اليمونة.. بلدة الفالق والمياه والحناجر الجميلة

بالرغم من أن اسمها ارتبط بالفالق الزلزالي الذي يمر بها ويحمل اسمها، إلا أن لليمونة صفات أخرى يجعلها تتفوق على ذلك، فالبلدة التي تُعتبر قصر مياه وتتوسط طبيعة خلابة، هي بمثابة محمية طبيعية قل نظيرها، وقد أعلنها الامبراطور الروماني أدريانو في العام 134 محمية طبيعية حيث حرّم قطع الأشجار فيها وخاصة اللزاب، وهذا الإعلان محفور على إحدى الصخور في المحمية. وبذلك تكون اليمونة أول وأقدم محمية في التاريخ وهي قبل إعلان أول محمية في ولاية بوسطن الأميركية في العام 1716.

خلال الشهرين الماضيين لمع إسم اليمونة من جديد، إثر الزلزال المدمر الذي حصل في تركيا، وعاد إسم الفالق الذي يمر بها وسمي على اسمها بالتردد طوال الأيام التي تلت الزلزال. لكن لليمونة حكاية أخرى شأنها شأن معظم البلدات البقاعية التي تنسج من مديد السهل تاريخاً ناصعاً تلتحف به ذخيرة للأيام.

بلدة المياه

“اليمونة كانت عبارة عن بحيرة ونصفها كان بركة مياه كبيرة طولها حوالي ٢ كلم وعرضها ١ كلم”، وفق أحد أبناء اليمونة محمد شريف الذي يضيف أن النصف الآخر من البلدة يقع على الفالق المعروف بفالق البحر الميت. ولطالما تخوف العلماء من خزان المياه هذا، ولكن تغيرت معالم هذه البركة لاحقاً، إثر المشروع الذي نفذه الفرنسيون إبان انتدابهم للبنان فتقلصت مساحتها، واستعملت كأراضٍ زراعية، وحديثاً منذ حوالي عشر سنوات تم استحداث البحيرة ولكنها ليست كحجم السابقة.

يستذكر التربوي والأستاذ علي شريف مشروع نفق اليمونة حيث خطط الأتراك لتنفيذه من البلدة إلى دار الواسعة، بهدف جر مياه البركة لري سهل البقاع، لكن هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى لم تسمح لهم بتنفيذ المشروع.

بعد الأتراك جاء الفرنسيون ونفذوا مشروع النفق بطول ٢ كيلومتر بين عامي 1933 و1936، حيث أمن مياه الشفة لـ 39 بلدة غربي بعلبك لغاية بلدة أبلح، وقد شارك أهالي البلدة بالعمل في المشروع، ومن ثم أُستعين بهم لتنفيذ نفق شكا نتيجة خبرتهم المكتسبة في ذلك.

نفذ الفرنسيون بين عامي 1933 و1936، مشروع النفق بطول ٢ كيلومتر  حيث أمن مياه الشفة لـ 39 بلدة غربي بعلبك لغاية بلدة أبلح، وقد شارك أهالي البلدة بالعمل في المشروع، ومن ثم أُستعين بهم لتنفيذ نفق شكا نتيجة خبرتهم المكتسبة في ذلك.

يقول أحد أبناء اليمونة كمال محمد صادق شريف إلى أن أصل تسمية البلدة يعود إلى “اليم”. وتعتبر من أكثر البلدات غنىً بالمياه، إذ أنها تضم حوالي 73 نبعاً لا تجف مياههم، الأمر الذي سمح لها بأن تكون بلدة زراعية بامتياز، حيث يتضافر عامل المياه والمناخ لإنتاج أجود أنواع المزروعات.

آثار وتاريخ قديم

آل شريف سكنوا اليمونة حديثاً، لكن البلدة مسكونة منذ زمن طويل، والدليل على ذلك غناها بالآثار القديمة التي تؤكد ذلك. البلدة الحالية تعتبر حديثة حيث أنها قامت على أنقاض بلدة أخرى، وبحسب الروايات فإن آل شريف قدموا من المغيرة وآل العاقوري من العاقورة وآل تنوري من تنورين منذ حوالي 150 إلى 170 عاماً إلى هذا المكان، وسكنت فيه لاحقاً العديد من العائلات (حوالي 183 عائلة).

ووفق الرسام والشاعر تامر شريف أن أهالي البلدة وخلال حفرهم لآبار ارتوازية أو حُفر صحية، غالباً ما كانوا يجدون مواقد وأوانٍ منزلية وأباريق وجماجم مطمورة على عمق 3 أمتار، ولهذا دلالة واضحة أن اليمونة كانت مسكونة منذ مئات السنين وربما أكثر. يضيف أنه في حقبة الانتداب الفرنسي كان أهالي البلدة يحفرون ويجدون تماثيل وآثار وذهب، حيث كانوا يقدمونها للجنرال الفرنسي مقابل قروش زهيدة، لا بل أكثر من ذلك كان هناك فرقة فرنسية تنقب عن الاثار باستمرار في اليمونة، وكذلك الأمر في الحقبة العثمانية أيضاً، حيث تمّ نقل تماثيل إلى تركيا، لا يزال اثنان منها حتى اليوم هناك، موثّق عليهم أن مصدرهم من اليمونة (أحدهم تمثال من الصخر لملكة).

اليمونة.. بلدة المياه

الجدير ذكره أن العديد من الآثار الرومانية والتماثيل مثل تمثال فينوس هيليوبوليتانوس آلهة الجمال عند الرومان، وهي نفسها مينيرفا أو أفروديت عند الحضارات السابقة، عثر عليها شابان من اليمونة منذ حوالى 25 عاماً على عمق ثلاثة أمتار بجانب الفوهة التي ينبع منها نهر الأربعين، حيث نُقلت إلى متحف قلعة بعلبك، بالإضافة إلى تمثال مشابه نقل إلى المتحف الوطني في بيروت.

نهر وأربعين كاهناً

من معالم اليمونة المميزة نهر الأربعين، وله روايته الخاصة يرويها مدير مدرسة اليمونة الأستاذ محمد شريف الذي يقول إنه كان هناك معبداً حيث يُقتصر الدخول إليه على الكهنة الذين كانوا يقومون بتعميد الناس في البركة المقدسة، ويطهرونهم من ذنوبهم بعدما يقومون بدفع النذورات. وهذا متعارف عليه في الميثولوجيا الفينيقية والرومانية (بحيرة النيرفانا المقدسة)، وفي المعتقد الوثني بشكل عام. رواية نهر الأربعين موجودة في الكثير من دول العالم مثل الهند. الكهنة الذين كانوا يسكنون هذا المعبد، وأثناء أداء طقوسهم حصل كما يرجّح العلماء زلزالاً سبب انحداراً في المياه من أعلى إلى أسفل مما سبب طوفان النهر عليهم واغرقهم وماتوا وكانوا أربعين كاهناً فسمي نسبة إليهم بنهر الأربعين شهيداً.

محمية اليمونة

تُعتبر محمية اليمونة الأقدم في العالم والأكبر في لبنان. تقع في السفح الشرقي لسلسلة جبال لبنان الغربية، أُعلنت محمية من قبل الدولة اللبنانية سنة 1999، وهذا ما سبقهم إليه منذ مئات السنين الامبراطور الروماني أدريانو الذي أعلنها محمية طبيعية حيث حرّم قطع الأشجار، وهذا ما هو مؤرخ على إحدى الصخور المحفور عليها في محمية اليمونة، ولا تزال شاهداً على ذلك.
تعتبر محمية اليمونة من أغنى المحميات وهي الوحيدة المصنفة طبيعية علمية ثقافية أثرية، تتميز بتنوع نباتاتها وأشجارها، وتشتهر باللزاب (حوالي ١٤ نوعاً)، وبالحيوانات النادرة، وتبلغ مساحتها 582 هكتاراً.

تعتبر محمية اليمونة من أغنى المحميات وهي الوحيدة المصنفة طبيعية علمية ثقافية أثرية، تتميز بتنوع نباتاتها وأشجارها، وتشتهر باللزاب (حوالي ١٤ نوعاً)، وبالحيوانات النادرة، وتبلغ مساحتها 582 هكتاراً.

زراعة الحشيشة

بين زراعة الجشيشة واليمونة رفقة عمر وارتباط وثيق، النبتة التي ما خذلت المزارعين يوماً، لم تخذلها اليمونة فأعطتها أجود أنواعها. وبحسب كمال شريف، إبن البلدة، فإن تاريخ زراعة الحشيشة في اليمونة يعود إلى عهد الرئيس الراحل كميل شمعون الذي قام بتوزيع بذور الحشيشة على أهالي البلدة كما أهالي البقاع لزراعتها، ولا تزال اليمونة وجوارها يشتهرون بأجود أنواع النبتة نظراً لطبيعة مناخ اليمونة ومياهها.

فالق اليمونة

يعود تاريخ حدوث فالق اليمونة للعصر الجيولوجي الثالث ونتيجة لعملية توازن القارات حصل صدع أو (انكسار) اليمونة بحيث انزلق الجزء الشرقي من الصفيحة تحت الجزء الغربي من الصفيحة الغربية بعمق 14 متراً مما أدى لتكون السلسلة الغربية من جبال لبنان بارتفاع أعلى من السلسلة الشرقية. يعتبر هذا الصدع هو إمتداد للصدع الكبير الذي يمتد من بحيرة فكتوريا جنوبًا في القارة الأفريقية لغاية جبال زاغروس في تركيا في القارة الآسيوية.

أما الدورة التكوينية للزلزال فهي ما بين 800 و1000 عام، وآخر تحرك لهذا الفالق كان عام 1202م والذي أدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا. الجدير ذكره بأن الفراغات الموجودة في الفالق تشكل خزاناً للمياه السطحية، ومؤشره كثرة الينابيع التي تتدفق في عيون أرغش واليمونة (49 نبعاً في اليمونة دائمين)، بالإضافة للينابيع الموسمية وقد سميّ أحدها “النهر الكذاب”. أما أغزرها فهو نهر الأربعين.

من ذاكرة أهالي اليمونة

من ذاكرة أهالي اليمونة وقد حدث عن أحد مآثرهم اللواء سامي الخطيب فيقول إنه كان في مقتبل العمر حين رافق والده الذي كان يقود فرقة من الخيالة من الجيش الفرنسي إلى بلدة اليمونة لتنفيذ مهمة إلقاء القبض على من آوى بعض “ثوار الحكومة الفلتانة” من الأهالي، فرحب بهم المختار صادق شريف واستمهله للقيام بواجب الضيافة تجاههم وبعدها ينفذ مهمته. تأثر قائد الخيالة بما رآه من كرم الضيافة لدى أهالي البلدة حيث أعدوا وليمة لأكثر من 40 جندياً من خيرات مؤونة منازلهم، فتراجع القائد عن استكمال المهام المطلوبة منه بحنكته وفطنة إبن الأصول.

أيضاً يروي كمال شريف حسب ما رواه له والده عن الكارثة الثلجية التي حصلت في نيسان سنة 1968، وذهب ضحيتها 13 من أهالي البلدة، وتهدم الكثير من المنازل بسبب “الرياح والزحلة” مستذكراً زيارة الإمام موسى الصدر إلى البلدة والتي قصدها سيراً على الأقدام (حوالي 10 كلم) وذلك من قرية المشيتية إلى اليمونة لتقديم واجب العزاء والمساعدة في إعانة أهالي الضحايا، حيث قصد منزل رئيس البلدية صادق شريف حينها، والذي قدّم للإمام الصدر عباءة شتوية بدل الصيفية الشفافة التي كان يرتديها. ولا تزال عائلة شريف تحتفظ بتلك العباءة حتى اليوم بعدما أعادها لهم الإمام الصدر.

يروي علي شريف أن المسلمين والمسيحين في البلدة تشاركوا في بناء كنيسة “سيدة اليمونة” التي سُجل لها عجائب عديدة، لذلك تٌقدّم لها النذورات من المسلمين كما المسيحيين وأهالي المنطقة، ويتشاركون بعيدها سنوياً.

اليمونة.. الثقافة والأصوات الجميلة

يوجد في اليمونة العديد من الجمعيات والتعاونيات والنوادي الثقافية – الرياضية. وبحسب علي شريف يوجد في البلدة  جمعيات عدة بالإضافة إلى ناديين منها النادي الثقافي – اليمونة ونادي اليمونة الرياضي، وهاتان المؤسستان خرجتا للوطن كوادر مهمة، بالإضافة للعديد من مديرو وموظفو المصارف، والمدربين في القطاع التربوي والمجال الرياضي.

كتّاب وأدباء كثر تأثروا بجمال بلدة اليمونة، لذلك ورد ذكرها في الكثير من مؤلفاتهم ونذكر منهم الشاعر الفرنسي lamartine الذي ذكر صدع اليمونة في إحدى قصائده، وكذلك الشاعر سعيد عقل في النسخة التي كتبها عن ملحمة جلجامش. أيضاً لا يمكن أن تُذكر اليمونة دون أن يتبادر إلى الأذهان تلك الأصوات الفنية والحناجر الجبلية التي شكلت نقلة نوعية في الفن ونقلت الأغاني التراثية الفنية البعلبكية للبنان والعالم، ولعل اسم معين شريف ابن اليمونة يلتزم اسمها.. ويقول كمال شريف أن معظم أهالي البلدة يتمتعون بالصوت الجميل معتبراً أن ذلك ربما يعود لطبيعة المناخ والمياه ولعامل الوراثة أيضاً.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى