الأمن الغذائي
هنا لبنان… البلد “المقطوع” من كل شيء. بنزين، مازوت، كهرباء، أدوية، والانترنت على الطريق. وقائمة “المقطوع” تطول. يقولون «الكهرباء حياة». لكن انقطاع الكهرباء في لبنان يكون بشكل شبه دائم، وهذا يعني أننا خارج الحياة. الحصول على ساعتين كهرباء دولة يومياً والذي يترافق مع إطفاء المولدات الخاصة لفترات طويلة بسبب شح المازوت، يؤدي إلى فساد وتلف الكثير من الأطعمة والمأكولات في برادات اللبنانيين، والتي تحوّلت إلى هياكل معدنية فاترة خاوية تفتقد البرودة والثلج.
يُعتبر التسمم الغذائي الناتج عن فساد الأطعمة والمأكولات والذي بتنا نسمع قصص عنه بشكل شبه يوميّ، هو أحدث مظاهر الانهيار. أزمة الكهرباء وصلت إلى أمننا الغذائي السّيء أساسًا. فمع استمرار التيار الكهربائي بالانقطاع لساعات طويلة، وتوقف البرادات عن العمل، تتعرض الكثير من المأكولات للتلف وتصبح خارج الصلاحية.
حالات التسمم الغذائي تتكرر..
عوارض غير عادية ظهرت على «علي» بعد تناوله سندويشاً من أحد المطاعم. بين تعرّق وإسهال وحرارة مرتفعة، شعر علي بأنه ليس على ما يرام. توجّه إلى المستشفى ليتبين بأنه تعرض لتسمم نتيجة تناوله غذاءً فاسداً.
علي واحد من كثيرين تعرّضوا لحالات تسمم في الآونة الأخيرة. إذ أن هذه النتيجة حتمية في ظلّ انقطاع الكهرباء في لبنان بشكل كبير كما مولدات الاشتراك، والتي تؤدي إلى توقف البرادات لساعات طويلة عن العمل، وبالتالي إلى فساد الكثير من الأطعمة لا سيما اللحوم والدجاج على أنواعها.
تتجنّب “إيمان”، التي عادت مؤخرًا إلى لبنان لقضاء العطلة الصيفية مع عائلتها، تناول الطعام خارج المنزل. فبعد أن أُصيبت صديقتها بالتسمم وأُدخلت المستشفى عقب تناولها طعاماً فاسداً في أحد المطاعم “الفاخرة”. شعرت بقلق شديد بسبب تكرار حالات التسمم الناتجة عن الطعام الفاسد والذي تسمع بها من أصدقائها.
تقول إيمان “قصدت منذ أيام عدة أحد المنتجعات لتمضية نهار كامل فيها. إلا أنني عدت باكرًا لتناول الطعام في المنزل بسبب خوفي على أولادي من التسمم الغذائي”. وأعربت إيمان عن قلقها من انقطاع الكهرباء في لبنان بشكل مستمر، الأمر الذي يجعل قدرة الحفاظ على سلامة الأطعمة خارج السيطرة.
القطاع السياحي في لبنان يتهاوى
مع بدء الانهيار الاقتصادي ودخول جائحة كورونا وما رافقهما من إجراءات وإقفال للمطاعم والمقاهي، تأثر القطاع السياحي بشكل كبير. ولحقت به خسائر فادحة أدّت إلى إقفال العديد من المرافق السياحية الحيوية. حيث جاء قرار وزارة السياحة بمنع غير الملقحين من الدخول إلى المطاعم والفنادق الذي صدر مؤخرًا، ليصبّ الزيت على نار قطاع يتهاوى شيئًا فشيئًا.
مع انقطاع الكهرباء في لبنان بشكل مستمر، زادت أوضاع القطاع سوءاً، وزادت الأعباء التي عليه أن يتحملها وفي مقدمها تأمين مادة المازوت لزوم المولدات، وهو ما انعكس ارتفاعاً جنونياً في أسعار المطاعم، حيث باتت خارج قدرة قسم كبير من اللبنانيين للدخول إليها. المعضلة تكمن في المطاعم الصغيرة التي لا قدرة لها على تأمين مولدات كهربائية ومستلزماتها من مازوت وغيرها، فتلجأ إلى الاشتراك الذي يمارس تقنيناً قاسياً على المشتركين بحجة فقدان مادة المازوت أو ارتفاع أسعاره.
انقطاع الكهرباء عن المطاعم وخصوصاً الصغيرة منها، ولفترات طويلة يشكل خطراً على الأطعمة الموجودة في البرادات والتي تحتاج إلى تبريد بشكل متواصل وإلا فسُدت وهذا ما يحصل الآن في الكثير من المطاعم، التي يلجأ أصحابها وللتخفيف من الخسائر إلى الاستمرار ببيع تلك الأطعمة للزبائن وهو ما يؤدي إلى حالات تسمم يومية نشهد فصولها تباعاً.
إضافة إلى ذلك، وفي ظلّ الغلاء الفاحش في الأسعار، وخاصة اللحوم، يلجأ العديد من أصحاب المطاعم إلى شراء لحوم بنوعية أقل جودة. هذه اللحوم معرضة لأن تفسد بشكل أسرع من تلك التي جرى حفظها بشكل جيّد بحيث لا تتأثر سريعًا بغياب التبريد.
برادات اللبنانيين.. نمليات
انقطاع الكهرباء في لبنان عن برادات اللبنانيين، لم تتأثر به المطاعم وحدها. معظم البيوت في المناطق التي تشهد انقطاعاً مستمراً للكهرباء وهي الغالبية العظمى من المناطق، يشتكي أصحابها من أن جميع الأطعمة المثلجة الموجودة في براداتهم قد أُتلفت.
تقول لبنى إن والدتها اعتادت شراء الخضار والحبوب واللحوم والدجاج و«تفريزها» أي حفظها في الثلاجة، تستعملها عند الحاجة. ومع الانقطاع المستمر للكهرباء تقول لبنى إن جميع الأغراض فسُدت وأصابها التلف واضطررنا إلى التخلص منها، وهذا أدى إلى خسائر كبيرة لناحية كلفتها والوقت الذي استغرقه حفظها.
من جهتها تقول رباب إن برادها أصبح أشبه بالنملية، وقد سارعت إلى سحب الأطعمة المثلجة داخله وطبخها قبل أن تفسد.
الحذر في شراء الأطعمة التي تحتاج إى برودة وتثليج هو ما يتشدد به المواطن هذه الأيام جرّاء انقطاع الكهرباء في لبنان.
المأكولات الأكثر عرضة للتلف
تُعتبر سلامة الغذاء في خطر بحال توقف عنها التبريد وهذا ما يحصل الآن في ظل انقطاع الكهرباء في لبنان بشكل متكرر. ففي حين تُحفظ المأكولات في البرادات على درجة حرارة أقل من 4، يكمن الخطر في انقطاع الكهرباء وتغير درجة الحرارة عن الأربعة. تقول ندى نعمة، نائب رئيس جمعية حماية المستهلك، إن “البكتيريا لا تموت عند درجات الحرارة المنخفضة بل يتوقف نموها فحسب. وبالتالي فإن تغيّر درجة الحرارة وتبدّلها من حين لآخر يوقظ تلك البكتيريا النائمة”.
في الوقت الحالي، تشجّع نعمة على الابتعاد عن المأكولات المثلّجة. والتركيز على المأكولات مثل الفاصوليا والباميا والحبوب التي يمكن أن نيبّسها دون الاستعانة بالبرادات.
وتحذّر نعمة من الانتباه للحوم والسمك والألبان والأجبان التي تعتبر أكثر عرضة للتلف. وقد تسبب تسممًا بشكل أساسي، وتضيف “الخضار قد تسبب تسممًا إلا أنها ليست بخطورة اللحوم ومشتقات الحليب. ومن الضروري اليوم أن يتجنب الأهل شراء المثلجات لأولادهم من المحلات التي تكون قد تعرضت لدرجات حرارة مختلفة وبالتالي تعتبر شديدة الخطورة”.
وتشدد نعمة على ضرورة اعتماد خطوتين، الأولى بالنسبة للمستهلك الذي يجب أن يتفقد المواد بعد ذوبان الثلج عنها ليتأكد من أنها ما زالت سليمة. والثانية بالنسبة للمستوردين الذين يشترون بضاعة مثلّجة ويحتفظون بها في المخازن بحيث يجب أن يوفروا لها كهرباء على مدى 24 ساعة وأن يستمروا بمراقبتها. إضافة إلى ضرورة ضبط تلك البضاعة عند نقلها إلى السوبرماركت.
زمن المونة والبركة
باتت “أم علي” اليوم تشتري الطعام بشكل يكفي ليوم واحد فقط تجنّبًا لتلفه. تقول “في السابق كان الأهل يعتمدون على الطبخ اليومي، لم يكن استهلاك اللحوم كما هو عليه اليوم، حيث كان اللحام يذبح مرة واحدة في الأسبوع. وقد كانوا يعتمدون بشكل أساسي على المونة وعلى مواد لا تحتاج إلى تبريد”. وتشير “أم علي” إلى أن الخضار والعدس والرز والبرغل كانت وجبات أساسية على الموائد خاصة عند سكان القرى. حيث كان عدد كبير منهم لا يملك مالًا كافيًا لشراء البرادات فيتجنب شراء اللحوم.
وتضيف أم علي “لا ضير في العودة إلى تلك الأيام، فقد كانت أيام خير وبركة. كان الناس يأكلون مما تزرعه وتجنيه أيديهم. أما الآن فهذا الجيل يعتمد على الأكل الجاهز وعلى المطاعم التي لا نعلم متى وكيف يتم إعداد الأكل فيها”.
يبدو أن فساد أطعمة اللبنانيين مرتبط ارتباط وثيق بفساد السلطة، فلولا فساد الأخيرة لما فسُدت الأولى، ولولا انقطاع الكهرباء في لبنان، والتي استنزفت الخزينة واستهلكت ثلث الدين العام، لكان وضع المالية أفضل قليلاً. لكن وبالرغم من ذلك ليس لدينا كهرباء لكي تبقي البرودة في برادات اللبنانيين وتحفظ مأكولاتهم وأطعمتهم.
تلف وفساد أطعمة ومأكولات اللبنانيين نتيجة غياب الكهرباء عن براداتهم، سيؤدي إلى خطر أكبر يتعلّق بالأمن الغذائي برمته،.والذي تعتمد الصناعات الغذائية فيه إلى الكهرباء بشكل أساسي، فهل دخلنا في مرحلة نطلق عليها «أمننا الغذائي في خطر».