النزوح في جبل لبنان والشمال يفاقم أعباء البلديات
لأنّ العدوان الإسرائيليّ على لبنان تركّز في محافظات محدّدة هي الجنوب والنبطية وبعلبك الهرمل وأجزاء من محافظة البقاع، فإنّ النزوح تركّز في المحافظات التي بقيت إلى حدٍّ ما بمنأى عن الاعتداءات الإسرائيليّة خارج العاصمة بيروت، وتحديدًا محافظتي الشمال وجبل لبنان اللتين شهدتا موجات نزوح ضخمة فاقت قدرة البلدات والبلديّات على استيعابها ووضعتها أمام تحدّيات غير مسبوقة.
التحدّيات التي تتمثّل بواقع النزوح تترافق مع أزمات اقتصاديّة وسياسيّة خانقة ومعقّدة، باتت البلديّات معها تواجه ضغوطًا كبيرة على البنية التحتيّة، والخدمات الصحّيّة والتعليميّة، بالإضافة إلى تصاعد التوتّرات الاجتماعيّة. ومع محدوديّة الموارد وقلّة الدعم الحكوميّ، تجد البلديّات نفسها في مواجهة أزمة تتطلّب استجابة سريعة وفعّالة، بينما تسعى جاهدة إلى توفير الاحتياجات الأساسيّة للنازحين كما للمقيمين على حدّ سواء.
بالعودة إلى واقع البلديّات قبل النزوح وهو واقع مزرٍ، فإنّ أكثر من 10 في المئة من بلديّات لبنان منحلّة، فيما الـ 90 في المئة الباقية بحكم المشلولة بسبب شحّ الموارد وضعف الإمكانات، والنتيجة أنّ هناك أكثر من 162 بلديّة من أصل 1064، بلديّة خارج الخدمة الفعليّة وبشكل كامل.
أكثر من 10 في المئة من بلديّات لبنان منحلّة، فيما الـ 90 في المئة الباقية بحكم المشلولة بسبب شحّ الموارد وضعف الإمكانات، والنتيجة أنّ هناك أكثر من 162 بلديّة من أصل 1064، بلديّة خارج الخدمة الفعليّة وبشكل كامل
واقع الشمال
وفق مصادر رسميّة مطّلعة على واقع النزوح في الشمال، فإنّ 130 مركز إيواء فتح أبوابه للنازحين في المحافظة، وهذه المراكز تتوزّع على 120 مدرسة و10 مراكز هي عبارة عن حسينيّات وجمعيّات خيريّة، بينما بلغ عدد النازحين 14500 نازح في هذه المراكز، توزّع 55000 نازح خارجها.
تتابع المصادر لـ “مناطق نت” أنّ “المنظّمات الدوليّة، مثل اليونيسف وكاريتاس، بالإضافة إلى الجمعيّات، تقدّم مساعداتها للنازحين داخل وخارج مراكز الإيواء، وقد وصلت هذه المساعدات من دول عديدة كالإمارات وقطر والمملكة العربيّة السعوديّة، وتوزّع من خلال الهيئة العليا للإغاثة، حيث تمّ تسليم ألف حصّة غذائيّة و500 حصّة من مستلزمات التنظيف، مقدّمة من دولة الإمارات، سيتمّ توزيعها على البلديّات لدعم النازحين خارج مراكز الإيواء”.
عن الآليّة تشير المصادر إلى أنّه “تصل المساعدات إلى وحدة إدارة الكوارث، التي يرأسها ناصر ياسين، وتُخزّن في المستودع المركزيّ في الكرنتينا، ثمّ تُوزّع على المحافظين الذين يتولوّن تنظيم التوزيع خارج مراكز الإيواء وفق جداول أعدّها القائمون بالمهمّة في البلديّات، حيث توزّع وفق الاحتياجات والكمّيّات المتوافرة. يستلم القائم بالمهمّة في البلديّة الحصص ويوقّع على استلامها، مع تقديم لوائح أسماء المستفيدين الموقّعة منهم. أمّا داخل مراكز الإيواء، فيتمّ التوزيع من قبل المنظّمات الإنسانيّة والصليب الأحمر، لكن على الرغم من ذلك، لا يزال هناك نقص في المواد الأساسيّة حيث يُعدّ توفير الإيواء لمليون و400 ألف شخص تحدّيًا كبيرًا نظرًا إلى القدرات المحدودة المتاحة لدى البلديّات والجهات الرسميّة”.
مشاكل مراكز الإيواء
من جهتها توضح الدكتورة جوزفين زغيب، عضو مجلس بلديّة كفرذبيان، ورئيسة جمعيّة “بيتي” في حديث لـ “مناطق نت” أنّ “أبرز المشاكل التي تعاني منها مراكز الإيواء هي أنّ هذه المراكز ليست مخصّصة للإيواء أساسًا، فهي عبارة عن مدارس مفتوحة، تضمّ صفوفًا كبيرة جدًّا، ولا تتناسب أعداد الحمامات والمراحيض فيها مع أعداد الأشخاص المتواجدين”.
تتابع زغيب: “يعتبر عدم توافر أماكن للاستحمام من أكبر المشكلات التي يواجهها النازحون ممّا يشكّل ضغطًا كبيرًا على المقيمين. كذلك تفتقر تلك المراكز التي سمّيت كذلك على الرغم من عدم تجهيزها، إلى أماكن مخصّصة للطبخ، وهو أمر ضروريّ لتجنّب انتشار البكتيريا والروائح، وأصلًا هذه مدارس لا تتوافر فيها مساحات خاصّة للطهي”.
من المشكلات الأساسيّة أيضًا، تقول زغيب “عدم وجود أماكن للغسيل، بعد أن اضطرّ النازحون إلى ترك منازلهم من دون أن يتمكنوا من جلب كثير من الملابس، لذا تضطرّ العائلات النازحة إلى غسل ما بين خمسة إلى 10 كيلوغرامات من الملابس يوميًّا، وهذا ما يقومون به يدويًّا، خصوصًا النساء، في ظلّ عدم توافر مساحات للنشر، ممّا يؤدّي إلى نشر الملابس بشكل عشوائيّ، ما يزيد من احتماليّة انتقال الأمراض والأوبئة”.
تضيف زغيب: “تفتقر مراكز الإيواء كذلك إلى خصوصيّة العائلات، حيث يتمّ تجميع ثلاث أو أربع عائلات في صفّ واحد، يفصل بينها أحيانًا أغطية من قماش، ممّا يؤدّي إلى تدنّي مستوى الخصوصيّة. هذا الوضع يُفقد الأشخاص راحتهم ويشكّل تحدّيًا كبيرًا في احترام خصوصيّة كلّ فرد”.
أيضًا، “لا تتوافر أماكن للدراسة، فلا يوجد إدارة تنظّم مراكز الإيواء بشكل مناسب من حيث تحديد أوقات اللعب، وأوقات الدراسة، وأوقات الطهي والغسيل. وهذا يتطلّب تواجد إدارة أو مشرفين دائمين، مثل متطوّعين أو ممثّلين عن جمعيّات الإغاثة، لضمان تنظيم المراكز”، بحسب زغيب.
خطر انتشار الأمراض
في ما يخصّ توزيع النازحين، “يتواجد بعضهم في مراكز تضمّ حوالي 60 شخصًا”، تتابع زغيب، “بينما يصل عديدهم في مراكز أخرى إلى 1200 شخص، ممّا يفاقم الوضع ويزيد من احتماليّة انتشار الأمراض مع زيادة الأعداد وتوزيعهم العشوائيّ”، موضحة أنّ “ثلث النازحين فقط يقيمون في مراكز الإيواء، في حين أنّ الثلثين يقيمون في شقق إمّا مستأجرة أو مقدّمة لهم موقّتًا من السكّان المحلّيّين. ومع ذلك، يعاني النازحون في الشقق من مشكلات مشابهة لمشكلات مراكز الإيواء، حيث تُقيم ثلاث عائلات أو أكثر في شقّة صغيرة بمساحة نحو 80 مترًا مربعًّا، تتضمّن غرفة نوم واحدة وحمّامًا ومطبخًا، ممّا يجعل الحياة صعبة في ظلّ هذا الاكتظاظ”.
عن المساعدات تشدّد زغيب على أنّه “حتّى الآن، المساعدات التي تصل محدودة وتأتي من مبادرات فرديّة أو من جمعيّات مثل كاريتاس، ومخزومي، والصليب الأحمر اللبنانيّ، والهلال الأحمر اللبنانيّ، بينما لا يوجد دعم كبير من الجمعيّات الدوليّة. معظم المساعدات المقدّمة هي منظّمات صغيرة تقدّم حرامات أو خيامًا عبر الأمم المتّحدة، بينما تظلّ المبادرات الفرديّة والجمعيّات هي المصدر الأساس للدعم. وعلى رغم وصول بعض المساعدات، إلّا أنّها بطيئة للغاية، فعلى سبيل المثال، أحد مراكز الإيواء الذي يضم 250 نازحًا تلقّى فقط 40 فرشة و30 حرامًا و10 وسائد بعد أسبوع من إقامته في المركز، ولا تزال هناك حاجات كبيرة للتدفئة والمياه الصالحة للشرب، ممّا يزيد من صعوبة الأوضاع”.
مساعدات لا تفي بالحاجة
وتلفت زغيب إلى أنّ غالبيّة المساعدات تأتي ببطء شديد، وغالبًا لا تغطّي احتياجات النازحين الأساسيّة. على سبيل المثال، مركز إيواء كفرذبيان حصل على 16 حصّة غذائيّة فقط، على رغم أنّه يضمّ 22 عائلة، ولم تتمكّن بعض العائلات من الحصول على حصص غذائيّة. جمعيّة مخزومي قدّمت بعض الحرامات، فيما أرسلت هيئة الإغاثة برئاسة مجلس الوزراء 21 حرامًا إضافيًّا بسبب برودة الطقس، لكن هذه المساعدات لا تزال غير كافية لتلبية الاحتياجات العاجلة”.
وحذّرت زغيب من أنّ “عديدًا من النازحين يعانون من غياب مياه الاستحمام ومياه الشرب الآمنة، حيث يعتمد البعض على مياه الينابيع، التي قد لا تكون صالحة للاستخدام. وهناك من ينامون على فرشة واحدة من دون وسائد أو أغطية كافية، ممّا يجعلهم مضطرين للتدفئة بملابسهم الشخصيّة، ما يزيد من تعقيد الوضع ويؤكّد الحاجة إلى جهود إغاثيّة أكثر شمولًا وفعاليّة تضمن تلبية حاجات النازحين الأساسيّة بشكل عاجل”.
زغيب: عديدًا من النازحين يعانون من غياب مياه الاستحمام ومياه الشرب الآمنة، حيث يعتمد البعض على مياه الينابيع، التي قد لا تكون صالحة للاستخدام. وهناك من ينامون على فرشة واحدة من دون وسائد أو أغطية كافية
مشاكل البلديّات
من جهته يوضح محمّد أيّوب، مدير جمعيّة نحن، في حديث لـ “مناطق نت” بعض المشكلات التي تواجهها البلديّات في الأزمة الحاليّة، ومنها “العبء المالي وعدم دفع المستحقات، إذ تشكّل الضغوط الماليّة أبرز العقبات التي تواجه البلديّات، التي لم تحصل غالبيّتها على مستحقّاتها الماليّة منذ سنوات، وهذا ما أدّى إلى عجزها عن توفير الخدمات الأساسيّة للنازحين والمقيمين. علمًا بأنّ البلديّات تعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجيّة والدعم الحكوميّ، ولكنّ هذا الدعم بات غير كافٍ وغير مستدام، إذ تتطلّب الأوضاع الحاليّة تمويلًا ضخمًا لتلبية الحاجات المتزايد”.
ويشدّد أيّوب على أنّ “خطط الاستجابة في البلديّات بحاجة إلى تمويل، وأنّه من الضروري الإفراج عن مستحقّات البلديّات ومنحها الصلاحيّات اللازمة وسلطة اتّخاذ القرار لتتمكّن من القيام بدورها، بالتعاون مع القائمقامين والمحافظين”. وأكّد أنّ “البلديّات هي الجهة الأساس والأكثر كفاءة لتقديم الدعم وفق هيكليّتها القانونيّة. ودعا أيّوب الدولة إلى تحمّل مسؤوليّاتها والوقوف إلى جانب الناس، وعدم الاكتفاء بوضع الخطط على الورق من دون تنفيذها، مع التركيز على توجيه المساعدات إلى أكثر الفئات حاجة”.
كذلك يلفت أيّوب إلى “النقص في الموارد البشريّة والتقنيّة، لأنّ بلديّات كثيرة تتّكل على طاقات بشريّة محدودة بسبب العجز الماليّ وعدم القدرة على تعيين موظّفين جدد أو حتّى دفع رواتب الموظّفين الحاليّين. نتيجة لذلك، يجد موظفو البلديّات أنفسهم إزاء مهمّات تفوق قدراتهم، من حيث إدارة أعداد النازحين المتزايدة وتلبية حاجاتهم، فضلًا عن التعامل مع ملفّات الإغاثة وتوزيع المساعدات.
إضافةً إلى ذلك، تفتقر البلديّات إلى القدرات التقنيّة للتعامل مع الأزمات الكبرى، مثل تجهيز مراكز الإيواء بالمعدّات الأساسيّة، أو إدارة الموارد بكفاءة، وهذا ما يجعلها عرضة إلى مزيد من الانهيار في ظلّ تفاقم الأزمة. وتواجه البلديّات أيضًا تحدّيات كبيرة في توفير الموارد اللازمة لتشغيل مرافق الإيواء وتزويدها بالخدمات الأساسيّة مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحّيّ، وهو ما يزيد الضغط على البنية التحتيّة المتهالكة أصلًا”.
ويقول: “على رغم التحدّيات الهائلة، لم تتمكّن الحكومة بعد من وضع خطّة طوارئ شاملة لمساعدة البلديّات في مواجهة أزمة النزوح. البلديّات تجد نفسها مضطرّة إلى العمل الفرديّ أو إلى الاعتماد على جهود المجتمع المحلّيّ والمبادرات الشخصيّة، وهذا ما يعكس ضعف التنسيق بين مختلف الجهات الحكوميّة”.
ويشير أيّوب إلى أنّ “معظم البلديّات في الجنوب تعرّضت للنزوح، وهناك بعض البلديّات التي حاولت الصمود وتحويل مقارها إلى مراكز للمساعدات، مثل بلديّة النبطية، تعرّضت للقصف ممّا أدّى إلى استشهاد رئيس البلديّة وعدد من الأعضاء. في مثل هذه الظروف، وخصوصًا في المناطق القريبة من القصف المباشر، غالبًا ما تكون البلديّات مضطرّة إلى لنزوح. البلديّات القريبة جدًا من الحدود غادرت غالبًا، أمّا البلديّات الواقعة في مناطق أقلّ خطورة فقد حاولت الاستمرار وتحويل نفسها إلى خلايا أزمة تقدّم الدعم إلى الأهالي الباقين”.
أمّا البلديّات الأخرى في شمال لبنان وبيروت، فقد تكيّفت مع الوضع، يقول أيوب، “على سبيل المثال، في بيروت، المحافظ- وفق القانون – هو المسؤول التنفيذيّ للبلديّة. وقد تولّى المحافظ إدارة خليّة أزمة لتنسيق جهود الطوارئ في العاصمة، بما في ذلك إدارة لجنة الطوارئ وتوزيع المهام من أجل الإحصاءات، توفير المواد الغذائيّة، وتنسيق المساعدات اللوجستيّة”.
أما بقيّة البلديّات، يتابع أيوب، “فقد عملت وفق خطط الطوارئ على جمع بيانات النازحين وتوفير أماكن الإيواء لهم، وتقديم المساعدات بالتعاون مع الجمعيّات. تعمل معظم البلديّات اليوم على إدارة الأزمات، بينما توقّفت الأنشطة الأخرى. كثير من البلديّات توقّفت عن العمل كلّيًّا، إذ إنّ بعضها لم يعد موجودًا أصلًا بسبب النزوح، ممّا دفع القائمين بالأعمال والمحافظات إلى تولّي المهام مباشرة”.
في ما يخصّ الإمكانيّات، فإنّ معظم البلديّات تعاني من نقص الموارد، يوضّح أيوب، “فالعمل الحاليّ يعتمد بشكل كبير على الأحزاب وبعض المبادرات المحلّيّة، إذ لا يتوافر تمويل دولّي أو محلّيّ كافٍ. وعلى رغم هذا النقص، تمكّنت بعض المبادرات من الصمود بفضل التعاون مع بعض المؤسّسات الدوليّة والبلديّات الأخرى”.
ويشدّد على أنّ ” البلديّات هي الجهة الأساسيّة التي تتواجد على الأرض، وعلى رغم نقص الموارد، فهي تلعب دورًا رئيسًا، كونها الأقرب إلى المواطنين وتتمتّع بمعرفة وعلاقة مباشرة مع الأهالي. ما ينقصها اليوم هو الدعم المادّيّ اللازم، إذ يعتمد بعضها على تبرّعات الميسورين والمغتربين، بينما تعتمد بعضها على دعم محدود من الحكومة إن وجد”.
“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.