٍ مزعجة، وتعليقات مستترة وتساؤلات فضوليّة تبدأ بـ “لماذا لم تتزوّجي بعد.. لم تعودي صغيرة في السن”، ولا تنتهي بـ “مش ناوية تفرّحي أهلك؟”.
في المجتمع الذي نعيش فيه، يتداخل الزواج مع مفاهيم “الشرف” و”الهويّة العائليّة” و”السمعة”، ويُروَّج له كمرحلة لا بدّ منها في حياة كلّ امرأة. وتُعدّ الفتاة منذ الطفولة نفسيًّا واجتماعيًّا لدور “العروس المنتظرة”، وتُغذّى بتوقّعات تُختزل غالبًا في أن “تتزوّج وتؤسّس عائلة”.
مادة للقلق المجتمعيّ
هذه المكانة التي يحتلّها الزواج في الوعي الجماعيّ لا تترك حيّزًا كافيًا لاحتمالات أخرى، كأن تختار المرأة أن تبقى غير مرتبطة، أو أن تتأخر في الزواج بسبب خياراتها المهنيّة أو الشخصيّة.
في ظلّ هذه التوقّعات، يتحوّل وجود أيّ امرأة غير متزوّجة من مجرّد حالة مدنيّة إلى موقعٍ اجتماعيّ معقّد، مُثقل بالتأويلات والافتراضات والأحكام المبطّنة.
هكذا، ما يُفترض أن يكون حرّيّة فرديّة، يصبح مادّةً للقلق المجتمعيّ، وكأنّ المرأة التي لم تتزوّج بعد “غير مستقرّة”. ويتمّ التغاضي عن جميع إنجازاتها الأخرى، وكأنّها لا تكفي وحدها لتعطيها الاعتراف المجتمعيّ الذي يحدّد قيمتها وفقًا لعلاقتها بالرجل في بيئة تكرّس مفهوم المغايرة الجنسيّة كاحتمال وحيد للوجود الإنسانيّ.
جذور الوصمة
يُرسّخ النظام الأبويّ في لبنان تصوّرًا مفاده أنّ “وظيفة” المرأة الأساسيّة هي الزواج والإنجاب. ويُبنى موقعها الرمزيّ والاجتماعيّ وفقًا لقوالب مسبقة تُحدّد أدوارها ومهامّها، وتربط قيمتها بمدى التزامها بها. فتتجذّر في الوعي الجمعيّ صورة نمطيّة تحصر المرأة بدور “الزوجة الصالحة” و”الأمّ المضحّية”.
هذه الصورة لم تتكوّن عن طريق الصدفة، بل هي نتاج تراكميّ لتاريخ من السيطرة والتأطير، ترسّخت عبر قرونٍ من التقاليد والأعراف. وهي جزء من منظومة اجتماعيّة وثقافيّة تعيد إنتاج نفسها باستمرار، باستخدام أدوات متنوّعة من التقاليد العائليّة، إلى الخطاب الدينيّ وصولًا إلى الإعلام، فيصبح خيار المرأة الشخصيّ بالزواج أو عدمه موضوع نقاش اجتماعيّ، وكأنّها مسؤوليّة جماعيّة وليست قرارًا فرديًّا. وأيّ تأخّر عن الزواج يُعتبر خروجًا على السرديّة المقبولة اجتماعيًّا، يستدعي التدخّل والإدانة.
تتّخذ هذه الوصمة طابعًا ملحًّا كلّما تجاوزت المرأة الـ 30 من عمرها، فتعيش في حالة تأهّب داخليّ وتُعامل كما لو أنّها في مرحلةٍ “موقّتة” من حياتها، ويجب أن تعيش لتنتظر الـ “حدث” الذي سيُنقذها
وتؤدّي المؤسّسات الدينيّة دورًا محوريًّا في تثبيت هذه الصورة، عبر خطاب يُقدّم الزواج كـ “واجب دينيّ” وغاية وجوديّة للمرأة. ويُضفي عليه طابعًا مقدّسًا ويُخضعه إلى سلطة رجال الدين وليس إلى قوانين مدنيّة تحترم الخيارات الفرديّة.
مقاومة التهميش
ما يثقل هذه التجربة هو أنّها وصمة اجتماعيّة تلاحق المرأة في اللقاءات العائليّة والاجتماعيّة، في مكاتب العمل، وفي جلسات الأصدقاء. فتجد نفسها في موقعٍ هشّ، تتأرجح فيه بين التهميش الاجتماعيّ والنظرات المبطّنة التي تخفي كثيرًا من الأحكام القاسية بحقّها. ويتّهمها الناس والمجتمع بأنّها إمّا “متطلّبة”، أو فاشلة لأنّها لم تعثر على شريك، أو أنّ فيها “عيبًا”. ولا يُعترف بخيارها الشخصيّ، بل يُفسَّر دائمًا ضمن سرديّة النقص.
لا تحتاج المرأة غير المتزوّجة إلى تصريحاتٍ مباشرة لتشعر بوقع هذه الوصمة، فهي تتجلّى في التفاصيل اليوميّة عبر أسئلة وتعليقات الأهل المتكرّرة ونظرات الأقارب والمجتمع المليئة بالشفقة والاستغراب.
وتتّخذ هذه الوصمة طابعًا ملحًّا كلّما تجاوزت المرأة الـ 30 من عمرها، فتعيش في حالة تأهّب داخليّ وتُعامل كما لو أنّها في مرحلةٍ “موقّتة” من حياتها، ويجب أن تعيش لتنتظر الـ “حدث” الذي سيُنقذها ويحميها من التعبيرات الجارحة مثل “فاتها القطار” وأصبحت “عانسًا”. ففي هذه الكلمات تكمن قسوة تُفرّغ حياتها من قيمتها طالما لم تتحقّق وفق النموذج المتوقّع.
عبء المرأة غير المتزوّجة
تعيش المرأة غير المتزوجة في مواجهةٍ دائمةٍ مع محيطٍ لا يترك لها مساحات آمنة كافية لتكون ببساطة كما هي. هذا الضغط المتواصل يُنتج توتّرًا وتأثيرًا نفسيًّا لا يُستهان به، ويلقي بثقله على خيارات المرأة الفرديّة وحرّيّتها وعلاقتها مع ذاتها ومع الآخرين. فتجد نفسها بين خيارين قاسيين: أن تبرّر خيارها، أو أن تخوض صراعات يوميّة شرسة لإثبات ذاتها.
كذلك يتسلّل القلق من الوحدة إلى حياة كثيرات من النساء غير المتزوّجات، ليس لأنهنّ لا يجدن المعنى في حياتهنّ الفرديّة، بل لأنّ المجتمع لا يعترف بهذا المعنى خارج القوالب المألوفة. وقد تشعر المرأة بعبء الذنب أو الخجل أمام عائلتها التي تحمل بدورها خوفًا اجتماعيًّا من “نظرة الناس”، ما يفاقم الضغط ويدفع إلى الإصابة باضطرابات مثل الاكتئاب والقلق.
لكن في مواجهة هذه النظرة المجحفة، بدأت نساء عديدات بسحب صفة “المصير المحتوم” من الزواج، وإعادة تعريف ذواتهنّ خارج إطار هذا الارتباط، انطلاقًا من إيمانهنّ بأنّ قيمتهنّ لا تُقاس بوضعهنّ الاجتماعيّ بل بقدراتهنّ وخياراتهنّ.