بطاقة “الشؤون” لذوي الإعاقة فاقدة الصلاحية في المستشفيات

في بلد تُنتهك فيه أبسط حقوق الإنسان، يعيش الأشخاص من ذوي الإعاقة واقعًا قاسيًا مليئًا بالتحدّيات اليوميّة. يُنظر إليهم غالبًا كأنّهم عبء، يُنتظر منهم أداء الواجبات، بينما تُسلب منهم حقوقهم الأساسيّة في العيش الكريم والرعاية المتخصّصة. القصة الآتية ما هي إلّا نموذجًا بسيطًا لما يواجهه ذوو الإعاقة في لبنان.

فاديا موسى، امرأة ستّينيّة من بلدة عيترون الجنوبيّة، وتقطن في بلدة بعورتا في قضاء عاليه، تعاني من إعاقة ذهنيّة منذ الولادة. في ليلة رأس السنة، أصيبت بانفجار في أحد شرايين رأسها، تبعه نزيف داخليّ خطير. تمّ نقلها على وجه السرعة إلى أقرب مستشفى في الجبل، في وقتٍ كان فيه عناصر الصليب الأحمر في حال استنفار بسبب احتفالات العيد، ما أدّى إلى تأخّر وصول سيّارة الإسعاف.

وصلت فاديا إلى المستشفى القريب، والذي لم يكن مجهّزًا للتعامل مع حالتها الحرجة. تُركت في قسم الطوارئ لأكثر من أربع ساعات، تصارع الموت بصمت، غير قادرة على فهم ما يجري حولها أو التعبير عن ألمها، كما هي حالها في حياتها اليوميّة. وبعد سلسلة من الاتّصالات والجهود، أوصى طبيب الطوارئ بضرورة نقلها إلى أحد المستشفيات الكبرى في بيروت، حيث يمكن التعامل مع وضعها الصحّيّ الدقيق.

المستشفيات: معك تدفع؟

بكلّ احترام ومحبّة، حاولت عائلة فاديا التواصل مع عدد كبير من المستشفيات، شارحين حالتها الصحّيّة الطارئة. لكنّ الردّ جاء موحّدًا تقريبًا، من أكثر من عشرة مستشفيات موزّعة على مختلف المناطق اللبنانيّة: “المستشفى ممتلئ، ولا يمكننا استقبالها”. وعندما أشارت العائلة إلى أنّ فاديا تحمل بطاقة معوّق صادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعيّة، جاء الردّ الصادم: “البطاقة ما بتنفع بهيك حالات.” وكان الردّ الأكثر قسوة قد صدر عن إحدى المستشفيات: “عفوًا، عارف قدّيه ممكن تكلّف المريضة؟ معك تدفع؟”.

بطاقة صادرة وزارة الشؤون الاجتماعية لفاديا موسى، من ذوي الاحتياجات الخاصة

لم تيأس شقيقتها، وواصلت المحاولة بإصرار، مكرّرة أنّ فاديا بحاجة إلى دخول مستشفى مجهّز بحكم حالتها الحرجة. إلّا أنّ الأجوبة بقيت على حالها: الرفض، الإهمال، التجاهل. ومع مرور الوقت وتدهور حالتها، لم تجد العائلة وسيلة سوى اللجوء إلى “الواسطة”، وبدأت في التهديد بكشف القضيّة عبر الإعلام.

لكن حتّى هذا التهديد لم يُحرّك ساكنًا. فالجواب بقي على حاله: لا أسرّة شاغرة، ولا من أطبّاء متخصّصين متوافرين. وكانت ذروة الاستخفاف حين ردّت إحدى عاملات الهاتف في مستشفى مرموق قائلة: “الليلة رأس السنة، كلّ عام وأنت بخير.”

3 آلاف دولار سلف

وبعد جهود مضنية واللجوء إلى الواسطة، تمكنّت العائلة أخيرًا من تأمين سرير لفاديا في أحد المستشفيات. لكن حتّى في لحظة الطوارئ، لم يكن هناك استثناء: قبل إدخال المريضة، طُلب تسديد ما أمكن من المبلغ المطلوب، إذ قُدّرت العمليّة بأكثر من ثلاثة آلاف دولار.

بعد ستّ ساعات من الانتظار وما بين الحياة والموت، أُدخلت فاديا إلى المستشفى، بينما كانت عائلتها تركض لجمع المبلغ بأيّ وسيلة، إذ تمّ دفعه مباشرة حتّى قبل إجراء أيّ فحوص أوّليّة، وقيل لهم بصراحة باردة: “المبلغ المسدَّد هو فقط تحت الحساب، ولا أحد يعلم كم ستكلّف المريضة لاحقًا.” هكذا قال موظّف المحاسبة من دون اكتراث، وكأنّ من أمامه ليست عائلة ملهوفة على ابنتها، بل مجرّد رقم ماليّ على ورقة.

قضت فاديا ليلة رأس السنة في غرفة العناية، مع أفراد عائلتها المرهقين، بعد أن نجوا من “موت معلَّق” بفضل واسطة. ولولا تلك الواسطة، لربّما أُضيف اسم فاديا إلى لائحة من غادروا الحياة وهم ينتظرون فقط، الحقّ في الدخول للمستشفى

عائلة فاديا، النازحة من الجنوب، والتي عاشت أهوال الحرب والقصف، وجدت نفسها مجدّدًا أمام معركة أخرى، هذه المرّة على أبواب المستشفيات.

موت معلّق على واسطة

قضت فاديا ليلة رأس السنة في غرفة العناية، مع أفراد عائلتها المرهقين، بعد أن نجوا من “موت معلَّق” بفضل واسطة. ولولا تلك الواسطة، لربّما أُضيف اسم فاديا إلى لائحة من غادروا الحياة وهم ينتظرون فقط، الحقّ في الدخول للمستشفى. مع مرور الأيّام في المستشفى وبعد تدخّل أكثر من واسطة “والتوسّل” هنا وهناك، وتدخّل أحد الأحزاب تمّ دفع قسم كبير من المبلغ وإغلاق ملفها، بينما بقيت بطاقة الشؤون الاجتماعيّة حبرًا على ورق لا أكثر ولا أقلّ.

في حديث  إلى “مناطق نت”، شدّدت رئيسة الاتّحاد اللبنانيّ للأشخاص المعوّقين حركيًّا، سيلفانا اللقيس، على أنّ قرار وزارة الصحّة القاضي بتأمين الطبابة والاستشفاء للأشخاص ذوي الإعاقة كان يجب أن يُطبَّق منذ سنوات، استنادًا إلى القانون 220/2000.

وأكّدت أنّ “حقّ الأشخاص المعوّقين في الاستشفاء المجّانيّ بنسبة 100في المئة ليس منّة أو تفضيلًا، بل لأنّه تمّ إقصاؤهم تاريخيًّا من سوق العمل، ولم تتح لهم فرص متكافئة لكسب الدخل أو الاستفادة من التقديمات الاجتماعيّة، ما يجعل هذا الحقّ ضرورة لا ترفًا”.

وتابعت اللقيس: “مع إعادة تفعيل هذا القرار، يجب على الأشخاص المعوّقين أن يتحرّكوا ويطالبوا بحقوقهم، وأن يُبلّغوا فورًا في حال تمنّع أيّ مستشفى عن استقبالهم أو رُفضت بطاقة الإعاقة.”

وأعربت عن أملها في احترام القانون من قبل المستشفيات جميعها. مشدّدة على أنّ أيّ مخالفة لن تمرّ، وأنّ الاتّحاد سيتابع هذه الانتهاكات قانونيًّا. كذلك دعت إلى التبليغ الفوريّ عن أيّ حال رفض، سواء لوزارة الصحّة العامّة أو وزارة الشؤون الاجتماعيّة، أو إلى الاتّحاد اللبنانيّ أو أيّ منظّمة تُعنى بحقوق الأشخاص المعوّقين.

الحلو: هناك بعض الحالات الطبّيّة التي لا تقع ضمن التغطية المباشرة لوزارة الصحّة، إلّا أنّ ذلك لا يُعفي المستشفيات من واجبها الإنسانيّ والأخلاقيّ في استقبال المرضى وتقديم العناية اللازمة لهم

تلفت اللقيس إلى أنّ “ما يقارب الـ 15 في المئة من سكّان لبنان هم من الأشخاص المعوّقين، وإذا أضفنا إليهم حوالي 45 في المئة من من هم فوق سن الـ 60 ويعانون من أحد أشكال الإعاقة، فإنّنا نتحدّث عمّا يقارب ثلثيّ المجتمع اللبنانيّ بحاجة إلى رعاية صحّيّة دائمة.

وتضيف: “في بلد ترتفع فيه نسب الإعاقة إلى هذا الحدّ، لا يمكن القبول بعدم استقبالهم في المستشفيات أو سماع عبارات من قبيل ما في مكان.”

وزارتا الشؤون الاجتماعيّة والصحّة

لاستيضاح رأي وزارة الشؤون الاجتماعيّة، الجهة التي تُصدر بطاقات المعوّقين، تواصلت “مناطق نت” مع الجهة المعنيّة فأفادت مصادر هناك أن وزارة الشؤون تُصدر البطاقة فقط، أمّا أمور متابعتها، فهي من ضمن مهام وزارة الصحّة.

من جهته يوضح مدير العناية الطبّيّة في وزارة الصحّة العامّة الدكتور جوزيف الحلو في حديث لـ”مناطق نت” أنّ القرار الصادر أخيرًا عن وزارة الصحّة، والمتعلّق باستقبال حاملي بطاقات الإعاقة، ليس قرارًا جديدًا، بل يعود أساسًا إلى قانون العام 2000. ويشير إلى أنّ بطاقة الإعاقة الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعيّة تُستخدم لتغطية الفروق الماليّة التي تتحمّلها وزارة الصحّة في الاستشفاء، إذ تغطّي الوزارة نحو 65 في المئة من كلف العلاج في المستشفيات الخاصّة، و80 في المئة  في المستشفيات الحكوميّة، على أن تُغطّي البطاقة ما تبقّى.

ويؤكّد الحلو أنّ هناك “بعض الحالات الطبّيّة التي لا تقع ضمن التغطية المباشرة لوزارة الصحّة، إلّا أنّ ذلك لا يُعفي المستشفيات من واجبها الإنسانيّ والأخلاقيّ في استقبال المرضى وتقديم العناية اللازمة لهم”.
ويوضح أنّ “التعامل مع بعض الحالات يخضع لإمكانات الدولة والموازنة المخصّصة لهذا القطاع”، مشددًا على ضرورة تطوير النظام لضمان شموليّة التغطية.

وتمنّى الحلو أن تُصبح التغطية الاستشفائيّة أكثر شمولًا، لافتًا إلى أنّ موازنة وزارة الصحّة السنويّة لا تتجاوز 220 مليون دولار، وهي موازنة غير كافية بأيّ حال من الأحوال لتلبية الاحتياجات الصحّيّة المتزايدة والمتنوّعة في لبنان.

معاناة مستمرّة

ليست قضيّة فاديا الأولى ولن تكون الأخيرة. فالمعاناة لا تقتصر عليها وحدها، بل تمتدّ إلى شقيقها علي، أحد المصابين خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة، والذي يحمل بدوره بطاقة إعاقة صادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعيّة. وعلى رغم ذلك، نادرًا ما استطاع الاستفادة منها. على مدى سنوات، اصطدم علي بجدران المماطلة والتمييز في أكثر من مستشفى، حيث كان يُعامل كعبء لا كمريض له الحقّ في الرعاية.

في مرّات كثيرة، كان يُضطرّ إلى الاستدانة لتفادي انتظار طويل أو إهمال متعمّد، وبخاصّة عندما يعلم طاقم المستشفى أنّ علاجه سيكون على نفقة وزارة الصحّة أو الشؤون الاجتماعيّة.

ما جرى مع فاديا موسى ليس حالة فرديّة، بل هو مرآة لواقع مرير يعيشه آلاف الأشخاص ذوي الإعاقة في لبنان، إذ يُحرمون من أبسط حقوقهم في العلاج والكرامة، ويُتركون لمصير تحدّده “الواسطة” أو “القدرة على الدفع”.

في بلدٍ أنهكته الأزمات، يصبح المرض ترفًا، والنجاة من الموت امتيازًا. بين القوانين الغائبة أو غير المُطبّقة، والمستشفيات التي تُدار بمنطق السوق لا الخدمة، يقف الإنسان المعوّق وحيدًا، محاصرًا بالعجز من كلّ الجهات: عجز الجسد، وعجز الدولة، وعجز الضمير العام.

“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع أصوات من الميدان: دعم الصحافة المستقلة في لبنان”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى