بعد غياب 50 عامًا هل تعيد سينما ريفولي إضاءة شاشتها وذاكرة روّادها؟
اعتَقدتْ للوهلة الأولى أنّ الأمر مجرّد مزحة، لكن بعد سماعها أنّ الخبر بات حقيقة، وأنّ سينما “ريفولي” في ريّاق ستعاود فتح أبوابها من جديد، عادت جدّتي نهاد المكحل “أم زهير” إلى أكثر من 60 عامًا من الزمن إلى الوراء، لتروي ذكرياتها مع بدايات حبّها الأول، قاطع التذاكر في شبّاك السينما الخارجيّ المطلّ على الشارع العامّ آنذاك، جدّي ديب سنديان أبو زهير.
تروي جدّتي كيف شاهدت أوّل فيلم لها خلال فترة خطوبتها، حين دعاها جدي أبو زهير إلى حضور فيلم هنديّ ليعبّر لها عن حبّه. تقول لـ”مناطق نت”: “كانت التذكرة بنحو 60 قرشًا، لكنّ جدّك كان له سعر خاص من أصحاب السينما جان شبابي وأخيه وأحيانًا كان يحضر ببلاش، لأنّه كان يعمل على قطع التذاكر، أذكر جيّدًا كيف كانت صالة السينما في كلّ فيلم تمتلئ بالدموع، وتتجمهر الناس في ريّاق مع إعلان عرض أيّ فيلم في إحدى صالات السينما الأربع، التي كانت في حينه موجودة في بلدة رياق”.
ليست قصّة جدّتي التي مضى عليها أكثر من ستّين عامًا، الوحيدة التي تتعلّق بذكريات سينما “ريفولي” في رياق، والتي استمرّت بعروضها حتى أطفأتها نيران الحرب الأهليّة في العام 1975، بل هناك عشرات القصص رويت لأحد أقرباء مالكي “ريڤولي” جان ويعقوب شبابي، هو إلياس شبابي، وذلك فور الإعلان عن نيّته إعادة ترميم السينما وافتتاحها من جديد.
أم زهير: كانت التذكرة بنحو 60 قرشًا، أذكر جيّدًا كيف كانت صالة السينما في كلّ فيلم تمتلئ بالدموع، وتتجمهر الناس في ريّاق مع إعلان عرض أيّ فيلم في إحدى صالات السينما الأربع، التي كانت في حينه موجودة في بلدة رياق
الـ “ريڤولي” عصر ريّاق الذهبيّ
لعبت السينما في ريّاق دورًا بارزًا في النشاط الثقافيّ في البقاع، وذلك يعود للمركز الهامّ الذي شكّلته البلدة، بسبب وجود محطّة القطار الأساسيّة فيها ومصنع الـ”أوتو ليان” لتصليح القطارات، ما جعل منها مركزًا اقتصاديًّا وتجاريًّا كبيرًا، منذ الأربعينيّات، فوفد العمّال إليها من المناطق اللبنانيّة جميعها وأصبحت مركزًا تعليميًّا مهمًّا خارج مدينة زحلة، حيث اعتبرت نسبة المثقّفين فيها الأعلى بين بلدات البقاع.
كما نشطت الحركة الثقافيّة والرياضيّة، فافتتحت فيها دُور السينما الحديثة، منها سينما “روكسي” وسينما “أنستي” لصاحبها من آل اليوناني وسينما “سلوفي” للسيّد فؤاد خيرالله وسينما “دنيا” لأصحابها سابا وأرصوني، و”سينما ريفولي” لأصحابها جان ويعقوب شبابي وسينما “بيبلوس” لآل معكرون.
يقول الياس شبابي في أثناء تفقده ورشة ترميم السينما لـ”مناطق نت”: “تُعتبر سينما ريڤولي واحدة من دور السينما التي كانت موجودة في الستينيّات في ريّاق، وهي عبارة عن طابقين تتّسع لنحو 400 شخص، حيث بناها الأخوان جان ويعقوب شبابي اللذان ذاع صيتهما في القرية والقرى المجاورة، حيث أنشأوا هذا الصرح السينمائيّ لأن ريّاق كانت وجهة للمشاريع الناشئة وتستوعب دور سينما ومؤسسات اقتصادية”.
يتابع “بدأ تشييد سينما ريڤولي في العام 1958، وتمّ أول عرض سينمائي فيها سنة 1961، حيث كانت تشتري الأفلام بمبالغ باهظة لعرضها في الصالة، منها الأفلام الهنديّة، في حال كان الموسم ضعيفًا، ومنها المصريّة والأجنبيّة في حال كان الموسم جيدًا”.
تفاجأ عديد من الأشخاص بفكرة إعادة افتتاح السينما، إذ كانت بالنسبة إليهم المتنفس الوحيد في ريّاق وضواحيها في ما مضى، وهي مصنع ذكريات غالبيّة البقاعيّين، ممّن أصبحوا اليوم أجدادًا وجدّات، يروون لأحفادهم ما تبقّى من ذكرياتهم عالقة في عالم السينما وحولها.
ذكريات من نصف قرن
لم تكن الجدّة أم زهير هي الوحيدة التي تخبّئ في جعبتها ذكرياتها عن سينما “ريڤولي”، بل ثمّة كثيرون لهم ذكريات تحت شاشتها، منهم أكرم عقيص 65 عامًا، وهو أحد أبناء شقيقة جان ويعقوب شبابي، فيعود إلى أيام طفولته عندما كان عمره 13 عامًا ليروي لـ”مناطق نت” ذكريات يوم السبت في السينما، موعد حضور فيلمه المفضّل.
يقول: “كنّا كل يوم سبت نذهب أنا وأولاد خالي إلى السينما ونحضر فيلم مع العائلة، فقط في أيّام الصيف، ثمّ نعود ونجتمع جميعًا في منزل أخوالي، إذ كانت دور السينما تفتح في مواسم الربيع والصيف بمواعيد محدّدة، عند الرابعة والسابعة مساءً، وتغلق شتاءً بسبب البرد القارص، وبدء المدارس، خصوصًا في ريّاق المعروفة ببرودتها الشديدة وقلّة العمل في الشتاء”.
الياس شبابي: بدأ تشييد سينما ريڤولي في العام 1958، وتمّ أول عرض سينمائي فيها سنة 1961، حيث كانت تشتري الأفلام بمبالغ باهظة لعرضها في الصالة، منها الأفلام الهنديّة، في حال كان الموسم ضعيفًا، ومنها المصريّة والأجنبيّة في حال كان الموسم جيدًا
يضيف: “كانت سينما ريڤولي في ريّاق تعرض الأفلام نفسها المعروضة في سينما ريڤولي الشهيرة في ساحة البرج في بيروت، وفي التوقيت نفسه أيضًا، وذلك في أواخر الستينيّات ومطلع السبعينيّات، كانت تعرض فيها أهمّ الأفلام، أذكر منها فيلم The Sound of Music 1965، وأفلام الكاوبوي، والأفلام التاريخيّة، أذكر تلك الأيام والشارع المقابل للسينما حيث كان يتجمهر الناس أمام المقاهي والمطاعم المكتظة التي كانت منتشرة حولها، وكانت هناك أفلام خاصّة للمدارس”.
ويشير إلى أنّ “ستّا من دور سينما كانت في رياق، ثلاثة اندثرت بعد زوال الاحتلال الفرنسيّ، ومنها ما بقي كبناء فقط حتّى يومنا هذا، وهي ريڤولي، دنيا، وبيبلوس”.
ترميم بأكلاف عالية
بعد إغلاقها تحوّلت “ريفولي” إلى نادٍ رياضيّ اُستثمر من قبل أشخاص من بلدة علي النهريّ الملاصقة لريّاق، لتصبح عبارة عن بناء مهجور، خالٍ من أيّ كراسٍ، وحتّى آلات العرض التراثيّة اختفت من الصالة، لتزداد سوءًا ممّا كانت عليه، ولم يبقَ إلّا المسرح المختزن لذكريات متبقيّة في أذهان من زاروا الصالة يومًا من الأيام الغابرة”.
كانت زيارة العائلة المقيمة في المهجر صيف 2023 إلى أقاربهم في رياق، بداية انطلاق المشروع في محاولة لاسترجاع العقار والاستفادة منه، عبر إيجاد صيغة معيّنة تعيد إحياءه فيكون في المستقبل مشروعًا جديدًا يتمثّل بعودة دور السينما التي كانت فسحة حقيقيّة وشريانًا اقتصاديًّا في لبنان، قبل الحرب الأهليّة”.
في داخل السينما المكوّنة من طابقين، يجول الياس شبابي متفقدًا هيكل البناء، يعرفنا إلى السينما من الداخل ويروي ذكريات أجداده. يقول: “إنّ فكرة التمويل لا تزال عثرة متبقيّة لعودة إحياء ذكريات أبناء ريّاق وأمجاد الماضي القديم”.
ويتابع: “للأسف يوجد تدمير شامل للسينما، لكن الهيكليّة لا تزال موجودة، كان أول عرض لها في العام 1961 بضخامتها وبهذا الإنجاز الرائع كسينما، اليوم عمليًّا عندما نريد إعادة إحياء هذه السينما هناك أكلاف كبيرة جدًّا، ونحن نحاول تأمين التمويل من خلال عدّة قنوات”.
بعد إغلاقها تحوّلت “ريفولي” إلى نادٍ رياضيّ اُستثمر من قبل أشخاص من بلدة علي النهريّ الملاصقة لريّاق، لتصبح عبارة عن بناء مهجور، خالٍ من أيّ كراسٍ، وحتّى آلات العرض التراثيّة اختفت من الصالة
مسرح للتلامذة والسياسة
ويضيف: “الفكرة عبارة عن مرحلتين بسبب مشاكل التمويل، الأولى هي عمليّة تأهيل البناء، وعودة سينما “ريڤولي” ليس كما كانت عليه سينما عاديّة، بل Cine Club أي أنّ مسرحها سوف يستقبل في الوقت نفسه عروضًا وندوات ثقافيّة، فضلًا عن استقطاب شباب لديهم برامج سياسيّة لخوض غمار السياسة، ناهيك بوجود حوالي خمسة آلاف تلميذ يدرسون في رياق، وبحدود 20 مدرسة بين رسميّة وخاصّة، بحسب ما قال لي رئيس بلدية ريّاق جان معكرون”.
ويكمل: “هذه المدارس لا يوجد فيها مسرح أو مكان للعروض، فهي قادرة على الاستفادة من هذا المكان، واستقطاب تلامذتها، باختصار إنّ الفكرة تستهدف غالبيّة الشرائح، وستستقبل السينما الأفكار السياسيّة والثقافيّة والتربويّة والفكريّة، وستغدو مع المسرح واحة ثقافيّة فكريّة للمنطقة”.
أمّا المرحلة الثانية، يتابع شبابي: “بناء مسرح مجهّز، إضافة إلى شاشات عرض سينمائيّة ضخمة، ومعدّات إلكترونيّة حديثة تضاهي دور السينما الحاليّة بحداثتها، وأماكن للاستراحة وتقديم الخدمات، فضلًا عن تجديد غرف الإسقاط، وترميم البلكون”.
لم تكن بلدة ريّاق وحدها من فقدت دور السنيما وافتقدت إلى أهمّيتها وذكرياتها الجميلة بعدما أفل نجمها، بل هناك قرابة 225صالة اختفت من لبنان واتّخذت هويّات ووظائف مغايرة، من سوبر ماركت ومقاه، إلى مرائب للسيّارات ومتاجر وغيرها، مسدلة الستارة على عهد ذهبي للفنّ السابع في لبنان، لطالما كان قطاعًا رئيسًا شكّل ركنًا من أركان الفنّ والثقافة والترفيه والمنابر السياسيّة في لبنان، ومرتعًا اقتصاديًا اعتاشت منه عائلات كثيرة، وهذا ما تحاول بلدة ريّاق استعادته اليوم إلى جانب استعادة مجدها السابق من أبواب وشاشات سينما ريفولي.