انتفاضة شبابيّة في البقاع الغربيّ على الانتخابات البلديّة

تشهد الانتخابات البلديّة هذا العام ظاهرة جديدة لافتة، وهي الارتفاع الملحوظ في نسبة ترشّح الشباب والشابّات إلى المجالس البلديّة في مختلف المناطق، في مشهد يُعدّ سابقة في الحياة السياسيّة المحلّيّة. وللمرّة الأولى، تخرج المشاركة الشبابيّة من دائرة الدعم اللوجستيّ والتصويت إلى موقع القيادة واتّخاذ القرار، في تعبير واضح عن توق هذا الجيل إلى التغيير ولعب دور فاعل في رسم مستقبل بلداتهم.
ولطالما اتّسمت الاستحقاقات الانتخابيّة السابقة من حيث مشاركة الشباب بالفتور. وبحسب أرقام صادرة عن منظّمات مراقبة الانتخابات، فإنّ نسبة ترشّح الشباب في الانتخابات البلديّة للعام 2016 لم تتجاوز الستّة في المئة من إجماليّ المرشّحين، بينما كانت النسبة أقل من ذلك بكثير في الانتخابات النيابيّة، إذ لم تتخطَّ نسبة المرشّحين ممّن تقلّ أعمارهم عن 35 سنة عتبة الأربعة في المئة، وسط غياب بيئة داعمة ومناخ سياسيّ يدعم الشباب للانخراط الفعليّ في الشأن العام.
تبدو الأمور مختلفة اليوم، فالوضع الاقتصاديّ المتردّي والفراغ التنمويّ، وانعدام ثقة الناس في الطبقة السياسيّة، دفعت عديدًا من الشباب والشابّات إلى خوض المعركة البلديّة، ليس بحثًا عن منصب، بل لإحداث تغيير حقيقيّ لطالما حلموا به.
في جولة لـ “مناطق نت” على قرى وبلدات البقاع الغربيّ، بدا واضحًا ولافتًا إقبال الشباب على الترشّح إلى الانتخابات، ويظهر ذلك جليًّا من خلال الحملات الانتخابيّة وصور المرشّحات والمرشّحين، وهم من أعمار صغيرة.
في جولة على قرى وبلدات البقاع الغربيّ، بدا واضحًا ولافتًا إقبال الشباب على الترشّح إلى الانتخابات، ويظهر ذلك جليًّا من خلال الحملات الانتخابيّة وصور المرشّحات والمرشّحين، وهم من أعمار صغيرة.
طاقة الشباب لا أعمارهم
في قرية عين زبدة الصغيرة في البقاع الغربيّ، يترشّح إيلي نهرا، الطبيب في العلاج الفيزيائيّ البالغ من العمر 27 عامًا، إلى عضويّة المجلس البلديّ. يقرّ بأنّ الترشّح في هذه السنّ ليس بالأمر السهل، “لكنّها فرصة ليثبت الشباب أنّهم قادرون على المشاركة في صنع القرار، خصوصًا لما نملكه من طاقة إيجابيّة وأفكار تواكب تطوّر العصر”، كما يقول.
ويرى نهرا أنّ القرية، “على صغرها، تعاني من إهمال مزمن في خدماتها الأساسيّة”، ويقول: “لدينا حاجات بسيطة لكنّها غير مُلبّاة، ومن هنا تأتي أهمّيّة البدء بمشاريع واقعيّة ترتكز على مقوّمات البلدة. من إصلاح الطرقات إلى تأمين الإنارة، وصولًا إلى مشاريع إعادة تدوير النفايات وتشجيع الاقتصاد الأخضر”.
بوصفه طبيبًا، يضع نهرا القطاع الصحّيّ ضمن أولويّاته، “سأسعى إلى إطلاق مشاريع في الرعاية الأوّليّة تساهم في تحسين صحّة الأهالي وراحتهم”، يقول نهرا.

وعلى رغم اعترافه بصعوبة إقناع الجيل الأكبر بدعم المرشّحين الشباب، يؤكّد نهرا أنّ “الشباب يملكون ما يميّزهم: المعرفة والانفتاح وقوّة التواصل مع الجيل القديم لبناء شراكة حقيقيّة في العمل البلديّ”. ويختم نهرا بدعوة واضحة “نحن لا نطلب فرصة فقط، بل نطرح أنفسنا كشركاء فعليّين بالتغيير. وعلى الشباب أن يقبلوا التحدّي ويخوضوا هذه التجربة بجدّيّة”.
صوت الشباب والنساء
سيلفي نخلة، محامية شابّة من بلدة عانا في البقاع الغربيّ، تبلغ من العمر 27 عامًا، تحمل ترشّحها كرسالة تتجاوز العمر والجندر. تقول لـ “مناطق نت”: “إنّ ترشيحي نابع من شعور عميق بالانتماء والرغبة في الخدمة. لم أترشح من أجل المنصب، بل لأكون صوتًا للشباب والنساء في العمل البلديّ”.
توضح نخلة أنّ دعم محيطها – من عائلتها الصغيرة إلى أصدقائها – أعطاها دفعًا كبيرًا لخوض غمار هذه التجربة، مؤكّدة أنّ على المجلس البلديّ أن يواكب حاجات الناس لا أن يكتفي بالشعارات. من هنا، تركّز في برنامجها على الحاجات اليوميّة: تزفيت الطرق وتحسين الكهرباء وتأمين النظافة وإنشاء حديقة عامّة للعائلات.
لكن ما يميز رؤيتها هو اهتمامها بالتنمية الاجتماعيّة، حيث تطرح مشاريع تدريبيّة للنساء في الحِرف واللغات والمهارات الرقميّة، إلى جانب دورات توعية للأطفال حول المخدّرات والاستخدام الآمن للتكنولوجيا. وترى في دعم المنتجات المحلّيّة اليدويّة التي تنتجها نساء البلدة فرصة لتعزيز الاقتصاد المحلّيّ.

سيلفي تجد في التكنولوجيا أداة لتقريب المواطن من المجلس البلديّ، وتقترح بناء تطبيقات تُسهّل تقديم الشكاوى والملاحظات. وتقول بثقة: “الشباب لا تحكمهم حسابات شخصيّة ضيّقة، بل يملكون رؤية تتجاوز المصالح إلى المصلحة العامّة”.
أمّا عن التحدّيات، فتقول: “واجهت تساؤلات متكرّرة حول كوني امرأة، وصغيرة في السنّ، لكنّ هذا لم يثنني، بل زاد من عزيمتي لأُثبت أنّني، ككلّ شابة، أستطيع أن أُحدث فرقًا حقيقيًّا”.
بديهيّات وأولويّات
من بلدة صغبين، تشارك دنيز السمرا، وهي مهندسة ديكور وأمّ لثلاثة أطفال، في الانتخابات البلديّة لأوّل مرّة، حاملةً معها روحًا إصلاحيّة وإيمانًا راسخًا بدور الشباب في النهوض من الواقع المتردّي. تقول لـ “مناطق نت”: “أنا من الناس الذين لا يرضون بالتفرج على الأخطاء. لا أحبّ أن أنتقد فقط، بل أريد أن أكون جزءًا من الحلّ”.
تؤمن دنيز بأنّ مشاركة الشباب تُحدث فرقًا حقيقيًّا في العمل البلديّ، لأنّهم – على حدّ قولها– لا يتعاطون مع البلديّات بعقليّة الزبائنيّة، بل من منطلق الخدمة والتطوير. وتشير إلى أنّ أولويّاتها تبدأ بالبديهيّات: “الصرف الصحّيّ والإنارة وإدارة النفايات. هذه أبسط حقوق المواطنين لكنّها غير متوافرة”.
وتضيف: “رؤيتي كمهندسة تجعلني أفكّر في تحسين الفضاء العام للبلدة، من الأرصفة إلى الحدائق، لجعل الحياة أكثر جودة”. وترى كذلك ضرورة إشراك الشباب في ورش العمل وتدريبات تعزّز مهاراتهم، إلى جانب إطلاق حملات بيئيّة وتوعويّة يقودها جيلها.

وتختم حديثها بتأكيد أهمّيّة النزول من خلف الشاشات إلى الميدان “فهناك آلاف من الشباب ينتقدون الوضع عبر وسائل التواصل، لكنّ التغيير لا يأتي من المنشورات فقط، بل من الانخراط الفعليّ. إذا لم نتحرّك نحن، فمن سيتحرّك؟.”
في موازاة ذلك، يرى البعض أنّ الإقبال الشبابيّ على الترشّح لا يُقابله دائمًا حماسة من الناخبين للمشاركة، لا سيّما بعد سنوات من الإحباط والانهيار الاقتصاديّ. إلّا أنّ الناشطة الحقوقيّة وخبيرة الحوكمة جوزفين زغيب ترى في هذه الانتخابات فرصة ثمينة لخلق ديناميّة جديدة على المستوى المحلّيّ. وفي حديثها لـ “مناطق نت” تقول إنّ “الشباب يشكّلون اليوم نواة حراك مدنيّ واعٍ، وإذا نجحوا في الوصول إلى المجالس البلديّة، يمكن أن يبدأ التغيير الحقيقيّ من القاعدة”.
وتضيف زغيب “التجربة أثبتت أنّ المجالس البلديّة، على رغم ضعف إمكاناتها، قادرة على تقديم نموذج فعّال إذا توافرت الإرادة السياسيّة والإدارة الشفّافة”. وتشدّد على أهمّيّة التوعية بضرورة المشاركة في الانتخابات، مشيرة إلى أنّ “المقاطعة لا تغيّر شيئًا، بل تعزز بقاء الفاسدين”، ودعت الشباب إلى الاقتراع بكثافة واختيار البرامج وليس الأسماء فقط.
جيل يواكب فرصته
ما يجمع بين إيلي وسيلفي ودونيس ليس أعمارهم المتقاربة وحسب، بل رؤيتهم المتشابهة لوظيفة المجلس البلديّ كإدارة محلّيّة لخدمة الناس، لا سلطة للتحكّم بهم. هم نموذج لجيل يرى أنّ التغيير يبدأ من القاعدة، من البلدة، من الشارع، من النور في الزقاق.
إنّ ترشّحهم تعبير عن تحوّل جديد، رافض للفراغ واللامبالاة. إنّهم شباب لا يريدون إقصاءهم عن صناعة القرار، بل أن يكونوا شركاء حقيقيّين فيه. هذه الظاهرة تستحقّ التوقّف عندها،وتشجيعها وتقديم الدعم لها، لأنّها ربّما تكون المفتاح لتجديد الحياة العامّة. ففي بلد يُعيد تكرار أزماته، يطلّ جيل جديد بعقليّة جديدة… فليمنح فرصته.
“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع أصوات من الميدان: دعم الصحافة المستقلة في لبنان”.